تعد مصر من أوائل البلدان العربية التي تواجه تحدي التحول عن الحكم العسكري، وهو ما نجحت فيه العديد من بلاد أمريكا اللاتينية خلال العقدين الماضيين، ومن ثم فإن هناك الكثير من الدروس المستقاة من تلك التجارب، والتي قد تفيد رموز السياسة المصرية الحاليين، وهم مقدمون على إعادة التفاوض حول العلاقات بين العسكر والسلطة المدنية.
بما إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو الفاعل السياسي الرئيسي والأكثر تأثيراً على صياغة المفاوضات حول الدور المستقبلي للجيش، فإن النظر إلى سلوكه ونواياه يعد أمراً بالغ الأهمية. ويمكن القول إن المجلس العسكري ومنذ اللحظة الأولى قد سعى بوضوح للحيلولة دون إخضاع الجيش لسيطرة السلطة المدنية سياسياً أو اقتصادياً. ومن الواضح كذلك أن سعي المجلس العسكري إزاء هذا الهدف قد اتسم بكثير من التخبط والارتجال، والذي تعددت صوره من الإقدام المتكرر على تغيير تفاصيل خطته الإنتقالية والتناقض وسوء التعبير الذي شاب بياناته العامة والقمع الوحشي المصحوب باعتذارات غير جادة والبحث عن ذرائع واهية لتبرير موقفه وعدم الاستعداد للتنازل عن الحد الأدنى من السلطة لحلفائه من المدنيين في الوزارات المتعاقبة تحت إمرته، وكذلك اتخاذه لاستراتيجية عجيبة، مكنت القوى الإسلامية من التغلب على الإصلاحيين العلمانيين والقوى الثورية، وما أتت به من نتائج عكسية، وكلها دلائل تشير إلى قدر لا بأس به من عدم الكفاءة السياسية.
ما هو مصدر هذا التخبط؟ قد يلتمس البعض الإجابة في كون أعضاء المجلس العسكري من كبار السن الذين انحصر تدريبهم في إطار مؤسسي هرمي. وإذا أخذنا في نظر الاعتبار أن فارق السن بين الجنرالات (فاقدي الخبرة السياسية من الأصل) والشباب الثائر في الشارع يتراوح بين الأربعين أوالخمسين سنة، يتضح قدر انفصالهم عن البلد الذي يطمحون إلى حكمه. ولعل الأسلوب المتخبط وغير المتسق في الإدارة يقف دليلاً على هذا التفسير، وإن كان هذا الأسلوب ذاته يقدم تفسيراً آخر وهو أن المجلس العسكري، وربما المؤسسة العسكرية عامة، منقسمة على نفسها، وعندها يكون المسار المتعرج لأفعالها ناتجاً عن توتر داخلي وتحول في توازنات القوى داخل المجلس العسكري. وهو الأمر الذي قد يكون مدفوعا باختلاف في الرأي في أوساط رجال الجيش.
ولعل تفسيراً ثالثاً يكمن في كون المجلس العسكري قلق بشكل متزايد، على نحو يدفعه لردة الفعل المبالغ فيها إزاء التحولات السياسية، ويدفعه لمحاولة سحق معارضيه بدلاً من التغلب عليهم سياسياً. ولا ينبع القلق هنا من كون المجلس يفقد قبضته على السلطة فحسب بل كذلك لأن أفعاله قد أسهمت في عزله عن مؤيديه سواء في الداخل أوالخارج، في حين خلقت له أعداء ذوي بأس سرعان ما سيحاولون الاقتصاص منه. ومن سخرية القدر ما أشيع في بداية الربيع الفائت عن أمر صدر من المشير طنطاوي بترجمة الدستور التركي الصادر في 1982. (إلى العربية كي يكون بمثابة دليل عند كتابه الدستور المصري الجديد). والذي فرضه الجيش التركي في أعقاب انقلاب سبتمبر 1980. وإن صحت تلك الشائعة حينذاك فالاعتقاد أنه قد غير رأيه الآن إذ أن الجنرال التركي عينه الذي أصدر دستور 1982 ونصب نفسه رئيسا، كنعان إفرين، قد تم تحويله في ديسمبر الماضي للمحاكمة بمقتضى اتهام بارتكابه جرائم ضد الدولة! بينما يقبع خلفه في رئاسة الأركان (إيلكير باسبوغ) في السجن متهما بالتآمر للانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية. وبما أن الإخوان المسلمين يعلنون صراحة عن إعجابهم الشديد بالعدالة والتنمية وعن نواياهم بتبني النموذج الذي يقدمونه، فإنه على الجنرالات في المجلس العسكري أن يقلقوا من أن تطبيق النموذج التركي في مصر لن يؤدي إلى احتفاظهم بالسلطة بقدر ما سيؤدي لمشاركتهم مصير إيفرين وباسبوغ.
