عندما يُؤرَخ للثورة المصرية التي تحلّ ذكراها الأولى فإن أقرب ما قد توصف به هو أنها كانت "ثورة الأطراف المهمّشة" Peripheries’ Revolution . فمن أطلق شرارة الثورة ودفع ثمنها، ولا يزال، هي تلك الكتلة "الحرجة" التي عاشت عقوداً على الهامشيْن السياسي والاجتماعي للدولة المصرية ولم ترفل فى رغد السلطة أو تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة. بل على العكس فقد دفعت ثمناً باهظاً لفساد رجال الحكم وانحرافاتهم الداخلية والخارجية.
ففي الخامس والعشرين من يناير خرج آلاف "المهّمشين" من "أزقة" القاهرة وضواحيها، ومن "حواري" الاسكندرية والسويس والمنصورة، ومن قرى ونجوع أسيوط والمنيا وسوهاج وقنا ومن كل بقعة طالتها الأيدي الباطشة للدولة وجهازها القمعي سيئ الذكر. خرجوا جميعاً من أجل إزالة نظامٍ كان رحيله بهذه الطريقة وبهذا السيناريو أمراً طبيعياً وما عداه ينافى المنطق.
دفعت الثورة بعشرات الألآف من المصريين غير المسيّسين إلى بحر السياسة اليومية. ونقلت أولئك الذين عاشوا عقوداً معزولين داخلهم "هامشهم" الإيديولوجي والاجتماعي إلى "القلب" والمركز السياسي. ومن بين من ألقت بهم الثورة المصرية هم أبناء التيار السلفي الذين ينتمون إلى نسيج الطبقة الدنيا فى مصر. فكثير من أنصار التيار السلفي يقطن المناطق الريفية والهوامش الحضرية على أطراف المدن الكبرى. وقد دفعوا ثمناً اجتماعياً واقتصادياً باهظاً نتيجة لسياسة الخصخصة والتحرير الاقتصادي طيلة العقود الثلاثة الماضية. فضلاً عن ذلك فقد اضطهدوا وعوقبوا على انتماءتهم الايديولوجية والفكرية. ومن يتفحص وجوه النواب الجدد فى "مجلس الشعب" الذي انعقدت أولى جلساته قبل يومين، يدرك إلى أى مدى أصبح أبناء "الهامش" ممثّلين في قلب المشهد المصري الجديد. وبعيداً عن لهجة السخرية والاستعلاء التي تعاطى بها البعض مع مفارقات الجلسة الافتتاحية للمجلس الجديد، فإن الحقيقة التي لا يمكن حجبها هي أن أهل "الهامش" قد باتوا "أصحاب سلطة" وأنهم الآن صنّاع السياسة التشريعية والرقابية فى مصر، وهو ما لا يمكن أن ينكره أحد.
من هؤلاء المهمشين أيضا "الألتراس" المصري، أبناء الأحياء الفقيرة والمتوسطة، قاطني "عشش الصفيح" وأسطح المنازل في شبرا وإمبابة وبولاق الدكرور والسيدة زينب والزاوية الحمراء والمطرية وفيصل والشرابية وكرداسة. هؤلاء خرجوا في ثورة الخامس والعشرين من يناير ونالوا نصيبهم من القمع والقتل والتعذيب. ملئوا الفضاء الثوري منذ بداياته الأولى ولولاهم لما صمدت الثورة في مواجهة آلة القمع الوحشية التي أطلقها مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي. وطيلة مرحلة ما بعد الثورة قام "الالتراس" بعمليات التعبئة والحشد في شارع "محمد محمود" و"مجلس الوزراء" وتصدّوا لبطش العسكر وقدموا شهداء كُثْر كان أبرزهم الشهيد "محمد مصطفى" طالب الهندسة الذي فقد حياته دفاعاً عن المجمع العلمي بشارع القصر العيني. ما يحرّك "الالتراس" هو شعور قوى بالانتماء للثورة ورغبة في الحفاظ عليها. لا يتحدثون بلغة النخبة ولا يتنافسون على مقاعد البرلمان، ولكنهم بمثابة "الضمير الحيّ" للثورة المصرية.
