كانت مناقشة مشروع تعديل قانون السلطة القضائية مناسبة لحلقة جديدة من مسلسل الصراع القديم المتجدد بين جناحي العدالة. البداية جاءت تزامنا مع اجواء ثورة 25 يناير 2011 والرغبة في تدعيم دولة القانون حيث شكل رئيس مجلس القضاء الأعلى لجنة لإعداد مشروع قانون السلطة القضائية. وبعدما انتهت اللجنة من أعمالها عرض المشروع على كل المعنيين والمهتمين بالشان القضائي. وقد قوبل هذا المشروع بترحيب على المستوى الشعبي إلا انه قوبل باعتراض شديد من جانب المحامين بدأ بتصريحات غاضبة وانتهى بغلق للمحاكم. من النقاط التي أثارت الأزمة النص في المشروع المقترح على أن المحامين من أعوان القضاء شأنهم شأن الكتبة والمحضرين والخبراء. بينما ينص قانون المحاماة في مادته الأولى على أن المحامين شركاء القضاء في تحقيق العدالة وسيادة القانون. يضاف إلى ذلك ما ورد في المشروع من تخصيص نسبة من الغرامات المحكوم بها والكفالات للقضاة. وهذا من شأنه إن يغري بعض القضاة باستبعاد أحكام البراءة. كما أن طريقة تعيين أعضاء السلك القضائي كما وردت في المشروع المقترح أثارت تخوف المحامين من تعميق عدم الشفافية الذي هيمن على اختيار هؤلاء في ظل النظام السابق.
لم تندلع أزمة القضاة والمحامين الأخيرة بسبب بعض المواد المقترحة في مشروع قانون السلطة القضائية فحسب، (جدير بالذكر أن المادة الخاصة بجرائم الجلسات هي التي استحوذت على أكبر قدر من الاهتمام هي المادة 18). اقتراح هذه المواد هو القشة التي قصمت ظهر البعير والتي أيقظت مشاعر عدائية يضمرها كثير من القضاة والمحامين تجاه بعضهم البعض منذ زمن طويل. اذا، تناول الأزمة يحتم علينا البحث في الأسباب العميقة لهذا "الصراع" (أو لهذه "الازمة" كما سماها الإعلام المصري) الذي شاهدناه مؤخرا لأن قصر أسباب الأزمة على مجرد خلاف في وجهات نظر قانونية بخصوص بعض المواد القانونية المقترحة لن يمكننا من فهم أبعاد الأزمة بشكل صحيح. تلك الأبعاد بالأساس إجتماعية ولها أيضا جذور تاريخية. هذه الأبعاد تتمثل بشكل أساسي بالعلاقة الملتهبة بين القضاة والمحامين الناتجة عن عدم وجود مصالح مشتركة أو حتى علاقات تواصل بين جناحي العدالة مما أوجد مناخا عدائيا وسهل من إمكانية حدوث مواجهة بينهما.
نبذة عن المهن القانونية في مصر
كما قلنا من قبل، أزمة القضاة والمحامين لها أبعاد اجتماعية. لذلك علينا أن نلقي الضوء على وضع أرباب المهن القانونية في مصر مع التركيز على طريقة دخول سلك القضاء أو المحاماة. فبالمقارنة بباقي الموظفين العموميين، القضاة هم ربما الأفضل حالا من الناحية المادية. بالإضافة إلى ذلك القضاة يحظون باحترام كبير عند الشعب المصري. ولأن الأماكن محدودة في القضاء، فهناك منافسة قوية بين جميع دارسي القانون للالتحاق بوظائف القضاء. للأسف فإن الغالبية العظمى من المقبولين في سلك القضاء ينتمون للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة.(ليس لأنهم الافضل علميا ولكن لأن هناك اضطهادا للطبقات الفقيرة في مصر. فلقد جرى العرف في السنين الأخيرة على اعتبار أن المنتمين إلى الطبقة الفقيرة "غير لائقين اجتماعيا" لتولي وظائف الدولة المرموقة مثل القضاء).
