يسعى هذا المقال إلى إعادة فتح منظومة العلاقات بين فلسطينيّي 48 والنظام الصهيونيّ الاستعماريّ الذي يرزحون تحته منذ أن تَشكَّلَ كدولة عام 1948. وهو إذ يسعى في ذلك، سيقوم بفحص موقع الفلسطينيّين البنيويّ في هرميّة العلاقات الاستعماريّة، أي إنّ ما يهمّنا هنا هم الفلسطينيّون وورطتهم البنيويّة مع /في النظام الصهيونيّ. إنّ قراءة هذه الورطة لا يمكن لها أن تتمّ بمعزل عن سائر أجزاء المجتمع الفلسطينيّ، وإن كانت هذه القراءة، بحدّها الأدنى، ترمي إلى إبراز أوجه التشابه والاختلاف بينهم من حيث تَمَوْضُعهم تجاه النظام الصهيونيّ الاستعماريّ. ونودّ أن نبدأ هذه القراءة ممّا يبدو أنّه يميّز هذه الجماعة من الفلسطينيّين عن سائر المجتمع الفلسطينيّ، وهو التعلّق شبه التامّ المادّيّ الاجتماعيّ لهذه الفئة بالنظام الصهيونيّ وما ينتج عن هذه التبعيّة التامّة من سلوك فرديّ وجماعيّ، ومن بِنًى شعوريّة وأنماط من الوعي المرافق لها والناتج عنها. وسنسعى لبحث هذا التعلّق المادّيّ الاجتماعيّ بثلاثة مستويات متشابكة، وإن كانت متمايزة من حيث منطق عملها. المستوى الأوّل الحيّز الجغرافيّ-الفضائيّ، المستوى الثاني سبل العيش، أمّا المستوى الثالث فهو حيّز الوعي. المداخلة الأساسيّة لهذا المقال أنّ شكلاً محدَّدًا تاريخيًّا غير ضروريّ من العلاقات بين المستويات الثلاثة أنتج نمطًا عامًّا من التواطؤ من قبل المستعمَر مع النظام الاستعماريّ، يمكّن الطرفين من أن يعيشا ويتعايشا معًا. والسؤال هنا يصبح حول تشخيص وتفسير هذا التواطؤ، ومن ثَمّ طرح إمكانيّات تجاوزه في السعي من أجل الخروج من النظام الاستعماريّ الصهيونيّ.
إنّ العلاقة الأساسيّة التي تحكم التواطؤ هي معادلة تبدأ من تشكيل خطابيّ يقول إنّه لا بدّ للفلسطينيّين -كي يكون في مستطاعهم أن يعيشوا، مادّيًّا- أن يقبلوا إحداثيّات النظام القائم كما يضعها النظام ذاته، أي قبوله كسلطة عسكريّة-سياسيّة وحيدة ممكنة. هذا الإطار هو نقاط بداية جنيولوجيّة لانبثاق الانخراط في النظام الاستعماريّ باعتباره الإمكانيّة الوحيدة للعيش. فنحن نلاحظ أنّ الفلسطينيّين (على الأقلّ التيّار الوطنيّ السائد على تحويراته المختلفة) لم يسعَوْا إلى إنشاء أجهزة اجتماعيّة اقتصاديّة أو أخرى مستقلّة عن النظام، أو حتّى لغة تدعو إلى هذا القطع مع النظام المستعمِر. في المستوى الخطابيّ -الإعلانيّ جَرَتْ قَنْوَنة اللغة والفعل باتّجاه مطلبيّ خدماتيّ، هذا بحيث يبدو أحيانًا أنّ لحظة التأسيس في العام 1948 لم تُفهم إلاّ كتبديل للفئة الحاكمة الغربيّة /الغريبة في النظام الانتدابيّ السابق. أمّا في مستوى الممارسة، فكان ثمّة ارتداد إلى بنى اجتماعيّة أبويّة شبه مألوفة من حيث إنّ أغلبها مرّ بعمليّة إحياء جديدة عبر النظام السائد الجديد.
