أرى رجلاً في الأربعينيات. أو أنني لا أعرف كم يبلغ من العمر. ربما يكون في العشرينيات أو الثلاثينيات. الكدمات تملأ وجهه. شفته العليا متورمة من آثار الضرب. عيناه كحبتي خوخ يانعتين. مكبل اليدين. يرتدي كنزة قطنية بلا أكمام، تعكر بياضها آثار دم طازج. أحاول مشاهدة الفيديو. أقرأ تحذيراً يشير إلى أن الشريط يحتوي على مشاهد عنيفة. أصرّ على مشاهدته. إلا أنني لا أصمد طويلاً. أعرف ضمناً أنني قبل سنوات، لم أكن لأصمد على الإطلاق. وتدهشني فكرة الاعتياد والتأقلم. كيف يصبح العنف جزءاً من الحياة. يصبح مجرد مشهد اعتيادي، مثله مثل نشرات الأخبار والأفلام. تعتاده العين. وصوت الوجع والأنين تعتاده الأذن. والإحساس بالقهر والإهانة، تعتاده الروح، لكنه لا يتوقف عن النمو. ينمو ويطوف ويطغى. وكأنه ينهش الروح ببطء.
في لحظة معينة، ثمة تفاصيل تفقد أهميتها. أعرف ذلك. من يقتل من؟ من يعذب من؟ من يصفع من؟ القضية تخرج من حيّز المعلومة إلى فضاء أوسع وأكثر خطورة. من يشاهد الفيلم القصير والموحش الذي أتحدث عنه، لن يحزر ربما هوية الطرف الذي يمارس التعذيب المعنوي والجسدي على طرف آخر مكبّل اليدين، الإهانة تطفح من نظراته المكسورة. ليس العنف أمراً نسبياً. ما البال إن كان الطرف الذي يمارس ذلك العنف، هو نفسه الذي خرج إلى الشارع معلناً ضجره من الإهانة، مطالباً بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. هل يتساوى العنف مع العنف؟
"علّي صوتك ولاك". يقول المحقق. لحظة! نبرة الصوت ليست غريبة. ولا تشبه أيضاً نبرة الأصوات التي نسمعها تغني بأفواه ملآنة بالسعادة. أفواه تنادي للحرية والسلمية، تغني للكرامة والتغيير. نبرة صوت المحقق، مزروعة في الذاكرة، في فضاء المفرزة الأمنية، على جدران السجون ومخافر الشرطة. لا أريد أن أعرف إن كان الرجل الملطخ بالدماء والمتورم والمهان، مجرماً. لا يعنيني أن أعرف. لقد رأيت ضحية تتلّوى. شعرت بوجعها. تسلل إلى قلبي فيض من الإهانات التي تتعرض لها. وكأن المحقق والشهود والمصوّر، جميعهم متواطؤون. حتى وإن كان الضحية مجرماً، استطاع المحقق بنبرة صوته العنيفة والمتعالية والمتعجرفة، بممارسته التعذيب، بسحب الأجوبة بالقوة من فم متورم، أن يحّول ذلك الجلاد إلى ضحية بلمح البصر. ضحية تثير الشفقة والتعاطف.
تلك المشاهد، إهانة لكرامة كل مواطن سوري حر. أخشى أن نعتاد بعد فترة من الزمن على تلك النبرة، تنمو وتطوف وتطغى. وكأنها تنهش الروح ببطء.