أما بالنسبة للمحاماة، فإن مكانتها الاجتماعية لم تعد مثلما كانت في النصف الاول من القرن العشرين. ويستطيع أن يصبح الانسان محاميا بمجرد حصوله على الإجازة في القانون دون الحاجة إلى دخول مسابقة او امتحان. لذلك فإن الأغلبية الكاسحة للمحامين هم ممن لم يستطيعوا الإلتحاق بسلك القضاء لعدم كفاية تقديرهم الجامعي أو لوضعهم الاجتماعي. نتج عن ذلك أن "جناحي العدالة" يختلفان كثيرا في تكوينهما ولا تربطهما أواصر وعلاقات باستثناء علاقات الزمالة في الجامعة (اختلاط قضاة ومحامي المستقبل في الجامعة بدأ يندثر لأنه في السنين الاخيرة ظهرت أقسام الدراسة باللغات الاجنبية في كليات الحقوق والتي يدرس فيها أبناء الطبقة الوسطى - الذين يصبحون فيما بعد قضاة - بينما يدرس أبناء الطبقة الفقيرة - الذين سيصبحون محامين - في القسم العادي). وما يزيد العزلة بين القضاة والمحامين أن الإنتقال بين المهنتين نادر الحدوث عكس ما يحدث في باقي دول العالم وبخلاف ما ينص عليه القانون من وجوب تعيين محامين في المناصب القضائية. بالطبع هناك تدن في المستوى العام للمحامين ولكن هناك أيضا رفض من جانب القضاة لفكرة الإنفتاح على المحامين. خلاصة القول أن اختلاف القضاة عن المحامين اجتماعيا وعدم وجود جسور تواصل بين أعضاء المهنتين (الذين يتعاملون مع بعضهم البعض يوميا) يخلق مناخا مشحونا يهيئ لقيام أزمات وصراعات ولا يساعد على وجود حلول للأزمات التي قد تنشأ، لأنه من الصعب وجود وسيط غير محسوب على طرف دون الآخر. فمن شبه المستحيل وجود أشخاص عملوا في جناحي العدالة لفترة طويلة.
نظرة المحامين للقضاة:
ينظر كثير من المحامين للقضاة على أنهم اشخاص تبوأوا مناصبهم عن طريق العلاقات الشخصية والعائلية (وأنهم يورثون مناصبهم لاولادهم). وهذه النظرة فيها قدر من الصحة. فليس خافيا على أحد أن ذوي القربى كانوا أكثر حظا من أصحاب الكفاءة فيما يخص تولي المناصب في عهد مبارك. وبما أن المحامي والقاضي كانوا زملاء دراسة في الجامعة، فسنجد أن كل محام كان شاهدا على حالات عدة عين فيها أشخاص هم بالنسبة إليه اقل منه علما في منصب القضاء بينما لم ينل هو هذا الشرف ليس لأن مؤهله العلمي غير كاف ولكن لأنه من اسرة بسيطة. إن المحامي الذي شاهد هذا التجاوز الصارخ للقانون في التعيين في المناصب القضائية لن يفقد الثقة في هذا الجهاز القضائي فحسب، بل سيحمل ضغينة في قلبه تجاه أولئك الذين منعوه من اعتلاء منصة القضاء، وهو يشعر أنه اكثر جدارة بها.
نظرة القضاة للمحامين:
حصانة القضاة أمر ضروري لاستقلال القضاء. ومن الضروري أيضا توفير مرتبات عالية للقضاة حتى ينعموا بمستوى معيشة مرتفع يتناسب مع ظروف وظيفتهم. وفي مصر يتوفر ما سبق للقضاة الى حد كبير. فدخول القضاة - بالنسبة لدخول باقي موظفي الدولة- مرتفعة نوعا ما (وإن كان من المرجو زيادتها). المشكلة في مصر هي أن السلطة السياسية أعطت مزايا للقضاة غير موجودة في باقي دول العالم وغير ضرورية لاستقلال القضاء. وهذا "التدليل" يتمثل على سبيل المثال في عدم خضوع القاضي لقوانين المرور (فالقاضي يستطيع ترك سيارته في أي مكان في الشارع ويختار ربط حزام الامان من عدمه). اما إعلاميا فقد تم تدليل القضاة باختراع مبدأ غريب هو عدم جواز التعليق على الاحكام القضائية. والمقصود بهذه العبارة في السياق المصري هو عدم جواز مناقشة حكم القاضي وليس فقط عدم التعرض لشخصه أو عدم إهانة المؤسسة القضائية) كما لو كان القاضي منزها عن الخطأ وحكمه منزلا من السماء).
