[كتب هذا النص بعد عودة الكاتب إلى بغداد في صيف ٢٠٠٣ لتصوير فلم وثائقي بعنوان "حول بغداد" About Baghdad. ونشر في ملحق النهار الثقافي. تعيد جدليّة نشره هنا بمناسبة إنسحاب القوات الأمريكيّة الرسمي من العراق]
بغداد...
كانت الشمس تتثاءب متعبة، كأنها تتردد في مد أشعتها لتوقظ العراق، خوفا مما سيأتي، أو يأساً من كوابيس اللية الماضية! البوابة الحدودية بين العراق والأردن في طريبيل ما زالت تحمل أثار الكابوس الطويل الذي أنهاه كابوس جديد اسمه الاحتلال: جدارية القائد وقد اختفى الفارس المغوار فيها خلف طبقة من الصبغ الأبيض. لكن، كم جيلاً سيهلك قبل أن نمحو ما تركته سنابك صدام في خرائط الروح والأرض من خراب؟ وكم جيلا لمحو ما سيخلفه العم سام الذي قدم له الفارس عراقاً على طبق من نفط؟
"مرحبا بكم في العراق، جمجمة العرب وكنز الأيمان". جمجمة؟ فرد مرة؟! تساءلتُ في سري. لكن لماذا أفاجا؟
نعم، فهذه لغة البعث العراقي التي نشأنا عليها وأُجبرنا على ابتلاعها لعقود، والتي ما زال بعض الإخوة العرب يتحسر على مفرداتها وأيامها وصحّافها!
عندما هجرتُ العراق بعيد حرب 1991عبر الطريق نفسها، كنت قد تركت "الجمهورية العراقية". اليوم أعود إلى "جمهورية العراق". فقد أمر القائد المغوار بتغيير الأسم الرسمي للعراق بعيد أم المعارك. طبعا، فمن العار أن تلتصق الأنوثة الواهنة بالعراق العظيم، كما كان يسمّيه! ومن الضروري التشبّث بالقضيبية الذكورية في لحظات الإخصاء العسكري!
"مرحباً بكم في العراق الحر". كانت إضافة جديدة.
أوّل من رحّب بنا في العراق الحر كان الجندي الأميركي سمبسون الذي كتب اسمه بالعربية بخط اليد على خوذته! Welcome to Iraq! قالها بلهجة ثقيلة. مشهد الدخول يلخص الكثير: سمبسون يرحّب بي في العراق.
حالما اقتربت السيارة من مبنى الجوازات، اندفع عراقيان بالملابس المدنية يطلبان منا مبلغاً، حدده كل منهما إعتباطيا، كضريبة للدخول! سألت سائقنا المتمرس بطريق عمّان - بغداد، فقال إنها البداية: لسّه ما شفت شي!
- جيب 5 آلاف، قال أحدهم.
- ليش؟ سأله سائقنا.
- ليش لأ؟ قالها ضاحكاً ثم ابتعد بعدما زجره سائقنا.
لم أكن يوماً من محبّي الحدود أو التفتيش، لكن وضع الحدود مهزلة والبلد مفتوح على مصاريعه، لا تفتيش ولا بطيخ! لا غرابة أن يكون الموسم عيداً للتجّار ورجال الأعمال العرب والأجانب. كنتُ سمعت إثنين منهم، بعد عودتي من بغداد، يخطّطان في مقهى في عاصمة عربية للصفقة المقبلة ويتحدّثان عن الربح الخرافي الذي يمكن جنيه من العراق الشقيق، وعن عدم وجود ضرائب جمركية.