من الممكن اليوم التحدّث عن أنّ النظام الاستعماريّ الصهيونيّ "الأبيض" أبقى على أجزاء مختلفة من المجتمع الفلسطينيّ لأهدافه الخاصّة، حيث كان لا بدّ له -كي يعمل كنظام- أن يمتلك، حرْفيًّا ومجازًا، الجماعة الفلسطينيّة "العبيد". أمّا ما دفع الفلسطينيّين إلى "قبول" هذا الدور وتطويره بأشكال مختلفة، فهو محور ما سنحاول تبيُّنه عبر الفتح النقديّ لنمط التواطؤ السائد، فتح يفكّ الارتباط بين التعلّق المادّيّ الاجتماعيّ وشكل محدّد من الوعي التابع الذي يتجلّى بنمط التواطؤ هذا.
1.
قد لا يلمس الفلسطينيُّ المُستعمِرَ الصهيونيَّ، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّه يشمّه حدّ الثمالة. فالتركيبة الاستعماريّة الاستيطانيّة في فلسطين 48 تتميّز بحضور متزامن جغرافيًّا بحيث يكتشف المستعمَر تفاصيل مستعمِره ابتداءً من الحواسّ الخمس، لكن هذا الحضور مشروخ بلا-تزامن فضائيّ حيث لا يستطيع الأوّل لمْس الثاني لأنّهما يقفان على أرضيّات هرميّة متناقضة. إنّ الفضاء هنا هو جغرافيا الزمن، فما بدا على أنّه حسم جغرافيّ في 1948، تناسل على شكل متجدّد من الحركة الشاملة بين الجغرافيا والفضاء. إنّ هذه الحركة تتميّز في أساسها بمنطق مشتقّ من الاقتصاد السياسيّ للقيمة التبادليّة، أو إن شئت، منطق بضائعيّ توسعيّ. فما بدأ على أنّه مأكل ومَلْبس ضروريّان، تحوّل بتوسّعيّته إلى شهوة وحميميّة، على أرضيّة منظومة الجاني /الضحيّة، لينتهي إلى جسد الاستلاب في عمله عبر مادّة الجسد الفرديّ /الجماعيّ المُستلَب لفلسطينيّي 48. من هنا، إنّ قضيّة الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين 48 تردّنا إلى الجسد المادّيّ التاريخيّ الذي هو قبل المأكل والملبس والمسكن، من جهة، ولكن الارتداد هنا ليس عشوائيًّا وإنّما هو ضرورة تنبع من بنية الفاعل الأساسيّ في عمليّة الارتداد، أي النظام الرأسماليّ في طبعته الاستعماريّة، من جهة أخرى. من هذا الفهم، نرى بالجسد جغرافيا-فضاء تجميع وخلق للنقاط المبعثرة ولكن المؤسّسة، جنيولوجيًّا، في حركاتها مداخل لربط /لفكّ العلاقة بين المادّة الاجتماعيّة والبناء الاجتماعيّ العامّ المنبثق عنها والمحدّد لها في ذات الوقت.
لعلّ أهمّـيّة الجسد كامنة في أوّليّة شؤونه من حياة وموت وما بينهما من وشائج، ومن منطلق أنّ التعلّق بين إمّا حياة وإمّا موت فإنّ خطاب التواطؤ يزعم انتشاله للجسد بإمساكه بتلابيب الحياة عبر قبول حدّ أدنى من النظام /الموت. قد يبدو أنّه من السهل فهم وتفسير العلاقة الخطابيّة أنّ الحفاظ على الجسد حيًّا هي قيمة عليا بحدّ ذاتها، وذلك مقارنة مع حركة الواقع التي تؤدّي إلى ممارسة النظام /الموت التي تبدو عصيّة على الفهم والتفسير. إذ كيف تتمّ مبادلة الحياة بالموت نقيضها، أو، العكس، قبول نظام الموت يؤدّي إلى حياة للجسد الفرديّ/الجمعيّ؟ إنّ الحياة والموت، في سياق الجسد كما في غيره، هي إمكانيّات تاريخيّة غير محدّدة مسبقًا من حيث أشكال التحقّق /الفشل، وهي من جانب آخر إمكانيّات بنيويّة محدّدة مسبقًا وغير قابلة للتبديل والتغيير من حيث تحقُّقها أو فشلها. كلّ حياة جسديّة فلسطينيّة في فلسطين 48 مفتوحة على احتمالات متعدّدة لتتحقّق أو لتفشل، وهي أيضًا بما هي حياة جسد تحمل موتها بنيويًّا، فهي لا تستطيع إلاّ أن تكون مستعمرة حياة موت. لعلّ أهمّ ما في هذا الادّعاء أنّ الحياة ليست، في نهاية المطاف، التحقّق الأمثل، أو الفشل بما هو كذلك، وإنّما هي شقيقة الموت على أفق ما هو ممكن. فالتناقض الأساس المعروض خطابيًّا على أنّه صمود الجسد بتحقُّقه كحياة هو في واقع التاريخ فشله كموت، أي قبول النظام الاستعماريّ، النافي من تعريفه لذاته حياة كلّ جسد فلسطينيّ ممكن. إنّ آليّات تحويل الحياة إلى موت في سياق فلسطينيّي 48 لم تتطوّر خصّيصًا لهم، وإنّما مورست عليهم كنظام رأسماليّ ليأخذ من ثَمّ خصائص تمايز هذا السياق عن غيره من البلاد المستعمَرة القريبة والبعيدة على السواء.