بالاضافة إلى ذلك نجد أن الخطاب الاعلامي الذي يتناول القضاء وشؤون القضاة مليء بعبارات التبجيل والتقديس الرنانة الفضفاضة التي لا تطلق على أي مرفق آخر في الدولة (باستثناء القوات المسلحة) مثل "القضاء هو حصن العدالة المنيع" و"القضاء المصري شامخ"و"القضاء المصري العادل والنزيه". مظاهر تدليل القضاة السابق ذكرها - التي لا يستلزمها الاحترام الواجب للقضاة والتي لا نجد مثيلا لها في باقي الدول - من شأنها إضفاء هالة من التقديس حول القضاة وخلق انطباع لدى القضاة والشعب المصري أن القضاة لا يخضعون للقانون كباقي المواطنين وأنهم منزهون عن الخطأ وأنهم من طينة اخرى غير التي خلق منها الشعب المصري. للأسف فإن بعض القضاة يتصرفون من هذا المنطلق ويتعالون على من هو ليس بقاض. والمحامون هم من أوائل ضحايا تعالي بعض القضاة بحكم مهنتهم التي تجعل التعامل مع القضاة ضرورة شبه يومية. وكثيرا ما تقع بعض الاحتكاكات الفردية بين قضاة ومحامين يتم احتواء معظمها ولكن بعض هذه الاحتكاكات يتطور وتتحول لمعركة بين القضاة والمحامين (وأبرز مثال لذلك ما حدث في عام 2010 وهو ما عرف إعلاميا بقضية محامي طنطا).
محاولة لفهم سبب اقتراح المادة 18 بشأن جرائم الجلسات من جانب القضاة:
بداية يجب الإعتراف بأن تحديد جرائم الجلسات وعقوبتها مكانه ليس في قانون السلطة القضائية (قانون السلطة القضائية الحالي لم يتناول هذه المسألة واكتفى بالاشارة إلى أن نظام الجلسة وضبطها منوطان بالرئيس). فهذه المسالة ليست متعلقة بنظام القضاء واستقلاله بقدر ما هي متعلقة بنظام الجلسات. وبالتالي فإن تقرير جرائم الجلسات يجد مكانه في قوانين المرافعات والإجراءات الجنائية وهو ما جرى عليه العمل في القانون المصري. نخلص مما سبق إلى انه لا توجد ضرورة قانونية أو حتى تبرير تاريخي لتناول مثل هذه المسالة في قانون موضوعه تنظيم السلطة القضائية وضمان استقلالها. السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تم إدراج هذه المادة في مشروع القانون الذي أعده القضاة؟ سبق أن أوضحنا من قبل أن العلاقة بين القضاة والمحامين في مصر ليست على مايرام. فهناك تعال تاريخي من بعض القضاة على المحامين. هذا التعالي قد يترجم في نصوص تزيد من سلطات القاضي وتنتقص من حقوق المحامي. ولكننا نرى أن هذا التعالي ليس السبب الوحيد وراء إدراج هذه المادة.
المادة 18 تعبر أيضا عن حالة قلق مشروعة انتابت القضاة منذ سقوط مبارك.
ففي يوم 28 يناير 2011، اختفت الشرطة من شوارع مصر وعندما عادت إلى الشوارع لم تكن متواجدة بشكل كاف مما جعل مصر تعرف ما سمي "بالإنفلات الامني". ولم يسلم القضاة ولم تسلم محاكمهم من غياب الشرطة واستغل البعض هذا الظرف وقاموا بمهاجمة القضاة وتهديدهم واقتحام قاعات الجلسات واصبح التعدي على القضاة اثناء أداء عملهم ظاهرة تتكرر في محافظات مختلفة. وبجانب هذه الاحداث المؤسفة تحمل القضاة الذين أسندت اليهم مهمة الفصل في قضايا رموز النظام السابق ضغطا شعبيا كبيرا. فمن ناحية ينتظر الرأي العام أحكاما معينة بالإدانة لرموز النظام السابق. ومن ناحية أخرى يجب أن يقضي القاضي بناء على ما هو مطروح أمامه من أوراق وطبقا للقانون. ولا نذيع سراً أن تحقيقات النيابة العامة لم تكن على المستوى المطلوب - عن عمد أو لظروف الإستعجال - فكان من نتيجة ذلك تبرئة كثير من المتهمين مما كان من أثره زيادة الضغط (والغضب) الشعبي على القضاة.
ولم يجد القضاة من السلطة السياسية والأجهزة الامنية رغبة فعلية واضحة في التصدي لظاهرة استهداف القضاة ماديا ومعنويا والتي اخذت أبعادا غير مسبوقة (ربما يكون تخاذل السلطات مقصودا لكي تتخذ ذريعة للتوسع في اللجوء الى المحاكمات العسكرية بحجة أن الامن غير متوفر في المحاكم العادية). في هذه الظروف الملتهبة جاءت المادة 18 كصرخة أطلقها القضاة في وجه الإنفلات الامني والعجز الرسمي عن حماية القضاة. ويبدو أن بعض القضاة ظن أنه قد يجد الحماية التي يبحث عنها في نص قانون السلطة القضائية. ولم يراع من صاغ القانون أن من شأن هذه المادة المساس بحق الدفاع أو أنها على الاقل قد تفهم على هذا النحو. وربما يكون هدف المادة 18 المقترحة هو لفت الإنتباه لخطورة الانفلات الأمني على سير العدالة. وربما كان الهدف تفاوضيا بحتا بمعنى أنه تم رفع سقف مطالب القضاة حتى يستطيعوا أن يتنازلوا عن بعضها بعد ذلك.
