عام ٢٠١١ كان عام الثورات العربية بدون أدنى شك. ويبدو أن عام ٢٠١٢ سيكون هو الآخر عام الثورات العربية، جديدها وقديمها. فالعديد من الثورات التي تفجرت في العام المنصرم مازالت متقدة تشتعل، والبعض منها هدأ قليلاً ثم عاد للانتفاض أو هو موشكٌ على الثوران مجدداً إما لإدراك ثواره أن ثورتهم لم تكتمل أو لاكتشافهم أن ثورتهم قد سرقت منهم وأن السارقين هم أنفسهم من كانوا قد ادعوا بأنهم حماة الوطن أودعاة الثورة أو مؤججيها الأصليين. والبعض مازال في المخاض الأول ويمكن له أن يفجر ثورته في أية لحظة ضد أي من الأنظمة العربية الهرمة أو الفاسدة التي ظنت أن انصرام العام الفائت من دون أن تصيبها عدوى الثورات دليل على نجاتها. حقيقة لا يمكن لأي معلق، بغض النظر عن موقفه السياسي، سوى الإنحناء احتراماً لتضحيات الثوار العرب الذين بذلوا ومازالوا يبذلون وقتهم وجهدهم وشبابهم وصحتهم وحريتهم وأحياناً حياتهم في كفاح صعب وتراجيدي لاقتلاع نظام عربي متفسخ ولكنه متجذر وعنيف وعصي على الاقتلاع. وهم مع ذلك ماضون في سبيل تحقيق هدفهم بدون تردد وبغيرية يصعب تخيلها وبغض النظر عن حسابات الربح والخسارة، فردياً وجماعياً، وعن المعطيات المحلية والدولية التي تحاول التلاعب بثورتهم أو تحويلها أو إخمادها.
لن أضيف هنا مقالاً جديداً إلى آلاف المقالات التي تحلل أسباب ودوافع الثورات العربية وتتنبأ بنتائجها، أو تلك التي تنتقدها أو تقرظها أو تحاول وضعها في سياق تاريخي ما. فالمقالات - وحتى الكتب التي انهمرت تباعاً من دور النشر في الأشهر الأخيرة - كثيرة، وهي قد غطت كل هذه المناح على مدى الأشهر الثلاثة عشر الماضية بدرجات متفاوتة من التحليل والاستنتاج. فما حصل ومازال يحصل في بلاد الثورات العربية جديد وغير متوقع بعد عقود طويلة من الخنوع للأنظمة الطاغية والاستسلام لجبروتها وطغيان أجهزتها الأمنية والاعلامية والحزبية والانكسار تحت وطأة فسادها الاقتصادي واحتكارها لكافة النشاطات الانتاجية والاستثمارية في بلادها. وأنا أزعم أننا كلنا قد تفاجأنا باندلاع الثورات بادئ ذي بدء ثم باستمرارها وبتصاعد سقف مطالبها وبتبلور كيفية تعبيرها عنه. وأنا أزعم أيضاً ألا محلل كان قادراً على استلهام الأحداث في السنين العشر الأخيرة للتنبؤ بإمكانية حصول هذه الثورات تباعاً وبالزخم الذي حصلت به وبالشعارات التي رفعتها والأساليب الاحتجاجية التي طورتها وبالتنظيم الفائق الذي أظهرته في وجه أنظمة مجرمة عاتية، خاصة في ليبيا واليمن وسورية.
لكني لاأدعي أني سأقدم هنا تحليلاً أقّوم فيه بعض النقص الذي لحظته، لأني، كغيري من المحللين مأخوذ بهذه الثورات المباركة، ومشدوه بتراجيدية تخلقها، وعاجز عن الإمساك تماماً بنواصي مسبباتها وخلفياتها، على الأقل الآن وفي حمأة ثورانها. فكما قال شو إن لاي، رئيس وزراء الصين الشيوعية الأول والعقل المدبر لسياستها، عندما سئل عن رأيه في تأثير الثورة الفرنسية على الحضارة الغربية: "مازال الوقت مبكراً للحكم." فالوقت مازال فعلاً مبكراً لتحليل شامل لظاهرة مذهلة لم تكتمل فصولها بعد ولم يظهر كل تأثيرها وربما لن تكتمل في المستقبل المنظور. ما أود أن أوجه الانتباه إليه هنا هو مظهر رائع من مظاهر الثورة العربية ألا وهو قيمتها الأخلاقية، أو بالأحرى إنتاجها واستعادتها لقيم أخلاقية عديدة تشكل بمجملها نواة لمجتمع مدني كنا قد فقدناه قبل أن نحصل عليه تماماً في عالمنا العربي عندما فاجأتنا الانقلابات العسكرية التي تتالت علينا إثر فقدنا لفلسطين عام ١٩٤٨ والتي جثمت على بلادنا لستة عقود قتلت فيها كل قيمة أخلاقية جمعية أو فردية كانت في طور التبلور في مجتمعاتنا ودولنا الفتية والناهضة وقتها.