بدأ الموت، تحديدًا، من الطعام. ومن حيث إنّ الموت ملك النهايات، فلا نهاية تحدّ توسّعه المطرد، فمن نحافة التقشّف في خمسينيّات القرن الماضي إلى سُمنة الوفرة في بداية القرن الحاليّ، لم يعد الجسد الفلسطينيّ يملك جسديّته، بل جرى فكّ الاتّصال بين الفاعل وجسده. إنّ عمليّة الإخضاع هذه تعتمد على مبدأ بسيط وليس بصيغته الثوريّة: المادّة قبل الوعي. إنّ السيطرة الاستعماريّة العنيفة والشرسة على مفاتيح /مغاليق الجسد الفلسطينيّ، على مستوياته الفرديّة والجمعيّة المختلفة، صاغت من جديد سطحه المرئيّ كما صاغت جزءًا من تجويفاته العميقة. إنّ التجربة الحسّـيّة الذهنـيّة لفلسطينيّي 48 هي تحصيل لعلاقات تناقضيّة لا تزال تستعر بين نظام بضاعة استعماريّ يهدف إلى إجهاض الذات وإعادة تركيبها بغية جني المزيد من الأرباح، وبين طاقة حياة جسديّة تتولّد باستمرار من جماعيّة الفلسطينيّين، والتي اختُزلت استعماريًّا، ولكن جاءت بنتيجة عكسيّة فهي لا تُنتج إلاّ أجسادًا فلسطينيّة. إنّ الفسحة الشاسعة بين هذا التناقض والتوليفة الخطابيّة أنّ الحياة تلزم حدًّا أدنى من التواطؤ لم تقع لغاية الآن تحت مِشْرط النقد(ض) إلاّ في ما تيسّر من شذرات سطعت بوهجها.
2.
سبل العيش في فلسطين 48 ليست كريمة. فهي إذ تحتاج إلى مهنيّة عالية تحتّم نوعًا من لغة مهنيّة نافية للأساس المهنيّ الأوّل، سؤال الوجود وأشكاله. فأنت تستطيع أن تعمل، اليوم، في مجالات شتّى وفي رتب متعدّدة ومتباينة العلوّ في السلّم الوظيفيّ داخل القطاع العامّ كما في السوق الإسرائيليّة. فلم يعد الخطاب التصنيفيّ السابق الذي ميّز النظام الاستعماريّ لغاية أواسط تسعينيّات القرن العشرين تلك الآليّة الوحيدة في التعامل مع الفلسطينيّين/ات. إنّ النظام -وبسبب من تحوّلات في بنْيته- لم يعد ينبني فقط من خلال تشنّجه الإيديولوجيّ، بل قَنْوَنَ جزءًَا أساسيًّا منه لآليّات انبناء تربطه مع النظام الرأسماليّ المتأخّر وتشكّله عبرها. في هذا الطور الرأسماليّ، المهمّ هو إتقان لغة مهنيّة محدّدة، حيث إنّ الافتراض كان، إلى فترة ليست بالبعيدة، أنّ النظام الرأسماليّ استطاع أن يلغي التاريخ عبْر حلّ مجمل التناقضات الممكنة فيه. بهذا لم يعد المهندس الفلسطينيّ فلسطينيًّا، بل كلّما أتقن "الهندسة" أصبح مهندسًا أكثر وفلسطينيًّا أقلّ، وذلك حتّى يصبح مهندسًا بالكامل وتغدو فلسطينيّته تذكارًا على حائط في بيت مريح. والسؤال الملحّ هنا هو حول استخدام الفلسطينيّ لهذه الآليّة وإتقانها تواطؤًا مع النظام، حيث إنّ المستوى التحليليّ الأوّل الجغرافيّ-الفضائيّ ومحوريّة الجسد فيه ممكنٌ إذا جرى ضخّ مستمرّ من القيم التبادليّة التي تقوم بعمليّة صيانة متبادلة له ولها.