المزايدات الانتخابية وتاثيرها على الازمة:
إعتراض المحامين على صياغة المادة 18 أمر مشروع ومتوقع خاصة إذا وضعنا في الأعتبار العلاقة المتوترة بين القضاة والمحامين والأجواء الثورية في مصر التي تشجع على أن يعبر الانسان عن رأيه بحرية (أو حتى بعنف نظرا لغياب الشرطة). ولكن ما قام به المحامون من تصعيد للأمر وإغلاق للمحاكم بالجنازير لا يتناسب مع مجرد مادة مقترحة مطروحة للنقاش من أشخاص لا يملكون تحويل هذا النص المقترح إلى مادة ملزمة. إذا كان المحامون يرغبون حقا في عدم صدور هذه المادة كان عليهم أن يخاطبوا المجلس العسكري الذي بيده سلطة اصدار قانون السلطة القضائية او أن يتناقشوا مع من اقترح المادة الخلافية. لو اعتبرنا أن اقتراح المادة 18 بهذه الصياغة جريمة فإن رد فعل المحامين تجاوز حدود "الدفاع الشرعي". السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا هذا العنف غير المبرر؟ بجانب الأسباب التي سبق ذكرها (الاجواء الثورية) هناك سبب آخر له علاقة بالظروف في المرحلة الحالية. هذه الأزمة اندلعت قبل اسابيع قليلة من اجراء أول انتخابات لنقابة المحامين بعد الثورة. وليس خافيا على أحد أن بعض المرشحين أرادوا أن يجذبوا الأضواء وأن يظهروا أمام جموع المحامين على أنهم المدافع الأصيل عن كرامة المحامي. هذه المزايدات الانتخابية اعتمدت على مشاعر السخط الدفينة التي يكنها كثير من المحامين بالنسبة لكثير من القضاة. ربما اعتقد بعض المحامين ألا خطورة من التصعيد حتى لو كان عنيفا لأن المجلس العسكري الحاكم لم يبد رغبة في ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم العنف اللهم إلا اذا كانوا من شباب الثورة.
هل انتهت الازمة؟ قد يظن البعض أن الازمة بين القضاة والمحامين انتهت لأن إقرار قانون السلطة القضائية قبل انتخاب المجلس التشريعي لم يعد مطروحا ولأن اخبار الأزمة لم تعد محور اهتمام وسائل الإعلام. ولكننا نرى غير ذلك، فالازمة لم تنشأ بسبب عدة مواد قانونية مطروحة للنقاش. الأزمة لها جذور أكثر عمقا يجب معالجتها إذا أردنا ألا تتكرر. فالازمة تم اخمادها ولم تتم معالجتها. وطريقة إخماد الأزمات ومواجهة المشاكل عن طريق "المسكنات" هي للأسف من مخلفات عهد مبارك الذي لم يتم فيه أخذ قرار حاسم بالنسبة لأي مشكلة سياسية أو اجتماعية مطروحة. تحسين العلاقة بين جناحي العدالة لن ياتي إلا عن طريق معالجة الاسباب العميقة للعلاقة المتوترة بين القضاة والمحامين. على سبيل المثال لا الحصر يجب إنهاء أي نوع من التمييز غير القانوني عند التعيين في المناصب القضائية. لا بد من تنظيم مهنة المحاماة حتى لا تصبح مهنة من لا مهنة له وحتى تستعيد وقارها. يجب بناء جسور وإقامة مساحات مشتركة بين القضاء والمحاماة لزيادة التقارب بين المهنتين ووأد أي خلاف قد ينشأ نتيجة سوء فهم أو تضارب مصالح. ويجب ان يسأل القضاة الذين يتعسفون مع المحامين في استخدام سلطاتهم. يجب أن تقوم الاجهزة الامنية بدورها في حماية القضاة وجلسات المحاكم. يجب الإنتهاء من عقد جلسات صلح عرفية يتم فيها مساواة الجاني مع المجني عليه ويتم فيها تجاهل القانون. باختصار، لتحسين العلاقة بين القضاة والمحامين، يجب تطبيق القانون وهو ليس صعب المنال بالنسبة لمن مهمتهم تفسير القانون وتطبيقه.
[عن مجلة المفكرة القانونية]