وبقدر ما أنجزته الثورة حين أخرجت هؤلاء المهمّشين من عزلتهم وأعطتهم أملاً في المستقبل، فإن الملايين غيرهم لا يزالون قابعين تحت أحزمة الفقر والعوز واليأس، لا تصل كاميرات التلفزة ولا تعرفهم النخب من ذوي "الياقات البيضاء" والأساور الملّونة. يبحثون عن من يمد إليهم يديه بعدما فقدوا الثقة في الدولة والعسكر والنخب.
لذا، فإن الثورة المصرية وهي تغلق عامها الأول تشهد نزوعاً وعودة نحو "الهامش" بفضاءيه السياسي والاجتماعي. وهو ما يتطلب وقفة للنظر فى أسباب هذا الارتكاس واتساع الفجوة بين الهامش والمركز مجدداً. فقد قامت الثورة المصرية وخلعت مبارك وأزاحت نظامه وألقت برجاله فى السجون ولقنّت بقاياه و"فلوله" درساً قاسياً فى الانتخابات البرلمانية التي جرت أخيراً. وعلى مدار العام الماضي جرت مياه كثيرة فى بحر السياسة المصرية فانقسمت النخبة وتضاربت المصالح وتفتت المطالب وتفتت "عرّي ميدان التحرير" الواحدة تلو الأخرى حتى انقلب الشارع على الثورة والثوار قبل أن تجف دموع الأمهات الثكلى وأهالى المصابين على جروح أبناءهم. الجميع وقع فى الخطأ وكثيرون مارسوا الخداع، وقليلون تمسكوا بالحكمة من أجل البناء على هذه اللحظة التاريخية.
المجلس العسكري، الذى أخرجه "المهمّشون" من غياهب الصمت ووضعوه على قمة هرم السلطة، حاول ممارسة التلاعب والتحايل ليس فقط من أجل إجهاض مطالب الثورة وإنما أيضا لمحاولة البقاء فى السلطة أو على الأقل اقتسامها. فقد ناورَ وهدّد واعتقل وعذّب كثير من المدنيين. كما حاول أحياناً أن يستنسخ طريقة مبارك وأسلوبه فى إدارة اللعبة السياسية فسعى لاستغلال "لهفة" النخبة وصراعها على السلطة من أجل تزكية الخلافات وتعميق الانقسامات بينها، مرة من خلال مسألة "المبادئ فوق الدستورية"، ومرة أخرى من خلال مغازلة هذا الطرف ومعاندة ذاك. ولا ندري هل توقفت حيل العسكر أم أنها أصبحت أكثر دهاء وعمقاً وباتت تجري خلف الكواليس. فى حين لا يزال بعضهم يتعاطى مع الثورة وشبابها بمنطق ساذج لا يخلو من مفارقات تدعو للرثاء والضحك فى آن واحد.
