إذا ما أراد المراقب المتعمق في الشؤون القضائية اللبنانية، (والتي تنفرد فيها السلطة السياسية، أو من ينوب عنها في قصر العدل كمجلس القضاء الأعلى، بالكلام عن القضاء وعليه)، بالذهاب إلى تونس اليوم، سيصدم بحيوية المنافسة، واحتدام النقاش العام بين جمعية القضاة التونسيين ونقابتهم. حيث يرى المظاهرات والنقاشات والمؤتمرات والمقابلات الصحفية والعلمية واللجان المشتركة والمواقع الالكترونية، ويلاحظ إن القاضي يتقاسم المنابر مع المحامي والصحفي والناشط والسياسي. ولكن الصورة طبعا ليست بهذا الصفاء الجميل، إذ هناك من يعترض على بعض الممارسات أو المزايدات، أو من يندد بالانقسامات داخل الجسم الواحد، إلا انه، و بعيداً عن إي تقويم لما يحدث، يشكل الواقع القضائي التونسي اليوم تجربة فريدة في مجال علاقة القضاة مع الإعلام والسلطة وسائر التجمعات المهنية والحركات الاجتماعية، وعلاقتهم أيضاً، فيما بينهم ضمن أجسام تمثيلية متعددة ومتنافسة.
ولا مجال هنا لعرض تاريخ التجمعات القضائية في تونس وتطورها، إلا انه يجدر بنا التوقف عند قدم هذه التجارب الجماعية التي تصبغ تاريخ القضاء والذاكرة القضائية التونسية برمتها، بعيداً عن الروايات السلطوية الأحادية والفوقية التي تطفو على الذاكرة الجماعية لقضاة بلدان عربية أخرى، مثل لبنان. فمن تجربة (ودادية القضاة التونسيين)، والتي بدأت عام (1946)، إلى تجربة (القضاة الشبان)، المنافسة نوعاً ما، منذ عام (1971) حتى قمعها عام (1985)، وصولاً إلى نشوء جمعية القضاة التونسيين عام (1990)، ونقابتهم عام (2011) واتحاد قضاتهم الإداريين في العام نفسه، يظهر تاريخ القضاء التونسي إلى حدٍ ما تعددياً، وإن كان بين مجلس القضاء الأعلى والجمعيات القضائية المختلفة، أو حتى بين التجمعات القضائية غير الرسمية نفسها. ومن المثير للاهتمام أن يكون النظام السياسي التونسي، الموصوف بالاستبدادي منذ عشرات السنين، قد اضطر للتعايش مطولاً مع هذه التعددية القضائية المشاكسة له أحياناً، و إن روضّها أو قمعها في أحيانٍ أخرى، (ولاسيما في عامي 1985 و2005)، فيما النظام السياسي اللبناني، الموصوف دائما بالتعددي والليبرالي، قد رفض وقمع مرارا وتلقائيا أي فكرة أو مبادرة من شأنها فك احتكار مجلس القضاء الأعلى (المُعيّن بأغلب أعضائه من قبل السلطة التنفيذية)، وعرابيه السياسيين والطائفيين، على الكلمة القضائية والقرار القضائي وعلاقة القضاء مع السلطات الأخرى (عامي1971 و1980 مثلا، أو حتى عامي 2008 و2011). وعلى هذه المفارقة، لو تذكرنا أولاً، كيف إن التعددية الطائفية النظامية (المُكرّسة دائماً في مجلس القضاء)، لا تغدو بالضرورة تعددية فكرية، لا بل تشكل في الأغلب، حاجزاً قامعاً لهذه التعددية، وان تدفعنا ثانياً، إلى البحث والتدقيق العلمي في الأشكال المختلفة والمتجددة لأساليب القمع والضغط و الهيمنة.