وبغض النظر عن التفسيرات المتعددة لسلوك المجلس العسكري، فالثابت أنه قد أصبح أكثر تصلّفاً وعنفا منذ اشتباكات محمد محمود، مع ميل متزايد للمخاطرة. وتتماشى مع ذلك الغارات الأخيرة التي شنها الأمن على منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وما تبعها من تصريحات غير حقيقية أدلى بها طنطاوي لوزير الدفاع الأمريكي، والحملة الإعلامية الشعواء التي اتهمت الحكومة الأمريكية بالضغط على دول مجلس التعاون الخليجي لمنعها من تقديم المساعدة المالية لمصر، وكلها دلائل على أن المجلس العسكري قد بدأ في عض اليد التي تطعمه.
وقد يفسر هذه الإستراتيجية المستفزة، أن المجلس العسكري قد بدأ في إتباع خيار شمشون في هدم المعبد على رأسه ورأس أعدائه. بأستعداء الولايات المتحدة وتحريض الرأي العام الداخلي ضدها وضد من يروج باعتبارهم عملاءها. ومن ثم يصبح المجلس العسكري هو حامي حمى الوطن، وهو ما يتفق مع الرسائل التي لا يفتأ المجلس العسكري في إرسالها بأنه إن لم يستمر في الدفاع عن الوطن فإن البلاد ستنهار، وهو ما يضع المصريين) أمام خيار واحد وحيد وهو إما ان يصطفوا تأييداً للمجلس العسكري. أو أن يصبحوا بمثابة خونة.
ولكن من غير الواضح إذا ما كان اعتماد المجلس العسكري لخيار شمشون نابعاً من اختيار جدي، أم أنه يستخدمها كورقة ضغط في يده لحفظ دوره المستقبلي في أي صراع سياسي محتمل، وربما مرتقب مع الإخوان المسلمين أو غيرهم. وبما إن دور الجيش المستقبلي هو صلب عملية التحول السياسي في مصر فإنه من المجدي النظر إلى ما حدث في أمريكا اللاتينية لنرى كيف تعامل السياسيون، وخاصة جنرالات الجيش، مع ظروف سياسية شبيهة.
وبالطبع هناك العديد من الدروس المستفادة من أمريكا اللاتينية حسب الدولة محل الدراسة، ومع الأخذ في الحسبان أن النمط العام في اغلب هذه البلدان، كان نقل السلطة من المؤسسة العسكرية إلى نخب ديمقراطية منتخبة، كما جرى في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور وبيرو وأوروجواي. مع إخضاع الجيش للسيطرة المدنية، فإن حالتي البرازيل وتشيلي، تعدان الأشهر والأحرى بالتقصي. ففي حالة البرازيل هيمنت المؤسسة العسكرية على المجال السياسي طيلة واحد وعشرين سنة (1964-1985)، تعاقب فيها خمس جنرالات في منصب رئيس الدولة (في حين لم يكن القمع شديداً). بينما في حالة تشيلي انعقد زمام الحكم لأوجوستو بينوشيه وحده تقريبا بعد انقلاب 1973، واستمر الوضع هكذا لحين إجراء أول انتخابات ديمقراطية في 1989، وتميزت فترة الحكم العسكري بمستويات مرتفعة للغاية من القمع.