لعلّ العلاقة بين الإرث الحِرَفيّ والمُدَوَّنة المهنيّة الحداثيّة هي من أهمّ المفاصل التي قد تمكّننا من إعادة فتح علاقات السيطرة الاستعماريّة لدى فلسطينيّي 48. فإن كانت البداية تحويرًا على استشراقيّة منمّطة تُمَوْضِع الفلسطينيَّ الحِرَفيّ في مقابل الصهيونيّ المهنيّ، فإنّ الحراك الوحيد الممكن في بنْية النظام الصهيونيّ هو الانتقال من الحرفيّة إلى المهنيّة عبر المؤسّسات التحديثيّة التابعة لها. لقد سار الفلسطينيّون/ات في هذا المنحى، وانخرط معظمهم في تصنيف ذاتهم/ن عبر المنظومة الحداثيّة التي تموضع الحرفيّ في مقابل المهنيّ في طبعتها الخاصّة بالنظام الصهيونيّ. الإشكاليّة الأساسيّة في هذا المنحى أنّه جرى ربط الحرفيّة بإرث فلسطينيّ ريفيّ أوّليّ، بينما ربطت المهنيّة بالمشروع الصهيونيّ كما تجلّى في الدولة ومؤسّساتها المختلفة كما في السوق وحركة الرأسمال التي هي جزء منها. من هنا، مثلاً، أصبح الفلسطينيّ يتحدّث عن ذاته/ا عبْر اللغة الحداثيّة المهنيّة الاستعماريّة التي يُعيره إيّاها المستعمِر، وذلك بالرغم من أنّ هذه اللغة هي جهاز مفاهيميّ لنفي وجوده كجماعة فاعلة في تشكيل التاريخ. ففي الحداثة /الاستعمار، تمتلك دولة-القوميّة كلاًّ من المهن واللغات المرافقة لها كما حقول تطبيقها من مرافق ومصانع عامّة وخاصّة على السواء. فالعلاقة بين الطبّ، كمهنة، والمشروع القوميّ الحديث في أفق السوق الرأسماليّة هي علاقة الخاصّ بالعامّ، وإن كانت خصوصيّة الخاصّ هنا قد تتمتّع بتمايزٍ ما عن سائر الخصوصيّات، المهن الأخرى في حالتنا. ففي الشكل التقليديّ لدولة-القوميّة في تَمَوْضُعها في النظام الرأسماليّ ككلّ، وإسرائيل ليست باستثناء هنا، بل هي ربّما نموذج ثانويّ، فالمهنيّة هي جزء من وسائل الإنتاج الفاعلة في البنْية التحتيّة والفوقيّة في ذات الوقت، بهذا فهي نوع من العمود الفقريّ للنظام ككلّ. من هنا، تصبح المهنة مركزيّة في تعريف الذات الفرديّة والجماعيّة بما هي شكل تاريخيّ من العمل المنتج. في السياق الاستعماريّ لفلسطينيّي 48، جُلّ هذه الفئة هم/نّ مهنيّون/ات على اختلاف التنويع المهنيّ الممكن. وبالرغم من أنّ هنالك فئة لا بأس بها من حيث الكمّ ممّن درسوا في دول أوروبيّة وأخرى خارج النظام الصهيونيّ، فإنّ عودتهم وعملهم في إطار هذا النظام يحتّمان إتقان لغة النظام المهنيّة.
وقد نستطيع التمييز بين المهن ذات الطابع التكنولوجيّ مقارنة مع تلك ذات الطابع الاجتماعيّ والثقافيّ والنفسيّ. فبينما في النوع الأوّل من المهن يبدو الأمر وكأنّ الموضوع واضح، إذ كيف لك أن تخلق لغة غير الحداثيّة عن الماكينة وأنظمة التصنيع وما إلى ذلك، فارتبطت هذه باللغة الصهيونيّة في طبعتها العربيّة. بينما نجد أنّ النوع الثاني من المهن أكثر إشكاليّة؛ حيث إنّ التمييز التراتبيّ بين القدرات الذهنـيّة التحليليّة والقدرات الذهنـيّة الحسّـيّة والعاطفيّة قُوطِعَ مع علْويّة الصهيونيّة ودونيّة الثقافة العربيّة الإسلاميّة بطبعتها الفلسطينيّة الريفيّة. هكذا يصبح السؤال: كيف يفهم الحرفيّ الفلسطينيّ ذاته؟ فهو في سعيه لأن ينتقل من حالة الحرفيّة إلى حالة المهنيّة لأنّها الإمكانيّة البنيويّة الوحيدة، لغاية الآن على الأقلّ، المتاحة له/ا، يطوّر لغة خاصّة بسعيه هذا.