في تونس اليوم إذاً، جمعيةٌ ونقابة للقضاة، العلاقة بينهما (اقل ما يقال عنها) إنها متوترة. فالجمعية ترتكز أولاً على مشروعية تاريخية، تستمدها من نشوئها عام (1990)، نتيجة الاندماج بين (الودادية) القديمة وبقايا (القضاة الشبان)، بعد قمعهم في آخر سنوات حكم الحبيب بورقيبة. وترتكز ثانياً على مشروعية نضالية، تستمدها من القمع القضائي الذي تعرض له بعض أعضاء مجلسها التنفيذي على خلفية اتخاذ مواقف نقدية إزاء النظام عام (2005). وترتكز الجمعية اليوم في خطابها أخيراً، و بالشكل الأهم، على مشروعيةٍ ثوريةٍ تستمدها علناً ومجاهرةً من أحداث الرابع عشر من كانون الثاني (جانفي)2011، وسقوط نظام بن علي و(معاونيه القضائيين). و تبقى طريقة (استرجاع) قيادة الجمعية غداة الثورة من قبل القضاة المبعدين، منذ (2005) والعائدين مع أنصارهم (القضاة) من عزلتهم القضائية القسرية، جد معبرة عن رؤية هؤلاء القضاة لدورهم وموقعهم الجديدين في مجتمع ونظام ما بعد الثورة. فبعد التجمع مع مئات القضاة غداة سقوط بن علي، أمام قصر العدالة في تونس لإعلان سقوط النظام القضائي مع النظام السياسي، عمد بعض القضاة العائدون إلى تبديل أقفال باب مقر الجمعية منعا لأعضاء مكتب ما قبل الثورة من الدخول إليه. و لهذا الإجراء رمزيةٌ فائقة، إذ لجأ القضاة عبر ذلك إلى نفس الطريقةِ تماماً، التي اعتمدتها السلطة عام 2005 لإقصائهم عن الجمعية.
من هنا تبدأ قصة إنشاء النقابة بصيغتها الحالية، التي شكّل تأسيسها في آذار (2011)، ومهما اختلفت الروايات والآراء، ردة فعلٍ على الممارسات الثورية للجمعية بعد عودة القضاة المبعدين إليها. وبغض النظر عن صحة الاتهام الموجه إليها بكونها ملاذاً لبعض القضاة الموالين سابقاً لبن علي، و بغض النظر عن نسبة هؤلاء من مجموع أعضائها، وعن صعوبة تحديد من كان أو لم يكن موالياً، في معظم الحالات، وكذلك صعوبة تحديد، ما معنى "الموالاة القضائية"، يبقى للنقابة من دون شك، نظرة مختلفة في التفاصيل إلى طبيعة العمل القضائي ودور القاضي، بالرغم من الالتقاء الخطابي مع الجمعية حول بعض العناوين الواسعة. ويبقى مثلا السبب المباشر والمدلى به دائما، الذي دفع بعض القضاة إلى تأسيس النقابة هو رفض القيّمين الجدد على الجمعية تنظيم انتخابات مبكرة لاختيار المكتب التنفيذي الجديد، بحجة وجوب استكمال الثورة والوصول إلى نتائجها كافة قبل القيام بذلك. وتشكّل هذه المواجهة بين الشرعيةِ الثورية والشرعيةِ التمثيلية، نموذجاً بسيطاً للتباينات الجوهرية بين قضاة الهيكلين في النظرة إلى القاضي في مجتمعه. ولسهولة المقارنة، لخصتُ بعض نقاط الاختلاف في الجدول التالي، الذي يرتكز على مجموعةٍ كبيرةٍ من المقابلات وبعض الأرشيفات الصحفيةِ والقضائية. و تبقى مواقف الجمعية والنقابة المعروضة في هذا الجدول كناية عن المواقف العامة "idéaux-types"، للأشهر الأولى بعد الثورة و لا تمثل بالضرورة موقف كل قاضٍ في كلا الهيكلين.
ولا مجال هنا للدخول في تحليل كل نقطة في الجدول نظرا لضيق المساحة المتاحة، إلا انه من الواضح، إن التنافس بين الجمعية والنقابة اليوم في تونس، يسمح لنا أولاً: بتحسس مدى حيوية نقاشاتهما القانونية ـ الفلسفية، والتي تسرع مهنيو القانون أحياناً، بدفنها في كتب التاريخ والفلسفة النظرية، أو حتى بنسيانها تماماً. فعلاقة القاضي مع الإعلام والنظام السياسي والمادة القانونية، حتى عندما تكون هذه المادة منتجة من قبل منظومة سياسية غير مشكوك تماماً بشرعيتها أو تمثيليتها، ليست بالوضوح الذي يصوره دعاة "القاضي يطبق القانون فقط"، وهو شعار أصبح في لبنان ملجأ لكل قانوني لا يريد إغضاب مرجع سياسي أو طائفي أو لا يريد الاستجابة لمطلب اجتماعي يخالف وصايا ونفوذ إقطاعيي الأفكار القيّمين على الأخلاق العامة. فحراك قضاة تونس ونقاشاتهم، يذكرنا إن لا شيء مُنزّل في هذا المجال، وان مفاهيم معينة مثل موجب التحفظ أو الحياد أو دور مجلس القضاء الأعلى تبقى مركبة اجتماعيا وسياسيا وخاضعة لموازين قوى ظرفية ومتقلبة، وان ما يُظَهَّر في لبنان، من قبل القيّمين على النظام القضائي والسياسي، كحقائق قضائية أبدية ودائمة، هي حتماً في بلدان أخرى، وبعضها عربي، محط تساؤل وتحدّ وتشكيك، وممارسات مغايرة ومناقضة.