ومن موضعنا الحالي في 2012، يمكن رؤية عدد من التشابهات بين مصر وتجربتي التحول الديمقراطي هاتين. أولاً: جرى التفاوض بخصوص التحول السياسي من جانب رموز سياسية جديدة، سعت لإتاحة مجموعة من الشروط أو التفاهمات التي يفترض بموجبها أن تشعر المؤسسة العسكرية بالأمان ضد القصاص، بعد تسليمها السلطة. وثانياً: سعت القوى السياسية المدنية إلى تجنب أي مواقف راديكالية بشكل واع، كي لا يتاح للعسكر أي مسوغ للاحتفاظ بالسلطة السياسية. وثالثا: في المقابل تطورت المؤسسات السياسية تدريجياً بما في ذلك دور وموقع المؤسسة العسكرية، كي تصبح أكثر ديمقراطية وتمثيلية. ورابعاً: لا تزال عملية التحول الديمقراطي مستمرة حتى الآن، بحيث تصبح معه الديمقراطية هي (اللعبة الوحيدة في البلاد).
واختصارا فإن التحول الديمقراطي في البلدين كان عملية تميزت بالمحافظة والتحفظ، على نحو أتاح للمؤسسة العسكرية لبعض الوقت عدداً من الضمانات في حين استغرق التحول نفسه نحو نظام ديمقراطي وقتاً طويلاً للغاية. وفي حالة تشيلي، جرت إعادة التفاوض حول الضمانات الممنوحة للعسكر، بين السلطة المدنية والجيش، بحيث تمت مقاضاة أولئك الذين تورطوا بشكل فج في انتهاكات حقوق الإنسان، أثناء الديكتاتورية العسكرية. وكما هو الحال في اغلب عمليات التحول الديمقراطي في حقبة ما بعد الحرب البادرة، كان دور القوى الخارجية، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، محدودا للغاية.
ولعل الدرس الأساسي المستفاد من حالات أمريكا اللاتينية، هو أن التحول الديمقراطي، وتدعيم النظام الديمقراطي الناشئ، كان تدريجياً وطويل الأجل. وقد اعتمدت درجة الأمان المضمونة للجنرالات ورجالات الجيش بعد تسليمهم للسلطة السياسية على مدى توفر قبول واسع للشروط المتفق عليها للخروج من السلطة، حسبما تم التفاوض بشأنها. وهو ما ينقلنا للسياق المصري مرة أخرى، حيث أن تداعيات هذه الدروس للمجلس العسكري، هي أن مآل الأمور في نهاية المطاف سيكون خضوع القوات المسلحة للسلطة المدنية، رغم أن هذا سيحدث غالباً فيما بعد وليس الآن. ومن ثم فإن الضمان الحقيقي للجنرالات، ضد احتمال مقاضاتهم مستقبلياً بتهم تتعلق بالجرائم المرتكبة أثناء وجودهم في السلطة، يقتضي ألا يقصروا الاتفاق الحالي مع الإخوان المسلمين فحسب، إذ أن مثل هذا الاتفاق لن يُحْتَرم من قبل القوى السياسية الآخرى التي قد تصل للسلطة في المستقبل، وقد تسعى للاقتصاص مثلما حدث تماماً في الحالة التشيلية.