من هنا، يتبيّن لنا أنّ الإشكال الأساسيّ ليس في العمل في مؤسّسات الدولة وَ/أو في السوق الناتجة عنها في حدّ ذاته. إنّما نجد أنّ ينبوع التواطؤ في هذا المستوى من التحليل يقبع في عمليّة إحلال نحويّة العمل المهنيّ الحداثيّ بطبعته الصهيونيّة في ذات المنتج الفلسطينيّ، هذا بحيث تتناقض مع، ولتنفي، ما جرى إنشاؤه كنحويّة الحرفيّة الفلسطينيّة بما هي البنْية التحتيّة للإنتاجيّة السابقة. إنّ العنف الاستعماريّ الاستيطانيّ يكمن في هدم أيّة إمكانيّة أخرى للعيش سواه، وللعيش في كنفه يجري إحلال قسريّ لنحويّات التواطؤ /العبوديّة، فلا سبيل هنالك للعيش الكريم في هذه الأنظمة. إنّ هذا الشكل من التبعيّة البنيويّة يربط بين مادّيّة شكل الانخراط الجغرافيّ-الفضائيّ-الجسديّ، والذي جرى التطرّق إليه أعلاه، وبين المستوى الثالث من التحليل المطروح هنا على أساس أنّه وعي التواطؤ. فهذا الجسر، بما هو نسيج من الممارسات اليوميّة، يصهر جزءًا محدَّدًا من التناقضات المادّيّة الاجتماعيّة لتطفو من ثَمّ عبر المستوى الحسّيّ الذهنيّ ومن ثَمّ شكل من الوعي الذي سنعمد إلى فحصه الآن.
3.
لعلّ أهمّ ما في منظومة وعيٍ ما هو مسارات تحوّل التجارب الحسّـيّة والذهنـيّة إلى شكل من الوعي. ممّا لا شكّ فيه أن عمق التجربة الاستعماريّة لدى فلسطينيّي 48 تضرب الأصول الأساسيّة للذائقة الحسّـيّة وللتجربة الحسّـيّة-الذهنـيّة لديهم. هذه الأصول والتجارب بالمستويات الحسّـيّة والذهنـيّة تشكّل نوعًا من البنْية التحتيّة التي عليها تقوم عمليّة إنشاء الوعي التواطُئِيّ في كلّ مرة من جديد. ولعلّ أهمّ ما في هذا الجانب من مميّزات هو الفراغ الزمانيّ-الفضائيّ، غير القابل للردم، الذي تَشَكّلَ في حدث النكبة عام 1948. ومن حيث إنّنا نتّفق مع المقولة أنّ المحور الزمانيّ-الفضائيّ هو الأساس في هذه التجارب الحسّـيّة الذهنـيّة، فمن الممكن الادّعاء -وإن بحذر ما- أنّ فراغ النكبة هو عامل تشكيليّ في صياغة التجارب الحسّـيّة والذهنـيّة لدى هذا الجزء من المجتمع الفلسطينيّ. إنّ لحظة /مكان النكبة شَكّلَت شرخًا في التجربة الحسّـيّة الذهنـيّة، هذا بحيث إنّ التجربة الجماعيّة الفلسطينيّة للمجموعة التي أُبقِيَت في فلسطين بدأت من نوع ما من الصفريّة الحسّـيّة الذهنـيّة بسبب من هول وعمق النكبة. وفي هذه اللحظة /المكان تحديدًا جرى، ويجري، إحلال وعي التواطؤ بما هو منظومة قوانين تطفو من تجارب الذائقة الحسّـيّة والحسّـيّة-الذهنـيّة. قد يبدو هذا التحليل متناقضًا، إذ كيف من تجربة النكبة تحديدًا يُنتِج تواطؤًا مع ما/من سببها وتأسّس عليها؟