كانت دولة العراق ساعة الدخول عبارة عن رجل يرتدي نعلاً وبنطلوناً رياضياً وقد وقف خارج مكتبه بسبب الحر القاتل الناجم عن انقطاع التيار الكهربائي. وقف يوقّع الجوازات بخط يده. كان الى جانبه جندي أميركي يشرف على العملية. حدّثني هذا الرجل عن الفوضى والفلتان وعن عدم قبض الرواتب وعدم وجود أي مساعدة من الأميركان أو من الوزارة الجديدة. "حچي، بس حچي!". وقال إن الدخول لكل من هب ودب وإن مهمته تنحصر في توقيع الجوازات التي يقول له الجندي أن يوقّعها!
بعد دخولنا أخذنا نصور الصحراء. مررنا بثلاثة جنود أميركيين كانوا يجلسون متكئين على مدرعة. صرخ بنا أحدهم وطلب منا أن نقفز. إقتربوا من السيارة وأخبرنا كبيرهم الذي كان يلوك شيئاً ما ويمسك بعصا غليظة، أن التصوير ممنوع هنا لأنها منطقة عسكرية. وطلب منا أن نعطيه الشريط. قلنا له إن زميله على الحدود كان قد قال لنا إن التصوير مسموح، فرد بتعجرف: إنه أحمق ولا يعرف شيئاً!
- أنا أقول لكم ألاّ تصوّروا! I`m saying: film no more!
تجادلنا معه وأقنعناه بأن نمحو ما صوّرناه في هذا الموقع وكان من الغباء بحيث لم يتأكّد من أننا فعلاً محونا كل شيء.
ربما كان يشعر بالملل!
بعد عودتي من العراق تصفّحت جوازي فلم أعثر على ختم أو على كلمة "العراق". كل ما وجدته هو: شوهد بالدخول - نقطة طريبيل وشوهد بالخروج - نقطة طريبيل.
نخلة الجيران
"هذا مو إنصاف منّك، غيبتك هلگد تطول، والناس لو تسألني عنّك، شرد أجاوبهم. شگول؟".
كل شيء يصرخ بالغياب والحنين. نخلة الجيران ذكّرتني بالسنين التي باعدتني عنها وعن بغداد. كانت سعفاتها تلوّح بحفيف تحرّكه ريح خفيفة، فيحرّض النخلة على العتاب: أين كنت ولماذا تعود الآن؟ أتذكر الساعات التي أمضيتَها وأنت تتفرّس فيّ؟ ما زلت أذكر بريق عينيك الطفلتين وأنت تشاهدني بشبق تحت المطر. وأذكر كيف كنت تراقب صاعود النخل وهو يتسلّقني معانقاً جذعي، ليكرّبني ويلقحني، كل عام! أدري أن حلاوة ما كنت تلتقطه حالما يتساقط من أعذاقي لا تزال في ذاكرة فمك بعد كل هذه السنين. وأنك بحثتَ كثيراً في غربتك عن طعم مشابه فلم تفلح! لكن، لا تخف، فأنا أعرف لِمَ رحلت ولِمَ تعود الآن. آه! كم كبر حزنك وكم كبر قلبك!
أحسست أن كل شيء منكسر ومتعب إلاّها. ما زالت شامخة تترفّع عن العابر من الأحداث. ربّما لأنها مقتنعة أكثر منّي بمنطق الفصول، مهما بدا عبثيّاً (وبعثيّاً)، وبحتميّة إيقاعها، مهما كان قاسياً. ربما لأنها اكتسبت حكمة من التراب الكهل الذي خبر الكثير من الموت والحروب في ما مضى.
قد يكون تغزّلي بالنخلة واستنطاقي إيّاها هروباً من الجحيم التي رأيتها. أو هو شرك من شراك اللغة والذاكرة والحنين.
لا إله لي لأهرب إليه، فهل تكونين إلها صامتاً حنوناً أيّتها السامقة البهيّة؟
ليس كل النخل في العراق مثل نخلة الجيران. العراقيون والنخيل: من يشبه من؟
البعض أحرقته النار وفحّمت سعفه مترجمة الأخضر إلى الأسود والرمادي. البعض انحنى أو احدودب ظهره، لكنه ما زال يحاول النهوض والوقوف. البعض انكسر وسقط يعانق التراب. البعض أُهمل وتُرك يموت عطشاً على قارعة الطريق. البعض كاد أن يُقتلع أو قُطع رأسه. الكثير ينوء بأثقاله وببقية أحلام يريد الآخرون قطفها رغم أنها شارفت اليباس!