تعليق وتعقيب
يستدعي المقال حالات مقارنة غاية في الأهمية، من بلدان أمريكا اللاتينية التي شهدت تحولاً ديمقراطياً في العقود الثلاثة الماضية، وكيف تمت إعادة صياغة علاقات المؤسسة العسكرية، بالسلطة المدنية المنتخبة. وكما يخلص المقال فإن اغلب هذه التحولات استغرق وقتاً طويلاً (عقوداً)، حتى تدعمت بنية الديمقراطية، وفي القلب منها خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية. وهو أمر يبدو أن مصر مرشحة له في ضوء ما يشاع حول التفاهمات المتحققة بين الإخوان المسلمين، أصحاب الأغلبية الجديدة بالبرلمان، والمجلس العسكري. ومن هنا فإن حديث سبرنجبورج، عن النموذج التركي الذي يقدمه حزب العدالة والتنمية، لا النموذج التركي القديم الذي سبق وقدمه الجيش التركي بعد انقلاب 1980، يكتسب أهمية خاصة حول ملابسات وفرص ما يسمى بالخروج الآمن. والحق أن الحديث عن الخروج الآمن بالمقارنة مع أمريكا اللاتينية في غير محله في سياق مصر. لأن المؤسسة العسكرية منذ نهاية عصر عبد الناصر غير منخرطة مباشرة في حكم البلاد، وإنما ارتبطت بأنظمة الحكم المتتابعة من خلال أمرين، الأول: هو إمداد النخبة الحاكمة بعسكريين سابقين يخلعون البزة العسكرية ويصبحون ساسة وبيروقراطيين ورجال أعمال ويعملون بمؤسسات الدولة، خاصة مؤسسة الرئاسة. وهذا هو حال رموز النظام السابق ورجالاته الأقوياء (سابقا). والذين أتوا جميعاً من خلفيات عسكرية ومخابراتية. والثاني: هو تمتع ضباط الجيش بامتيازات اقتصادية في المقام الأول. من خلال الاقتصاد العسكري الذي لا يدري أحد ما هو حجمه أو قيمته المضافة أو عدد العاملين به. ومن خلال المخصصات غير المكشوف عنها من الموازنة العامة للدولة، وكذلك من خلال المعونات العسكرية والاقتصادية. ويضاف إلى ذلك إقطاع مساحات معينة من جهاز الدولة لصالح العسكر لمد شبكات الزبونية والمحسوبية للمتقاعدين منهم، كحال المحليات وبعض الهيئات العامة ومنها: قناة السويس والبترول على سبيل المثال لا الحصر. ويعود تراجع دور المؤسسة العسكرية المباشر في السياسة إلى نهاية الخمسينيات، مع توطد سلطان عبد الناصر كزعيم أوحد، وتأكد بعد نكسة 1967، والحاجة لإعادة بناء الجيش والمخابرات بمعزل عن التسييس. وأخذت صيغة دور الجيش غيرالمباشر شكلها النهائي في ظل حكم السادات ومن بعده مبارك. وهو مايتناقض تماماً مع حالات أمريكا اللاتينية (وتركيا في هذا الشأن)، التي استولى الجيش فيها على السلطة في فترات متباينة من الخمسينيات إلى السبعينيات، عبر انقلابات تمخضت عن استيلاء هيئة الأركان، أو جهة منظمة ما داخل الجيش، على السلطة السياسية. ومن ثم كانت المؤسسة العسكرية كمؤسسة بكليتها منخرطة في وضع السياسات وإدارة السلطة والثروة، وكذلك ممارسة انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق ومن هنا كان الخروج الآمن لازماً لإتاحة فرصة للتحول الديمقراطي في هذه البلدان. حيث كان جنرالات الجيش متورطين بشكل مباشر في الحكم، وفي الانتهاكات، وهو ما لا يقع في الحالة المصرية (باستثناء المحاكمات العسكرية ربما). ولا يمكن مقارنة انتهاكات المرحلة الانتقالية، من قتل وتعذيب واعتقال بحق المئات بأشكال مؤسساتية من القمع وإرهاب الدولة في شيلي والأرجنتين والبرازيل أسفرت في المثالين الأولين عن مقتل ما يربو عن ثلاثين ألف وتعذيب واختفاء واعتقال آلاف غيرهم.