كما نرى ثانيا: انه يندرج من بين المفاعيل المهمة للتجربة الجماعية التنافسية للقضاة التونسيين اليوم، إضعاف حدة الهرمية داخل الجسم القضائي. وقد أظهرت أبحاثنا في المفكرة القانونية في تونس، إن الهرمية القضائية وموجب الاحترام المطلق لرأي القاضي الأعلى رتبة، قد كانا تحت نظام بن علي من أهم أدوات الهيمنة على القضاء والقضاة التونسيين، عبر بعض المراكز الحساسة، لتسخيرهم لمصلحة سياسات النظام القمعية والاستغلالية. فنجد إن التراتبيات والمسؤوليات الناتجة عن الانتخابات في الجمعية أو النقابة لا يكون لها علاقة، غالبا، بالهرمية الرسمية التي يشرف عليها مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل. إذ نرى رئيسة الجمعية أو رئيسة النقابة مثلا، تمارسان دوريهما الوظيفيين بشكل اعتيادي وفق توزيع الأعمال القضائية، وفي مراكز هي اقل أهمية أو درجة من مراكز يحتلها كثير من الأعضاء المنتسبين إلى هذين الهيكلين، عندما تتركان مسؤولياتهما الجماعية. كما انه يكفي متابعة الجمعيات العمومية للجمعيات والنقابات القضائية، أو حتى الاجتماعات التنفيذية المصغرة، لملاحظة تقليص مهم في أدبيات الهرمية القضائية لصالح نوع من الإخاء والتكاتف النضالي الذي يصعب إيجاده في الأنظمة القضائية حيث لا تجمعات للقضاة، كمالا يجد القاضي نفسه إلا وحيدا أمام السلطة.
أما ثالثا: والى جانب كسر احتكار الكلمة القضائية من قبل السلطة ومجلس قضائها، وتأمين مساحة تفاعل مهني وفكري للقضاة، تشكل هنا نوعا من شبكة تضامن لكل قاضٍ يتم استفراده، فيما تجدر الملاحظة إن من أهم مفاعيل التعددية التمثيلية في تونس بين الجمعية و النقابة، هو خلق حركة تنافسية بين الجسمين تجعلهما منقادين بهدف استمالة القضاة إليهما إلى طرح أفكار ومشاريع متقدمة تصل أحياناً إلى حد المزايدة فيما بينهما. ولقد سبق أن رأينا المفاعيل الايجابية على القضاة للتنافس بين مجلس القضاء وبعض التجمعات القضائية في لبنان مثلا (أيام اللجنة القضائية المؤقتة وعلاقتها المتوترة مع مجلس القضاء في بداية الثمانينات)، ومن أبرزها إنشاء صندوق التعاضد القضائي، إلا أن تعدد الهياكل التمثيلية القضائية يضاعف من ايجابيات هذا التنافس ويمنع السلطة السياسية من التفرد بالكلام على القضاء وبتحديد مصالحه، كما يمنع أياً من التجمعات القضائية المتنافسة أو ممثليها من تقديم تنازلات لأصحاب القرار من اجل مصالح مهنية أو انتخابية، إذ يشكل كل تنظيم "حكومة ظل قضائية" تحاسب وتطلب، وهذا ما ظهر جليا في تونس من خلال النقاشات التي أعقبت طرح المشاريع المختلفة للتنظيم القضائي.