ثلاثون مليون نخلة تقف على أديم العراق وستة وعشرون مليون عراقي وعراقية. كلّ يحلم برقعة صغيرة آمنة في البستان الكبير. ويا له من بستان ... مثقل بالضرائب والنوائب والأعارب والأجانب!
ديموقراطية شائكة
اختفت الكثير من المكعّبات الكونكريتيّة التي كان النظام يضعها أمام المباني الحكومية خوفاً من السيارات المفخّخة وتحسّباً من "أعداء الحزب والثورة". ترى هل نُهبت هي الأخرى؟
الجيش الأميركي يجيء من ثقافة تحب الطبيعة وتحرص على حملية البيئة. أو هكذا تظن! آه. تذكّرت اليورانيوم المستنفد الذي استعملوه في العراق والذي يستقر الآن في العظام والخلايا والمياه والتراب، والذي سيعلن عن استيطانه في إحصائيات السرطان وفي التشوهات الولادية في العقود المقبلة.
لكن هذا هو ثمن الحريّة الباهظ. وهذا موضوع شائك!
رأيت في بغداد نباتاً جديداً يزدهر ويتكاثر حيثما وجد الأميركيون. أغصانه تلتف حلزونيّاً كدوّامة وتتخلّلها أشواك حادة جارحة. نبات يصادر الأرصفة (مثلما كانت المكعبات تفعل) ويذكّر المارّة بفصاحة لا تدع مجالاً للجدال بالحدود وبالممنوع. رأيت الكثير منه يطوّق مبنى وزارة النفط وهو يحمي مستقبل العراقيين.
آه، كم هي شائكة هذه الديموقراطية!
الجواهري. . . عود على بدء
إتّحاد الأدباء والكتّاب، هو الآخر، كان محطّة توقّفت عندها حمّى الخراب، وترك عليه آثاره ذلك المغولي الداخلي الذي خلقه صدام وحروبه وأطعمه جوعاً العم سام وحصاره، فانطلق من قمقمه يعيث خراباً. أجهزة التكييف سرقت والملفّات تبعثرت ولم يبق الكثير من الصور والأعمال الفنيّة. لكن مبعث الأمل هو شباب الاتحاد الذين انتخبوا حديثاً والذين يمارسون عنقائية عراقية ويبدأون من جديد، برامج ونشاطات أسبوعية واعدة بطموحها وبرؤيتها (تقام ظهراً لأسباب أمنية) بحثاً عن عراق حر، ثقافيّا على الأقل، ويتّسع للجميع.
الجواهري الذي مات في الغربة التي غنّاها، عاد أخيراً ليحتل مكانه متوّجاً المدخل إلى القاعة الرئيسيّة في صورة يبدو فيها عنفوانه رغم الشيب. أوليس هو الذي قال: ومسنكر شيبا قبيل أوانه أقول له هذا غبار المعارك! هذا الموضع كان حكراً على صورة القائد ــ الضرورة، لكن أوثانه سقطت الآن وهو منهمك في التنكّر والتخفّي ليصنع النصر النهائي في أم الحواسم!
"أعمار الطغاة قصار". نعم، لكنها أطول بكثير مما يجب! ترى ماذا كان الجواهري سيقول اليوم لو كان حيّا؟ هذا هو السؤال الذي خطر في بالي وأنا أمرّ من تحت صورته؟ كان، بالتأكيد، سيصرخ بغضب وألم وهو يرى عراقه يكمل الدورة التي بدأها عندما فتح الجواهري عينيه عليه. أيّ عبثية في هذه الدورة التي نجد آثار دمائها وآمالها وكوابيسها بين دفّتي ديوانه العملاق؟ من جنين مخضّب بدم الولادة في بدايات القرن الماضي، الى دولة تحاول وتتخبّط وهي تقطع براثن الاستعمار وترسم تقاطيعها ملكية وانقلابات وجمهورية وكابوس الحروب الذي اختتمه الخراب الأخير.