برأيي، إن إشكال الخروج الآمن في مصر لا يمس الجنرالات المتورطين في الانتهاكات أو القمع، إنما يمس وضع المؤسسة العسكرية ككل وبأفرادها بعد التقاعد في العلاقة بجهاز الدولة وبالاقتصاد، وخاصة الامتيازات التي طالما أسندت للعسكر بشكل رسمي وغير رسمي. طيلة عقود من وجود نظام يوليو، هذا القسم غير المعلوم من الناتج المحلي ومن الأصول العامة ومن الأرصدة ومن مخصصات الموازنة العامة، وتلك الامتيازات في هيئات وقطاعات ذات خطر، كقناة السويس والبترول. اللذان يشكلان معا ما يقارب من ثلث الإيراد العام! هذه الشبكة الممتدة من المزايا، والتي لا تمثل مصالح أجهزة قوية وفاعلة حتى بعد سقوط مبارك، وإنما تعكس مصالح إقليمية وعالمية، ارتبطت بموقف القوات المسلحة المصرية في المقام الأول، وموقف نظام مبارك في المقام الثاني، كاحترام اتفاق كامب ديفيد، والالتزام بأمن الخليج، ومكافحة الحركات الإسلامية المسلحة، فليست صدفة أن يستهدف الأمريكيون المؤسسة العسكرية من خلال المعونة، لا السادات وحزبه الحاكم عند عقد اتفاق السلام مع إسرائيل. فهم يعرفون وغيرهم يعرف تمام المعرفة أن هذا هو الجزء الباقي من الدولة والنظام في مصر وقد تحقق بعد نظرهم بعد ما يزيد عن ثلاثين سنة. فها قد سقط مبارك، ولكن تقف نخبة البلاد العسكرية والأمنية قوة رادعة لاستمرار موقف مصر كما هو، ولعزل السياسة الخارجية عن تحولات الساحة الداخلية. وهو ما يتيح الفرصة لربط مصالح هؤلاء في الداخل بمواقف البلاد في الخارج. إن هذا هو مربط الفرس ومحل التفاوض وموطن الإشكال، لا الخروج الآمن من انتهاكات تنسب للجنرالات (رغم صحتها في الغالب).
ويسهل هذا الوضع من مهمة الإخوان المسلمين (وربما أطراف سياسية أصغر)، في التوصل لاتفاق ما يضمن إخلاء الساحة السياسية لنخبة مدنية منتخبة، مقابل ضمان الامتيازات الراسخة للمؤسسة العسكرية وكبار أفرادها، ومعهم المخابرات بالطبع، مع منح ضمانات بخصوص السياسة الخارجية في مسألتي إسرائيل وأمن الخليج. وهو أمر مقبول من جانب الإسلاميين قاطبة على ما يبدو. ولكن المشكلة في هذه الحالة هي أن هذا لا يضع مصر في الطريق إلى تركيا حيث كان الجيش هو حارس أركان الكمالية والقومية في مواجهة النخب الحزبية، والبرلمانية، حتى تم إخضاع الجيش نهائيا للسلطة المدنية بين 2008 و2011، وإنما يقربها من نماذج الدول الفاشلة التي استقل فيها الجيش عن الدولة، وأضحى دولة داخل الدولة، وهنا تجدر الإشارة إلى باكستان، التي يحتفظ فيها الجيش بامتيازات هائلة، وترتبط مصالح قياداته بمصالح جيوسياسية ماسة بالوضع في جنوب آسيا ووسطها والخليج الفارسي والشرق الأقصى. وهناك الجيش دولة داخل الدولة، له مصالحه وإقطاعياته ونصيبه من الناتج والموازنة. ولكنه ليس خارج اللعبة، لأن هذه المصالح ذاتها تقتضي منه التدخل من وقت لآخر للدفاع عنها تارة خفية بالاغتيال والإرهاب، وصراحة تارة أخرى بالانقلاب كما وقع في الخمسينيات مع الجنرال أيوب خان وفي السبعينيات مع الجنرال ضياء الحق وفي التسعينيات ومدخل القرن الحالي مع الجنرال برفيز مشرف. حيث أن الجيش في باكستان، ليس كتركيا. لأنه لا يلعب دور الحارس لشكل معين من الدولة بدافع أيديولوجي، رغم أن دوره قد بدأ هكذا في مواجهة الهند. ولكنه تخلى عن هذا الدور، وتحول إلى مجموعة مصالح مدعومة بالسلاح والمال والعلاقات ومستندة إلى خلفية اجتماعية وإقليمية قوية، تتيح له الصراع مع غيره من القوى الإجتماعية والسياسية في ساحة باكستان السياسية، والتي تحولت فيها الدولة، وخاصة جيشها المدجج بالسلاح التقليدي والنووي، إلى مجرد جماعة ضمن جماعات تتصارع، وهو ما يعني فعليا نفي مفهوم الدولة الحديثة.
[بقلم روبرت سبرنبورج وتوماس برونو ونشر بالإنجليزية على صفحة المصري اليوم . ترجمة وتعليق عمرو عادلي]