[نشرت هذه المقالة لأول مرة باللغة الإنجليزية على صفحات جدلية تعقيباً على المقابلة التي أجرتها ”وول ستريت جورنال“ مع رئيس المجلس الوطني الإنتقالي برهان غليون. ترجم المقالة إلى العربية يوسف حداد.]
فلنضع جانباً مواقفه الإشكالية إزاء ايران وحزب الله، ولنطرح السؤال التالي: ما هي مصلحة رئيس المجلس الوطني الإنتقالي السوري برهان غليون في الحديث عمّا إذا كانت القيادة السورية المقبلة ستتمسك بحقها في إستعادة هضبة الجولان المحتلة من إسرائيل؟ هل هذا ما يدور في خلد المتظاهرين الذي يقتلون يومياً على يد النظام السوري؟ وهل سيعزز هذا الموقف من فرصهم للحصول على حقوقهم - السياسية منها وغير السياسية - في سوريا؟ حتى وإن كانت تلك التصريحات المتعلقة بالجولان تلائم المصلحة الآنية، لماذا هذا التسرع في إزالة العبء عن المعتدي، دون مبرر أو مسؤولية، وفي غاية التهور، من خلال تبني لغة "النوايا الحسنة" و"الليبرالية" بشكل غير مدروس؟ ومن أين أتت فجأة هذه النظرة الإيجابية للعلاقات السورية - الغربية؟
ما يبدو أكثر أهمية، في السياق، هو التالي: لماذا يجب إعلان سياسيات حكومة سوريا الديموقراطية قبل أن تتوفر الظروف الملائمة لتشكيل مثل تلك السلطة التمثيلية؟ ماذا لو أراد المواطنون في سوريا إبقاء كافة الخيارات مفتوحة لاستعادة أراضيهم وحقوقهم في المستقبل؟ بدا غليون (وهل ما زال بإمكاننا وصفه ب"غليون المسكين"؟) وبالتالي المجلس الوطني الإنتقالي تماماً كالنظام السوري في موقفهما إزاء كلتا هاتين الحالتين: كلاهما يتنازلان عن عدد من الخيارات المتاحة لإستعادة الأراضي السورية المحتلة، وكلاهما لا يأبهان بالعملية الديموقراطية. أضف إلى ذلك، فأن هذه التصريحات أثارت صدمة لدى أعداء الشعب السوري، وإن كانت قد سرّتهم ضمنياً، إذ أنها أظهرت عدم نضج سياسي، إن استخدمنا تعبيراً ملطفاً.
لقد سبق لي وأن قابلت غليون في عدة مناسبات، وسجلت معه عدة مقابلات طويلة، وأمضيت معه الكثير من الأوقات المميزة ولساعات متأخرة في صالات الفنادق على هامش المؤتمرات. وما سجلته له من تصريحات في السابق حول هذه القضايا لا يتماشى مع ما يقوله اليوم حول عدد من المسائل. والسؤال المطروح هنا يبقى هو نفسه منذ البداية، من المستفيد من مثل هذه التصريحات السابقة لأوانها والتي تأتي في وقت غير مناسب؟ هل بإمكاننا المضي قدماً والتعامل مع غليون كأكاديمي وباحث، أُنيط به هذا المنصب دون سابق تخطيط وتحول الآن إلى سياسي كثير التصريحات غير مدرك لعواقبها السياسية؟ هل الأمر يتعلق ببساطة بالرصيد السياسي؟ أم هو أمر آخر لا علاقة له بعدم النضج والرصيد السياسي؟ على أية حال، دكتور غليون، رغم مساندة جميع أصحاب الضمائر الحية من الرجال والنساء لك في معارضة النظام الديكتاتوري في سوريا، إلا أن الشعب السوري لن يسمح لك أو للمجلس الوطني بتقرير مصير الأراضي المحتلة بمواقف انهزامية وخانعة.
إلى برهان
أنظر إلى هذين التصريحيْن من المقابلة:
غليون: "العلاقة الحالية بين سوريا وإيران غير طبيعية. فهي غير مسبوقة في تاريخ السياسة الخارجية السورية."
غليون: "نحن نعتمد على العلاقة الخاصة التي تربطنا بالأوروبيين والقوى الغربية في مساعدتنا على استعادة الجولان بأسرع وقت ممكن."