هنا لا بد لي من شرح ما أقصده باستخدامي للثورة العربية بصيغة المفرد في عنواني. فالمحللون، وإن اتفقوا على أن هناك قاسماً مشتركاً بين ثورات تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا التي اندلعت كلها بتتالٍ متناغم كأحجار الدومينو في النصف الأول من السنة المنصرمة، فهم يركزون في تحليلاتهم على الاختلاف بين هذه الثورات في الأسباب والدوافع والأسلوب والنتائج. بل أن بعضهم يصر على التفريق بين هذه الثورات ونسبتها إلى مسببات مختلفة، على الرغم من أن لثوار أنفسهم أكدوا، ومازالوا يؤكدون، على ترابط ثوراتهم وتكاملها وعلى اشتراكها في الجذور والأسباب والأهداف والمصير. وأنا لهذا التأكيد مؤيد: فلا خلاف على تشابه الظروف والمعطيات التي أدت إلى نشوب الثورات واستلهامها بعضها البعض في حركتها وفي تكتيكاتها واستراتيجياتها. ولاخلاف أيضاً على تماثل الأنظمة القمعية التي قامت ضدها الثورات في انبعاثها وتطورها وتحولاتها. فهي كلها قد بدأت أنظمة عسكرية ذات ادعاءات قومية عربية وصلت إلى الحكم على برج دبابة، وترهلت على كرسي الحكم، وتحولت إلى ديكتاتوريات هرمية على رأسها قائد ملهم ومطلق الصلاحية يمسك بيديه المباركتين بكل مفاتيح الحكم، تحيط به وتدعمه إقطاعيات عائلية أو طائفية أو قبلية تحكمت بمختلف مناح الحكم السياسية والعسكرية والأمنية وتسلطت على أهم مفاصل الاقتصاد والمال في الدولة، وبشكل خاص في مصر وسورية والعراق واليمن وليبيا (لاينقصنا هنا سوى الجزائر لكي تكتمل قفلة أغنية فايزة أحمد الشهيرة أيام عبد الناصر: "شعب سورية والعراق، والجزائر واليمن، ومصر العزيزة الوفاق، رايحين يتحدوا الزمن"). وقد تحولت تلك الأنظمة كلها إلى أنظمة "جملكية" كما أسماها سعد الدين إبراهيم، أو "سلطانية محدثة" كما وصفها ياسين الحاج صالح، حيث هيأ الأب القائد ابنه لخلافته، وبنى لذلك الهدف الإطار الأمني-الاقتصادي-السياسي اللازم. ونجح في ذلك واحد من هؤلاء الزعماء، هو حافظ الأسد في سورية، وفشل الآخرون.
ولكن الأهم من تماثل شروط الطغيان والتسلط هو تماثل ظروف الانفجار في بلاد الثورات العربية وتشابه محركيها وثوارها من حيث أنهم شباب منتمون ومتعلمون ومتصلون بالعالم عن طريق الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وواعون للظروف الخانقة التي نشأوا فيها والتي يعيشون في ظلها من انعدام للحريات والحقوق وتسلط للحاكم وزبانيته وطغيان لآلته القمعية من مخابرات وعسكر، وضعف أو حتى انعدام فرص العمل الشريف والعيش الكريم لكل أبناء وبنات جيلهم. هؤلاء الشباب بتنظيمهم ووعيهم وإخلاصهم هم الذين خلقوا الثورات العربية، التي تكاملت وتتابعت فيما بينها فصولاً من رد التحدي ورفع الضيم وتقرير المصير بعد عقود الاستبداد والتسلط. وهؤلاء الشباب هم الذين وضعوا خارطة أخلاقية جديدة، جديرة حقاً بالاعجاب، لحراك ثوراتهم اللاعنفي -سلمية، سلمية- وسيرورته الجامعة والشاملة لكل أبناء الوطن بغض النظر عن جنسهم وعرقهم ودينهم وطائفتهم وطبقتهم -واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد- ولثباتهم على مبادئهم ومطالبهم -وعلى رأسها، ارحل- من دون النزول إلى الدرك اللاأخلاقي الذي انتهجته السلطات الحاكمة لقمع ثوراتهم وتشويه صورتها داخلاً وخارجاً. هذا هو تماماً ماأقصده بالقيمة الأخلاقية للثورة العربية: عودة الروح وصعود الحس المدني وتنامي الشعور بالإخاء والمساواة في الانتماء وفي الحقوق والواجبات وسيادة الاحترام المتبادل بين الثوار والثائرات وترجمة الاحساس بالانتماء إلى أفعال من اعتناءٍ بالجرحى والمصابين ورعايةٍ للمقطوعين والمحتاجين وتنظيفٍ للشوارع والميادين وتنظيمٍ للمرور وحفاظٍ على الأمن والأمان عن طريق لجان أهلية متطوعة. وفوق هذا وذاك عودة الأمل والتفاؤل بغد أفضل وبمقدرة الأفراد والمجموعات على تحدي كل المعوقات وتجاوز كل المثبطات واجتراح هذا الغد. وعلى الرغم من الكبوات العديدة التي مرت بها الثورات العربية، ومازالت تمر بها في بقاعها المختلفة، وعلى الرغم من الثورات المضادة أو ردات الفعل السلطوية والأمنية العنيفة التي جابهتها وماتزال، والتي تمكنت في بعض الأحيان من طمس بعض معالم انتصارها وغمطها حقها في بعضها الآخر، فإن الإنجاز الأخلاقي للثورات العربية لن يمحى قريباً. بل أنا أعتقد جازماً بأنه، وبغض النظر عن النتائج السياسية الفعلية للثورات العربية والتي يمكن أن تواجه انتكاسات حادة خاصة في مصر وسورية، فإن عودة الأخلاق المدنية وصعود نفحة الأمل ستكونان علامتان مميزتان لجيل الشباب العربي الحالي في نموه المطرد لكي يستلم زمام الأمور في بلاده، عاجلاً أو آجلاً، كما يجب أن تكون الأمور.