أما النخبة السياسية، بقديمها وجديدها، والتي اعتلت "أكتاف" المهمشين عبر صناديق الاقتراع، فقد وقعت هى الأخرى فى أخطاء لا يمكن إغفالها. فجماعة "الإخوان المسلمين" تعاطت مع الثورة وفق فلسفة ومنطق "التمكين". والثورة بالنسبة لكثير من أعضاء الجماعة هي "منحة إلهية" بحسب تعبير المرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع. كما أنها جاءت ليس فقط كي تعوّض الجماعة عن تضحياتها وعن الثمن الباهظ الذي دفعه أبناءها بسبب معارضتهم للنظام القديم، وإنما أيضا من أجل "التمكين" السياسي واقتناص الحكم فى مصر. وإذا كان الوصول إلى السلطة حق مشروع لأي فصيل سياسي، وفي مقدمته جماعة بحجم وثقل الإخوان، فإن التعاطي مع السلطة باعتبارها هدفاً بحد ذاته وكأنه نهاية "المشوار"، يعد خطأ استراتيجياً كبيراً. فمن جهة فإن هذا المنطق سوف ينزع عن الجماعة غطاءها الأخلاقي الذي ظلت تنسجه طيلة العقود الماضية وكان مصدر كبير لشرعيتها وشعبيتها بين "المهمّشين" ووفرّ لها قوة انتخابية معتبرة. فعلى سبيل المثال خرجت تصريحات من بعض قيادات الجماعة تشي بإمكانية التضحية بحقوق الشهداء والمصابين حتى تتوقف المظاهرات والاعتصامات. فى حين كان موقف بعض قيادات الجماعة من علاقة المجلس العسكري بشباب الثورة مؤسف ومحزن فى كثير من الأحيان. ومن جهة أخرى فإن "تلّهف" الجماعة لاقتناص هذه الفرصة التاريخية قد يعرضها للابتزاز من جانب المجلس العسكري. وهو ما حدث بالفعل ودللت عليه تصريحات بعض قيادات الجماعة حول مسألة "الخروج الآمن" للعسكر ومنحهم حصانة قضائية وسياسية. ومن جهة ثالثة فإن سيطرة هذا المنطق قد يعيد إحياء الشكوك حول نوايا الجماعة ومدى قبولها بمبادئ وقيم الديمقراطية وفي مقدمتها مسألة تداول السلطة. صحيح أن كثير من قيادات الجماعة، وحزبها "الحرية والعدالة"، يتمتعون بدرجة عالية من الرشادة والذكاء السياسي، بيد أن لغة وخطاب التمكين يبدوان الأقرب للقواعد ولما يحدث داخل الصف الإخواني. وإذا كان من الإنصاف أن نعترف بحجم المظلومية التاريخية التي تعرضت لها الجماعة طيلة العقود الماضية، فإن من الموضوعية، وربما العدل أيضاً، أن تعترف الجماعة بأخطاءها وأن تسعى لتصحيحها قبل فوات الآوان.
أما بقية أطراف النخبة من الليبراليين والعلمانيين فقد استنسخوا أخطاءهم القديمة وزادوا عليها. وأولها، تكرار الخطاب الفوقي الغارق فى رومانسية القول لا الفعل والاستعلاء على "المهمِّشين" بمنطق "نحن أدرى بمصالحكم". ثانيها، وأكثرها سوءاً، هو التماهي مع العسكر وتقديم تنازلات سياسية وأخلاقية ليس لهدف سوء معاندة والنيل من الإسلاميين. وثالثها، فهو محاولة التشكيك فى جدوى العملية السياسية الراهنة ومحاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات الأخيرة تحت دعوى أنها تمت من خلال صفقة بين الإخوان والمجلس العسكري، وهو ادعاء لا يخلو من مراهقة سياسية. والأكثر سوءاً أن بعض المحسوبين على التيار الليبرالي يمارس نوعاً من العنصرية الاجتماعية والسياسية تجاه بعض ممثلي التيارات السياسية كالتيار السلفي على سبيل المثال، وكأن السياسة لم توجد إلا لليبراليين فحسب. حتى أولئك الليبراليون الجدد لا تخلو مواقفهم وتصريحاتهم من انتهازية سياسية ومماءلة إيديولوجية تتناقض مع الكثير من أفكارهم وقيمهم تحت ادعاءات المواءمة وإرباك حسابات منافسيهم.
قبل عام انطلقت الثورة المصرية من الفضاء الهامشي للمجتمع المصري، وقد حصد ثمارها بعض الذين يحاولون الآن أن يبقوا هذا الهامش على حاله. لذا فإن الضمانة الوحيدة كي تظل "جذوة" الثورة متقدة هو أن يتم "تثوير" الهامش الاجتماعي مجدداً وتمكينه، وذلك قبل أن يخلد للخمول والسكون مجدداً وربما للأبد.
[عن جريدة الحياة اللندنية]