ونلحظ إن هناك تطورا قد طرأ على بعض مواقف الهيكلين، وخاصة النقابة وقضاتها، وذلك بفعل التنافس الحاد الحاصل مع جمعية القضاة، وهو تنافس يقل الاعتراف به رسميا من الطرفين لأسباب مختلفة: فمن جهة الرفض المطلق للاعتراف بالتعددية التمثيلية من قبل الجمعية، ومن جهة أخرى، التمجيد بالتعددية و بحسناتها من قبل النقابة. و في كلتي النظرتين، لا مكان لفكرة التنافس، في حين إن هذا التنافس يشكل واقعيا المحرك الأساسي للحالة القضائية التونسية الحاضرة، والتي لا يمكن فهمها من دون أخذه في الاعتبار. فعلى صعيد العلاقة مع الإعلام أو أساليب التحرك القضائي مثلا، نرى أن مواقف بعض قضاة النقابة من المسائل المطروحة أعلاه، قد شهدت تحولاً ما، بلغ أحياناً حد التناقض، بين النظرة إلى فترة النظام الاستبدادي والنظرة إلى الوضع الحالي، أو حتى بين فترة تأسيس النقابة بداية (2011)،والفترة التي أعقبتها. ففي حين إن خطاب بعض أعضاء النقابة يظهر تمسكاً بحدود العمل القضائي وأدبياته، عند الكلام عن الفترة الاستبدادية (المقاومة عبر الإحكام وليس عبر العمل العام...)، نرى إن النقابة قد اعتمدت أساليب مختلفة بعد إنشائها، كاللجوء إلى الإضراب للاعتراض على قانون تنظيم مهنة المحاماة مثلا. وبالرغم من الانتقاد اللاذع الموجه إلى الجمعية بخصوص لجوئها الكثيف إلى الإعلام والساحة السياسية، نرى إن النقابة قد اعتمدت سريعاً أساليب مشابهة إلى حد ما. كما نجد تحولات مشابهة في بعض مواقف الجمعية. ويمكن فهم هذا التناقض الظاهر عبر عاملين، أولا: المنطق التنافسي الذي فرض نفسه على أدبيات الفريقين وكسر أحياناً تجانس أفكارهما، والذي نراه يتغلب في بعض النقاط على المنطق التبريري الذي وجدت النقابة نفسها أحياناً، تعتمده للتكلم على الماضي مثلا. وقد اضطر الفريقان إلى اعتماد الأساليب الأكثر قدرة على اجتذاب القضاة وإيصال آرائهما إلى المساحة العامة والى صانعي القرار، بغض النظر أحياناً عن الأفكار التي يتم التعبير عنها في مساحات أخرى غير المساحة التنافسية الحالية. ولا يعبر هذا الاختلاف بالضرورة عن سوء نية أو تلاعب ما، بقدر ما يسمح لنا ذلك، بفهم تعددية القنوات المعرفية التي يقارب الفاعلون القضائيون من خلالها الواقع، بين ضرورات تفسير وتبرير إحداث الماضي (واقعة 2005 مثلا، عند الطرفين)، وضرورات التموضع الاستراتيجي الحاضر على الساحتين القضائية والسياسية. ويمكن التمييز ثانيا، لفهم بعض هذه التناقضات الظاهرة، بين دور القاضي كفرد ودور الجمعية أو النقابة كتجمع، إذ للتجمع أساليب وإمكانيات لا يجدها القاضي بمتناوله بنفس السهولة أو المشروعية أو حتى لا يقبلها على الصعيد الفردي، مما يؤكد مجددا أهمية تواجد تجمعات قضائية.
وأخيراً، تُظهر خلاصة التجربة التونسية كيف إن من شأن وجود تجمع قضائي إلى جانب مجلس القضاء الأعلى، إن يشكّل ضمانةً لعدم انحياز هذا الأخير تماماً لمصالح السلطة السياسية أو تقليصاً لمفاعيل هذا الانحياز، وكيف إن من شأن وجود تجمعات قضائية تمثيلية عدة، أن تُشكّل ضمانةً ضد انحياز إي منها لمصالحها المباشرة أو الضيقة. ونكون بهذه القراءة قد بدأنا، على الصعيدين التحليلي والواقعي، عملية استبدال النظريات والخطابات التقليدية حول استقلال القضاء (عن من؟) ووحدته (لماذا؟) و"هيبته" وترفع القاضي (على من؟)، بمعادلات وتوازنات قوة تفصيلية وبراغماتية، تحفظ للقضاة هوامش تحركهم أمام السلطة، وإمكانية تضامنهم فيما بينهم ومع قوى مجتمعية أخرى، وإمكانية إسماع أصواتهم أمام محاولات العديد من القوى السياسية والاقتصادية النافذة لاستعمال القضاء ومساحاته من اجل تحقيق مصالح خاصة في أهدافها أو منطلقاتها.
[This article originally appeared in Legal Agenda`s January 2012 issue.]