لم يعد هناك أدنى شك في أن النظام السوري سائر نحو السقوط، وأن الأمور تتجه بثبات إلى نقطة الانكسار التي يبدأ عندها بالانهيار النهائي. واضح أكثر فأكثر أنه يفقد ثقته بالجيش النظامي، ويعجز بصورة مضطردة عن التحكم بديناميات تفتته، وأن ضرباً من توازن القوى يتحقق لعناصر «الجيش الحر» في مواجهة قوى النظام العسكرية والأمنية و»الشبيحة» في بعض مناطق البلد (حول دمشق، وفي معظم محافظة إدلب، وفي مناطق من حمص وحلب).
في الوقت ذاته، يتسارع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلد، ويعجز النظام عن التحكم بسعر صرف الليرة السورية التي فقدت منذ بداية الثورة أكثر من خمسين في المئة من قيمتها أمام الدولار الأميركي، وأكثر هذا الانحدار تحقق في الأسابيع الأخيرة. وبينما تشهد البلاد موجة تضخمية هي الأعلى منذ 1986، لا يبدو وارداً أن تثابر إيران وعراق المالكي على مساعدة النظام في رشوة الطبقة الوسطى المدينية السورية عبر إمدادات بالمال والوقود (تقنين الكهرباء في دمشق تمييزي بصورة واضحة: الأحياء «الراقية» تنقطع الكهرباء فيها لوقت أقل، وفي أوقات أقل ضرراً). وبصورة مضطردة ينقلب تململ المتململين من هذه الطبقة ضد النظام (بعد أن كان حتى وقت قريب موجهاً أكثر ضد الثورة)، بمقدار ما يظهر يقيناً أنه لن يستطيع التحكم بالأمور واستعادة السيطرة.
في الوقت ذاته تتفاعل دينامية أخرى في الإطار السوري. فقد قادت عشرة أشهر ونيف من العنف المنفلت إلى تصلب واسع النطاق في المجتمع، وفي النفوس. انقطع أي رباط لقطاعات تتسع من السوريين مع النظام، وتجذرت مواقفهم منه لتبلغ حد العداوة المطلقة. مؤشرات ذلك تتكاثر. أظهرها ما تسجله الهتافات والشعارات المكتوبة من اعتبار النظام قوة احتلال (كفرنبل المحتلة، حمص المحتلة، حاس المحتلة...)، وقواه القمعية «كتائب الأسد»، والمناداة بإعدام رأسه ولعن روح مؤسسه، ورفع علم الاستقلال حصراً في الشهور الأخيرة، بعد أن كان العلم الحالي أكثر ظهوراً في بداية الثورة، وظل حاضراً حتى أواخر الصيف الماضي.
فكرياً وأخلاقياً ونفسياً، انفصل أكثر السوريين عن النظام، واستقلوا في وعيهم لذاتهم وفي نظرتهم إلى العالم. هذا غير مسبوق في تاريخ سورية منذ استقلالها. تجاوز الأمر كسر «جدار الخوف» والخروج من «مملكة الصمت»، وتحطيم أسطورة النظام المخابراتي الذي لا يُقهَر، إلى شعور قطاعات واسعة، وتتسع، من السوريين بالتفوق على النظام والاحتقار العميق له ولرجاله. انتهى السحر. ولقد كان النظام مصدر عون عظيم في ذلك حين لم يكتفِ بوضع نفسه نسقياً ضد تطلع محكوميه إلى الحرية والكرامة، بل جعل من نفسه رمزاً لذلهم وعبوديتهم في مشاهد باتت معروفة للسوريين وللعالم (تأليه بشار وأخيه، الدوس على الثائرين المقيدين ثأراً من هتافهم للحرية، الهتاف العلني تمجيداً للشبيحة والتشبيح: شبيحة للأبد/ كرمى لعيونك يا أسد!). إن نظاماً بلغ هذه الدرجة من الإسفاف والسفاهة جدير بسقوط سريع.