والآن: جنين مخضّب بالدماء ومثقل بكهولة الخراب، يرزح تحت احتلال جديد!
إلى أين تأخذك العاصفة يا عراق؟
ما قاله الجواهري قبل حوالى نصف قرن يتردد صداه اليوم، كأن حبر الدم لم يجف بعد:
أرى أفقا بنجيع الدماء تنوّر واختفت الأنجم
وجيلاً يجيء وجيلاًَ يروح وناراً إزاءهما تضرم
اليوم، يعود الجواهري الذي أجبر على أن يغيب عن العراق منذ 1980 والذي أسقط عنه النظام الجنسية العراقية في التسعينيات في المهرجان الأول الذي حمل اسمه والذي سيصبح تقليداً سنوياً. وهو يعود بتمثال نصفي سيأخذ مكانه في أروقة الاتحاد: تعويض بسيط ومتأخر عن سنين الغياب والغربة.
حكمة عابر(ة)
اقترب مني في شارع السعدون (بالقرب من موضع تمثال السعدون الذي سمي الشارع باسمه... الرمز الوطني الذي انتحر أثناء الاحتلال البريطاني والذي سرق تمثاله واقتلع من قاعدته في تموز الماضي):
"أخويه، تريد الملخّص؟ هاك اكتب: "راح التلميذ وإجه الأستاذ". ظل يرددها لنفسه وهو يبتعد.
المفارقة أن معظم المحللين (والمحرّمين) من العرب والأعاجم تخندقوا في واحد من المعسكرين، مع التلميذ أو الأستاذ. تشبّثوا بالوعود (الكاذبة في الحالتين) وما تقدمّه لأيديولوجياتهم الرثّة، سواء أكان ذلك انتصاباً موقّتا (فياغروياًً) في زمن النكوص الممتد منذ نصف قرن، أم جنان الرأسمالية التي ستتبعها أو ترافقها الديموقراطية الآتية (قريباً... بعد يوم القيامة بقليل... إن الله مع الصابرين ومع أميركا). وها هم يتكلمون عن الخيانة وعن عودة صدام. وها هي أسواق العراق تفتح ساقيها للسلع التي لن يتمكّن غالبية العراقيين من شرائها بل سيكتفون بالتحسّر والاستهلاك التعويضي بالاستمناء حتّى الهلاك!
من العماء والغباء أن يصدق المرء ما يجتره العم سام ومحبّوه ووكلاؤه باسم الحريّة والديموقراطيّة. كل الشعارات، على الجانبين، مهما كانت طريقة تعليبها وتسويقها ومهما التمع بريقها، تخفي بضاعة فاسدة، حتى إن لم تكن كاسدة. لكن هذا المعسكر، أو ذاك، يوفر الدفء والأمان المزيّف الذي يعطيه الوجود مع القطيع. أن تكون خارج المعسكرين، يعني أن تكون خارج الأسوار، في العراء، لا مع هذا ولا مع ذاك! "راح التلميذ وإجه الأستاذ".
لا تصوّر!
ردود الفعل إزاء قيامنا بتصوير المدينة وناسها وشوارعها للفيلم الوثائقي الذي أعمل عليه، راوحت بين الغضب والترحيب والتشجيع واللامبالاة:
"ليش تصوّر؟ هو شبقه غير الخراب؟". قال أحدهم في شارع الرشيد.
"صوّر عيني صوّر! خلّي العالم يشوف شصار بينه!". قال آخر بعد أمتار.
"فيلم وثائقي؟ وشراح نستفاد من فيلم وثائقي؟ نريد كهربا ومي مو أفلام!"
