وُضعت القوى الديمقراطية، بعد انسحاب ألبرادعي من سباق الرئاسة، في مأزقٍ لسببين، أولهما:عدم قدرة هذه الكتلة غير المتجانسة للتوافق على مرشح آخر، والثاني: لأن انسحابه، هو دلالة ضعف شعبية قوى الثورة انتخابياً، على الأقل. كما يعد ذلك خضوعاً لمحاولات تهمشيها في مشروع التوافقات أو الصفقات السياسية الكبرى، لبناء النظام السياسي الجديد. فالتيار الإسلامي ذو الشعبية الهائلة، ونخبة دولة يوليو وأجهزتها (رغم التناقضات العميقة بينهم)، متفقون ضمنيا على تصفية مشروع الثورة وقواها، لمصلحة مشروع الصفقة الممكنة، التي تتفق ورغبة الأطراف الأساسية لإنجاحها، إلا انه لا يوجد ضمان لذلك. ففي التحليل الأخير، تظل سيولة المشهد السياسي، والاضطراب المستمر، وتضارب المصالح، وعدم وضوح الرؤية، وتفكك مشاريع الأطراف القوية، عائقاً أمام أتمام أيةِ صفقة، فالثورة فعلا كشفت عن ضعف الدولة، وعن مدى اهتراء أجهزتها، كما كشفت عن تيبس القوى السياسة التقليدية (الأخوان تحديدا)، وعن أفاقها المحافظة، وعن تحيزها للعالم القديم ودولته، وتظل الحقيقة أن هذه الدولة لا يمكن أن تستمر، فهي فعلا في ذمة التاريخ، وصفقات الحفاظ عليها مهددة، رغم تمسك الأطراف الأقوى بالبقاء عليها.
ولهذا، تأتى الانتخابات الرئاسية في مناخٍ معادٍ للثورة، خاضعةً لصفقة ما لا يمكن التنبؤ بشروطها، في محاولة لخلق توازن هش بين أغلبية إسلامية مترددة ودولة أمنية منهارة، ووضع إقليمي مضطرب، أي أن الرئيس القادم سيأتي بصفقة للحفاظ على توازن هش غير قادر على تحقيق أي استقرار حقيقي، فهناك أسباب موضوعية عميقة ستقاوم بقوة كل محاولات إعادة أنتاج الدولة الأمنية، كما إن الأوضاع التنظيمية للقوى السياسية والحركات الاجتماعية، بائسة وغير قادرة على تقديم السياسة ولعبة الديمقراطية، كبديل. وفى ظل هذا المناخ، تبدو خيارات القوى الديمقراطية الصاعدة لإدارة المعركة مريرة ، فتعالت بعض الأصوات تدعو كل القوى الديمقراطية للاصطفاف خلف عبد المنعم أبو الفتوح، باعتباره أوفر المرشحين (القريبين للقوى الديمقراطية)، حظاً في المعركة والرمز الإسلامي الإصلاحي الأهم، وأصوات نادت للاصطفاف حول مرشحٍ يمثل شباب الثورة، فيما دعت الأصوات الأخرى، لمقاطعة انتخابات الخيارات البائسة.
إن الداعمين لخيار عبد المنعم أبو الفتوح، سيبرهنون على إن المعركة الرئاسية القادمة ستكون حاسمة، وان انتصار (مرشح الصفقة) ذاك، سيكون هزيمة ساحقة للثورة، ولكن الالتفاف خلف مرشح له شعبيةٌ ما، سيجعل الثورة طرفاً قوياً في المعركة، وعندها سيكون فضح الصفقة ممكناً، أي إن دعم أبو الفتوح قد يؤدي إلى تمكين القوى الديمقراطية من إرباك التوازنات المستبدة. مشكلة هذا الخيار، انه في الحقيقة يريد من قوىً (تعترف بضعفها الشديد)، إن تنضم لمرشح له شعبية أوسع منها نسبيا، لتصنع معركة (ربما جادة)، لفضح صفقة التوازن الهش، وبهذا فهي تطمس هويتها أولاً، وتعبأ قواها الضعيفة ثانياً، في مغامرة لا ضمان بأنها ستحقق فيها أية نتائج (حتى في حالة الانتصار)، وحتى لو افترضنا السيناريو المستحيل فان وصول عبد المنعم أبو الفتوح للحكم، لن يضمن تحيزه للقوى الديمقراطية الضعيفة، ففي لعبة التوازنات سيكون الأغلبية الإسلامية (الأخوان المسلمون)، هم عونه في مواجهة نفوذ العسكر وبقايا دولتهم الأمنية.