أبرز ملمَحَيْن لأجواء القطيعة والتجذر هما الظهور المتزايد لتعبيرات دينية إسلامية، ترسي القطيعة مع النظام على أساس أكثر إطلاقاً وصلابة؛ ثم لجوء متسع إلى مواجهة النظام وقواه بالعنف، من دون أن يقتصر ذلك على عناصر «الجيش الحر» المنشقين عن الجيش النظامي، وإنما يتعداه إلى مدنيين في عدد من مناطق البلاد. من وجهة نظر حقوقية، تبدو هذه تطورات مؤسفة، ولكن من وجهة نظر بنيوية، التديين أساس لا منافس واقعياً له للاستقلال الفكري، والعنف معادله الأقصى، المظهر الأبرز للتفوق على النظام في ساحته ذاتها. لكنّ لهذا ثمنه. فبينما يثير التديين المتنامي لبعض أقدم بؤر الثورة مخاوف بخصوص أوضاع سورية ما بعد الثورة، بخاصة إحلال هيمنة طائفية محل هيمنة طائفية، فإن عنفاً يمارسه مدنيون مستميتون يتسبب في ممارسات فوضوية، وعمليات انتقام أو «عدالة مباشرة» من دون إجراءات عادلة، ومن دون جوهر العدالة أيضاً.
ويساهم في هذين التطورين الأخيرين الانقطاع العريق بين النخب السياسية والثقافية والجمهور العام في البلد. فـ «مادة الثورة»، إن صح التعبير، هم عموم السكان في بيئات محلية منتشرة في مواقع شتى من البلد، والصلة بينهم وبين النخب الثقافية والسياسية ضعيفة بحكم ضآلة حجم النخب (متولد هو نفسه عن استتباع قطاعات منها وضرب قطاعات أخرى)، والطابع اللامركزي الشديد للثورة السورية أو كونها ثورة متعددة البؤر (يحول دون تلاقي «مادة الثورة و»صورتها» المحتملة)، وتعمد النظام اغتيال القيادات الميدانية الأبرز في بؤر الثورة النشطة، أو اعتقالها.
على أن محصلة تفاعل هاتين الديناميتين (تسارع تآكل النظام، والتجذر النفسي والاجتماعي للثورة)، تحافظ على طابع الثورة المركب، اجتماعياً وفكرياً. ويساهم ترسخ الميل العام إلى الاقتناع بأن النظام ساقط لا محالة، في توسع القاعدة الاجتماعية للثورة، بل يتيح قيام علاقة نقدية بعض الشيء بين مكوناتها.
تثير ممارسات يقوم بها ثائرون مسلحون محليون اعتراضاً علنياً من ناشطين سياسيين وحقوقيين، ومن مثقفين، وتبرز في الوقت ذاته مبادرات وتشكيلات سياسية وفكرية متنوعة، شبابية في الغالب، تحيل إلى غنى سورية المكبوت، وتظهر معنى جديداً للسياسة والعمل العام، لا يغاير النزوع المستجد إلى العنف والتديين، بل يقطع كذلك مع معهود المعارضة التقليدية، الثقيلة الفهم والبطيئة الحركة.
ولعل أكثر ما يعوّل عليه اليوم أن من شأن التيقن من السقوط القريب للنظام أن يدفع إلى حلبة العمل العام قوى جديدة، بما يعاكس الميل المضطرد إلى القطيعة والعنف. هذا حيوي لسورية المستقبل. فما قد يكون جيداً للثورة من حيث الصلابة والتجذر، ليس جيداً لسورية ما بعد الثورة التي ستلزمها المصالحة والاعتدال. لذلك فإن المصلحة العامة تقتضي السقوط الأسرع للنظام، قبل أن يتشكل تطبع الثورة الجاري في طبع لا يغلب.
وبينما لا يزال النظام بلا شك قادراً على إيقاع الأذى الرهيب ببيئات الثورة، وبالبلد ككل، فقد استنفد كلياً ميزته التفاضلية الجوهرية في مواجهة الثورة وفي الحكم، أي العنف السائل وبلا ضوابط. لقد أمعن في استخدامه، وخاض المواجهة مع الثورة منذ البداية بمنطق المعركة الفاصلة والأخيرة. وهو في سبيله إلى خسارة هذه المعركة حتماً. ولن يسعف التهديد بالضرب «بيد من حديد» من لم يضرب أبداً بيد من حرير، على ما قالت تعليقات ساخرة على آخر خطاب للسيد بشار الأسد.
هذا إلا إذا كان السيد يفكر في استخدام الطائرات الحربية التي دفع ثمنها الشعب السوري، في قصف المدن والبلدات السورية.
وحتى إذا...
[عن جريدة الحياة اللندنية]