شاهدت صلاح القصب، المخرج المسرحي المتميّز، في مقهى الشهبندر وطلبت منه إجراء حوار فاعتذر. فشلت كل توسلاتي وحججي. في النهاية قال لي: صوّر شوارع بغداد! هذا جوابي عن أسئلتك.
تجاعيد
رأيتها وقد زحفت في كل مكان. على إسفلت الشوارع وأرصفتها. على جدران بيتنا وسقوفه وزواياه. على مرآة الحمّام. على التقويم المصلوب على الحائط. على زجاج الشبابيك التي أرهبها القصف. على وجوه الأقارب والجيران. بين آهاتهم وتنهّداتهم. إلا ابتسامات الأطفال، فهي تبحر عكس الريح!
راجع تعليقات سائقنا العربي الذي يعمل على طريق عمان - بغداد منذ سنوات، فهي تلخّص تخبّط الغالبية من العرب وتناقضها، كما تعكس العجز النفسي والسياسي الذي يستشري ويتمظهر في الخطاب الشعبوي السائد: "والله بكره بيرجع صدام"، "أنا بقلك متخبي عند الأميركان"، "تعرف كل نقطة حدود بالعراق هلّه عليها شعار الموساد؟"، "والله انتو العراقيي بدكو أربعة متل صدام عشان يحكموكو"، "شو عمّلك صدّام حتى تكرهو هيك؟"، "يعني أميركا أحسن؟"،"ليش في نظام عربي ما ذبّح وقتّل؟"
كان مسك الختام في الأسبوع الأخير عندما أسمعني تسجيلاً لأغنيات شعبية جديدة سجّلت في قطر عربي مجاور تحيّي مقاومة صدّام وعدي وقصيّ!
شعرت بالغثيان، ثم ضحكت!
الأفاعي
كنت أقف في انتظار صديق أمام مبنى اتحاد الأدباء. كان يوماً جهنميّاً من أيام تموز، تتسلى فيه الشمس بتعذيب العراقيين. كأنها لا تعرف ما مر بهم وعليهم!
نظرت عبر الشارع إلى المستشفى الذي كنت قد ولدت فيه. تحول اسمه من "الحيدري" فصار "مستشفى الشيخ زايد". امتد طابور طويل أمامه من النساء اللواتي كن يتزاحمن للدخول والحصول على علاج نادر.
كان في منتصف الأربعينات. طويل وهزيل، وقد اشتعل رأسه شيباً. اقترب مني بخجل وقال بعدما سلّم وصافحني:
- هل من الممكن أن أسألك سؤالاً؟ هل تقومون بإخراج فيلم؟
- نعم.
- أردت أن أسألك عن رأيك بالشباب الذين كنتَ تحاورهم أمس في شارع المتنبّي.
- جماعة الحزب الشيوعي العمّالي؟
- نعم، لأني سمعتهم ينتقدون الحزب الشيوعي ويشوّهون صورته ولا أريد لفيلمكم أن...
ابتسمت مقاطعاً:
- لا تخف! فأنا من أصدقاء الحزب الشيوعي وأقدّر تاريخه وستكون له حصته في الفيلم. . . حضرتك شيوعي طبعاً؟
- نعم وشاعر أيضاً.
- هل أنت من العائدين أم...؟
- لا، لم أسافر. . . والفيلم عن ماذا بالضبط؟
- عن العراقيين بين صدام والعم سام. كل شيء!
ضحكنا، ثم سألني عن التمويل، فأخبرته أننا مستقلون.
- عظيم عظيم!
- لا بد أنك سجنت؟
- نعم. كنت في المكتب العسكري في الحزب وسجنت لسنوات طويلة.