فإذا كانت العلاقة بين الدولتيْن (سوريا وإيران) غير مسبوقة، تصبح علاقة "غير طبيعية". أما الدولة (فرنسا) التي سبق لها وأن أخضعت دولة أخرى (سوريا) للإستعمار والإستغلال، والتي ما زالت تكيل في إعلامها سوريا - حكومة وشعباً - بالشتائم، الدولة التي تدعم وتمول وتحمي (بفيتو في الأمم المتحدة) المحتل للأراضي السورية، فإنها تستحق وفق المجلس الوطني السوري "علاقة خاصة". مبروك عليك إذاً يا برهان هذه اللهجة والمنطق والمبادىء الجديدة والمثيرة. لماذا لا تدفع المجلس نحو الإتجاه الذي آمنت به دائما: الإنتقاد المزدوج للإستبداد المحلي والنفاق الغربي بإسم المبادىء عينها التي تبنيتها لسنوات طويلة؟
إلى ذلك، يقول غليون إن المجلس الوطني "يراهن" على "القوى الغربية" لمساعدة سوريا على إستعادة الجولان، من المفترض من خلال القانون الدولي والديبلوماسية. هل هذا معقول يا برهان؟ لو كتب أحد طلابك أمراً كهذا في بحثه لكنت أبديت إمتعاضاً لمجرد قراءته. منذ متى يعتمد من لديه ذرة معرفة بالتاريخ على القوى الغربية لاحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، وإسرائيل بوجه ٍ خاص؟ منذ عقود ٍ والولايات المتحدة تتصرف وكأنها دولة مارقة كلما تعلق الأمر بالقانون الدولي أو بالأمم المتحدة أو إسرائيل، فهي إستخدمت حق النقض ضد عشرات القرارات الدولية التي تدين الخروقات الإسرائيلية لحقوق الإنسان والقانون الدولي. ألمانيا تمول الآن بيع غواصات تحمل رؤوساً نووية إلى إسرائيل التي تزعم أنها لا تملك أسلحة نووية، في حين أن إسرائيل تواصل خرقها لكل القيم الإنسانية تقريباً. إذاً هل يمكننا أن نتوقع من هذه الدول التي استباحت الحقوق والقوانين لعقود أن تهب فجأة و"بأسرع ما يمكن" لنجدة برهان غليون والمجلس الوطني في سعيهم لإستعادة هضبة الجولان؟ إن مثل تلك المطالبة هي كمن يطالب حركة طالبان باحترام حقوق المرأة في تورا بورا، أو إسرائيل بمعاملة مواطنيها اليهود وغير اليهود بمساواة، أو السعودية بالسماح بالتعددية الدينية.
ملاحظة أخيرة، تتعلق بثلاث مسلّمات أطلقها غليون خلال مقابلة أجراها مع مسؤولة تحرير القسم العربي لموقع جدلية ابتسام عازم، وأكد خلالها أن لجان التنسيق المحلية في سوريا ترفض رفضا ً قاطعا ً: التدخل العسكري الخارجي والعنف الطائفي واستخدام السلاح بكافة أشكاله. (أنقر هنا لقراءة مقابلة غليون كاملة).
غير أن المسلّمة الأخيرة - أي رفض إستخدام السلاح - غابت عن المقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال. سقطت كمبادىء برهان غليون السياسية التي تبناها على مدى عقود. عسى أن تكون سقطت سهواً.
إلى أين يتجه المجلس الوطني الإنتقالي؟
لقد عانى الشعب السوري لعقودٍ من هيمنة سلطة ديكتاتورية، يدفع جزيتها الآن الآلاف من الضحايا. هل سيكون هذا مصير الشعب السوري بعد كل هذه التضحيات والبطولات التي تشهدها الشوارع السورية؟ أن يصادر حقه باستعادة أراضيه مجلس يدين بالفضل لرعاته الخارجيين عوضاً عن أن يكون مخلصا لهم – إن لم نقل مجلساً منتفعاً؟
قد لا يتعلق الأمر بغليون وعلى الأرجح لا يتعلق بالمجلس الوطني برمته. لكنه بالتأكيد لا يخدم مصلحة الشعب السوري. غير أن المؤكد هو إذا استمر المجلس الوطني بتبني هذا المسار الذي يتسم بالغباء والتبعية والمقاربة الرعناء للسياسة، فإن التاريخ سيسجل أن النظام القمعي تم إستبداله – في حال حصول هذا – بقيادة فاشلة وغير كفوءة وبالتأكيد غير مستقلة.
بغض النظر عن أي تحليل توظيفي لهذا الموقف (أي أنه علينا الأخذ بعين الإعتبار من إستساغ هذا الموقف والإستنتاج أنه تم دفع وتحريض غليون على تبنيه)، لا يمكن إلا أن يزداد شكنا باستقلال ونزاهة المجلس – ومما لا شك فيه أن الوقت وحده كفيل بالحكم على تجربة المجلس. العديد منا إنتقد إسرائيل لإسهابها في إنتاج "فزّاعات" تشكو من وجودها في الأراضي التي تحتلها، والعديد منا طالب إسرائيل بالإقرار بالرابط بين الظروف البنيوية التي خلفتها عقود من السياسيات المجحفة تجاه الفلسطينيين والرد الفلسطيني على الإحتلال. لكن معظم أعضاء المجلس يعيشون خارج سوريا ومعظمهم لم يعانوا من سياسة كم الأفواه وتقييد الإرادة السياسية كسواهم من السوريين.
علينا أن نسأل إذاً إلى أين يتجه المجلس الوطني ونحن لم نأخذ في الحسبان سوى برهان غليون، خيرة هذا المجلس؟