يترافق الوعي والممارسة كلحظتين في كلِّ كلٍّ اجتماعيّ تاريخيّ. إنّ الامتداد المنبثق من لحظة /مكان نكبة 48 في الآن /الهنا لجماعة فلسطينيّي 48 يعيش لحظة الوعي كبداية من فراغ، ولحظة الممارسة كحالة إشباع شبه مطلقة. حالة الإشباع هذه هي -في أفضل أحوالها- ارتداد تعويضيّ عن لحظة وعي الفراغ المُرعِبَة للمستعمَر وللمستعمِر، اللذين بدورهما يسرعان لتكرار ردمها عبر ممارسات حسّـيّة ذهنـيّة متكرّرة بإيقاعيّة عالية توحي بالشبع. الافتراض هنا أنّ لحظة وعي الفراغ المُرعِبَة هذه لا تزول، بل هي بنْية علاقات عبر-زمنيّة تأسيسيّة في بنْية النظام الاستعماريّ. من هنا، إنّ النظام يقوم بصيانة مستمرّة لهذه اللحظة من وعي الفراغ، ويجري ذلك عبر عدّة أجهزة إيديولوجيّة وأخرى عنيفة. إنّ التفاعل المكثّف بين هاتين اللحظتين للكلّ النظاميّ الاستعماريّ يؤدّي بالمستعمَر إلى أن يدرك بداية ذاته كمتزامنة مع بداية النظام؛ فالفراغ هو لحظة لا تدرك ما قبلها، ولحظة الممارسة المليئة بالإشباع تمحو ما لقبلها من قيمة /ذكرى. من هذا الفهم يبدو، أحيانًا، أنّ الديناميكيّة بين الفراغ والإشباع تخلق شروطًا موضوعيّة إلى حدّ ما لهيمنة نمط تواطؤ المستعمِر مع النظام الاستعماريّ في فلسطين 48. إلاّ أنّ المسألة الأساسيّة في هذا الشكل من ممارسة السيطرة الاستعماريّة، كما في قبولها من قبل المُسيطَر عليه، هي هشاشة هذه الديناميكيّة من حيث إنّ أساسها فراغ لا يملك العمق المرساتيّ، ولا يستطيع النظام مشاركة ادّعائه لامتلاك العمق بسبب من طبيعته الإقصائيّة. هذه التشكيلة الهشّة هي ما قد تَمَكَّن للفلسطينيّ لحظة خروج من هيمنة التواطؤ شبه الموضوعيّ. ويبقى السؤال /التحدّي بممارسة وعي الخروج كبداية قاطعة في الخروج ذاته من قبضة النظام الاستعماريّ.
4.
يربط العمل ما بين المادّة /الجسد والوعي، والأهمّ أنّه يشكل أجزاءً أساسيّة منهما. في معرض تطرّقنا إلى التواطؤ كشكل أساسيّ توليديّ من العلاقة يستخدمه المستعمَر الفلسطينيّ عند انشباكه /تنافذه مع النظام الاستعماريّ الصهيونيّ في فلسطين 48، تَبَيّنَ أنّ هذا الاستخدام ينبع من تَموضُع إسقاطات حدث النكبة على بنْية علاقات الإنتاج في النظام وموقع الفلسطينيّين فيها. والإنتاج هي عمليّة شاملة للمجتمع ككلّ، كما للنظام السائد فيه وعبره، فمن نافل القول أنّ الأسياد البِيض بحاجة إلى عبيد سود ليتمّموا بياضهم السائد؛ أمّا السؤال المُحرِج فهو حول شهوة الإنسان في عبوديّة سوداء تُسوَّق على أنّها رماديّة متعدّدة. إنّ نقيض التواطؤ هو الخروج من النظام والقطع معه. وبالنسبة للفلسطينيّين، عامّة، ولفلسطينيّ 48، خاصّة، إنّ أيّ خروج من النظام الصهيونيّ ممكن فقط في حالة الخروج من خيمة أمّه الرأسماليّة. إنّ السعي في التحالف مع نخب رأسماليّة خارج النظام الصهيونيّ تحت مسمّى تحرير فلسطين، يشبه ذلك الطفل الذي يحاول أن يقنع أمًّا بالتنازل عن وليدها وتبنّيه عوضًا عنه. أمّا درس الخروج، فهو أفق واسع لدراسة أخرى.
["عن مجلة "جدل" الإلكترونية الصادرة عن "مدى الكرمل]