- أعرف أن الموضوع صعب ولكن هل يمكن أن أسألك عن تجربة السجن؟
أعاد سيجارته إلى فمه بأصابع مرتجفة وتردد قبل أن يقول:
- كانت صعبة جدا يا أخي. معظم الذين كانوا معي في الزنزانة أعدموا. رفاقي، الواحد تلو الآخر. ماذا أقول لك؟ وحشيّة لا يمكن تخيلها. تعذيب. تصوّر أنك لا تعرف إذا كان الصبح سيطلع عليك أم أنك ستعدم. بشاعة لا توصف!
سألته ما إذا كان يمانع في أن أصوّر حوارنا (كنت أحمل الكاميرا الصغيرة معي).
- ليس الآن. ربما في ما بعد. آسف!
ثم أخذ يرتجف كشجرة متعبة باغتتها الريح.
- لكنك تعرف أن هناك من يقول ألا أحد وقف في وجه صدام. لذا يجب أن يعرف الناس أكثر وأكثر عن معاناة أمثالك وتضحياتهم.
- ليس الآن. أعذرني!
ثم أضاف وهو يشير إلى الجانب الأيمن من جسمه:
- هذا الجانب شبه مشلول بسبب التعذيب. ثم أجهش بالبكاء.
خيّم صمت ثقيل وشعرت بالخجل والذنب لإصراري. اعتذر ثانية وهو يمسح دموعه. فقلت له:
- أرجوك! أنا الذي يجب أن يعتذر. سامحني. أهديته نسخة كنت أحملها من مخطوطة روايتي (عن هلوسات سجين) وأضفت:
- كتبتُها وأنا استلهم أناساً مثلك.
شكرني وقال إنه سيقرأها الليلة. عانقني ووعدني بأن يفكر في موضوع المقابلة، ثم قال إنه تأخّر على موعد.
عرفت أنه لن يتحدّث عن السجن وأنّي قد لا أراه ثانية. لاحظت عرجه وهو يبتعد نحو الباب الخارجي. التفت ولوّح لي مودّعا. خيّل إليّ أنه كان يلوّح من وراء قضبان تصاعدت كأفاع خرافية وأنها ستظل تلاحقه أينما ذهب!
علي الزبيدي
بشرة سمراء وخريطة من التجاعيد تحاصر عينين بلون القهوة ما زال في بريقهما حب للحياة. دخل العقد الثامن من عمره، وبرغم التعب والانكسار ما زال ينتفض ويقف حين يردد الأشعار الشعبية التي نظمها هو و"الهوسات" التي يحفظها عن ظهر قلب.
معرفته بشوارع بغداد وبتاريخها موسوعية. حدّثني عن انقلاب بكر صدقي (عندما كان هو في السادسة) وكيف ركض هو وأطفال الحارة محاولين إسقاط الطائرات برشقها بالحجار.
معجم لتاريخ الشوارع وقصص تأسيسها وافتتاحها. يستذكر الأحداث بالساعة! كان مسؤولاً عن قسم الموسيقى الريفية في الإذاعة لكنه متقاعد منذ حوالى ربع قرن. كلما تذكر واقعة أو بيتا من الشعر، يضع "السدارة" (هاي فيصل الأول جابهه عالعراق) ويقول: سجلو هاي يمكن تفيدكم ولو آني دوّختكم بالحجي! اقترح علينا أن يرينا قبر المس بيل (محّد يدري بمكانه) وحتى قبر فهد حين قادنا الحديث إلى ما قاله ساعة إعدامه. لكن، واأسفاه. كان الوقت يمر وكنّا سنرحل بعد يومين.
سألته عن شعوره يوم احتلال بغداد، فتنهّد وقال: " أسوأ يوم بحياتي! شوف آني چنت أحتقر صدام، بس چنت أبچي لما شفت الدبابات الأميركية ببغداد. عبالك زنجيلهه يمشي على گلبي! سمعت صار نهب وسلب ورحت للمجمع العلمي. شفت الناس تنهب وتحرگ والكتب مطشّرة ومذبوبة بالگاع! گعدت ألطم وأبچي. شافني واحد زغيّر بعمرك شاب، گلّي: ليش گاعد؟ گوم أخذلك فد شي! گتله ولك هذا تاريخ بلدك وذاكرته! گام يضحك عليّه! هاي لا صايره ولا دايره! تمام صارت بزمن المغول. بس المغول چانو أجانب، مو من أهل البلد... مو من أهل البلد!"
وبكى بحرقة.
شارع الرشيد
كنت أهرب أحياناً من سجن المدرسة في سن المراهقة لأتسكّع في شوارع بغداد القديمة. كنا، صديقي وأنا، نمضي ساعات مشياً من باب المعظم حتى ساحة التحرير، مروراً بشارع الرشيد. وكنا نعرّج قبل الغروب على سلسلة المكتبات في بداية شارع السعدون.
المرة الوحيدة التي شاهدت فيها شارع الرشيد خالياً تماماً من الناس هي عام 1977 ومن على شاشة التلفزيون. كان النظام يجري تعداداً عامّاً للسكان وطلب من الجميع أن يلزموا بيوتهم. عرض التلفزيون صوراً لشوارع بغداد وهي خاوية وكان منظراً جميلاً وحزيناً. اليوم، وبعد ثلاث حروب، وبعدما تضاعف تعداد العراقيين مثلما تضاعفت وتفاقمت مآسيهم، يمكن المرء أن يشاهد الرشيد خالياً كل مساء! فبعد الخامسة تنحسر حركة المارّة والسيارات ويختبىء الجميع في بيوتهم خوفاً من المجرمين والاغتصاب والسلب والقتل.
الريح وحدها تتسكّع في شارع الرشيد وتحمل الروائح النتنة والدخان المنبعث من أكوام القمامة المحروقة والمتروكة على الأرصفة.
أردت أن يتضمن فيلمنا مشهداً لشارع الرشيد في حلّته الجديدة. امتعض سائقنا واشتكى من خطورة المرور في المنطقة بعد الخامسة: "امبارح وقّفوا سيارة هناك وسلبوا السايق وقتلوه يا زلمه!. . . والله خايف عليكم أنه."
لكنه وافق بعدما أصررت. بدأنا من تمثال الرصافي وانتهينا في بداية شارع الرشيد قرب ساحة التحرير. أردت أن ألتقط صورة فوتوغرافية لنصب الحرية وساحة التحرير من بعد، فطلبت منه أن يوقف السيارة لأنزل. التقطت صورتين لمحل تسجيلات "چقمقچي"، أحد أقدم محال التسجيلات في بغداد، و الذي علا الغبار واجهته وبدا أنه لم يفتح أبوابه منذ سنوات (فهذا عصر السي دي وهو كان يبيع الاسطوانات). بالقرب منه كانت هناك واحدة من المكتبات التي طالما اشتريت منها كتبي. كانت هي الأخرى مقفلة، كالمحال كلها. ذكّرني السائق بوجوب الإسراع لكي نبتعد عن المنطقة. ركّزت عدستي على نصب الحرية وقرّبتها منه. وقبل أن أضغط الزر، سـمعـت صـوت سـيارة تقترب.
أسرعت وضغطت الزر فأغمضت الكاميرا عينها. نظرت إلى اليسار نحو مصدر الصوت فرأيت مدرعتين أميركيتين تتجهان نحونا وعلى متن كل واحدة منها جندي يوجّه ماسورة رشّاشه إلى الأمام. مرّتا من أمامنا واتجهتا جنوباً نحو شارع أبي نؤاس.
بعدما ابتعدتا، نظرت إلى شاشة الكاميرا الرقمية لأتأكد من الصورة. لم تكن واضحة! بدا نصب الحرية ضبابياً وأبعد مما أردت له أن يكون!
[نشرهذا النص لأول مرة في ملحق النهار الثقافي، العدد ٦٠٠، ٧ أيلول، ٢٠٠٣]