وفي تقديري، فأن خطر هذا الخيار، يكمن في تبرأ القوى الديمقراطية (بذريعة الضرورة)، من تنظيماتها الضعيفة التي أنجزتها، والشبكات الثورية التي تشكلت حول هذه التنظيمات، فخيار دعم أبو الفتوح، هو خيارٌ بدفع كل هذه التشكيلات السياسية لمعركة حدودها تناقضات التيار الأسلامى، وإذا كانت الروافد الشابة قد انضمت للتنظيمات السياسية الديمقراطية "المدنية" باعتبارها الأكثر تعبيرا عن الثورة والأكثر تمثيلا لمزاجها، فالدفع بكل هذه الشبكات خلف أبو الفتوح، يعنى التنازل عن هذا الموقع الديمقراطي "المدني" الأصيل، ودمجه في معركة داخل التيار الاسلامى، وهذا يعني عملياً، المساهمة في أنتاج مجال سياسي بحدود تناقضات التيار الإسلامي، أي التضحية بالموقع السياسي والشبكات والتنظيمات التي شكلته لمصلحة مغامرة "الضرورة"، ولهذا كان الدفع بمرشح الثورة له مغزاه الذي هو بالأساس تنشيط هذه الشبكات ودمجها في معركة واسعة ستشحن المجتمع سياسيا، أي انه خيار الاستمرار في بناء هذا الموقع السياسي، ودعم تنظيماته وتدشين خطابة، كما أنها فرصة "لتسييس" الشبكات الثورية ودمجها في حملات سياسية تعنى المجتمع الواسع، وأخيرا هو مشروع الحفاظ على الطابع الديمقراطي المدني للقوى والشبكات الثورية.
إن التعالي عن مهمة البناء السياسي والتنظيمي للقوى الديمقراطية، هو في التحليل الأخير، رضاً بالعزلة و أثرة في تهميش القوى الديمقراطية، اكبر بكثير من خوض معركة هامشية تكون احدي محطات البناء والعمل والتنظيم، أن الثورة المصرية كانت ثورة سياسية بالأساس، قادتها قوى ديمقراطية ناشئة وشابة، لم تتحول بعد إلى تيار سياسي، ولهذا فأن حضورها الانتخابي خافت في مواجهة الغول الإسلامي، ودعم عبد المنعم أبو الفتوح، هو قبول لهذه الوضع واعتباره قدراً، مع الأخذ في الاعتبار إن التيار الإسلامي بمحافظيه وإصلاحيّه، مازال لا يعترف بحق التيارات الليبرالية واليسارية في الوجود والبحث عن الشعبية، فالإسلاميون قد يقبلون القوى الديمقراطية على شاشات الفضائيات وفى فعاليات المدن، ولكنهم ينكرون عليها أية محاولة للتماس مع الجماهير، فمن يقرأ الحوار مع الشيخ يوسف القرضاوى، الشيخ المجدد واهم داعمي أبو الفتوح (في جريدة الشروق في العدد الموافق 1 مارس 2012)، يرى كيف يصف القرضاوي القوى غير الإسلامية بأنها قوىً غريبة على المجتمع الذي حتما سيلفظها، كونها قوىً "لا يوجد لها مستقبل" على حد تعبيره، أن دعم أبو الفتوح في النهاية هو استسلام لهذا المنطق المستبد، وإهدار لفرصة سياسية حقيقية، نحو بناء تيار ديمقراطي مدني مقاوم، حتى لو لم ينتزع سوى 3% من الأصوات، فقائمة (الثورة مستمرة) مثلاً، لم تنجح إلا في حصد 800 ألف صوت، ولكنها شكلت موقعاً سياسياً مدنياً وديمقراطياً أصيلاً، تحركت حوله شبكات القوى الديمقراطية، ولعبت دورا في بنائها وتسييسها، ويبقى السؤال: هل همشت معركة الثورة المستمرة القوى الديمقراطية أم صنعت منها رقما؟ ويظل انجازها الأهم، هو أنها شكلت في مواقع عديدة نواةً سياسيةً لقوى الثورة، مزاجها ديمقراطي وتقدمي .
وأخيراً، فأن هزيمة الدولة الأمنية لن يتحقق بالضربة القاضية، بل بدعم المجال السياسي والصراع من اجل انتزاع مساحات جديدة للتأثير والفعل السياسي، ويظل السؤال: كيف يمكن أن تتحول معركة الهامش الرئاسية لمعركة جادة وحقيقية؟ وان يتحول مرشح الثورة إلى رقم في المعادلة، قادر على المناورة والتفاوض (تمكنه من الضغط حتى على أبو الفتوح وشيخه لقبوله نائب)، هو رهن قدرة القوى الديمقراطية على اكتشاف وملء المساحات السياسية الجديدة التي أنتجتها الثورة، والتماس مع مزاج القوى الحية المتحفزة، التي مازال خيالها متعلقا بالمشاهد والأحلام الثورية. إن القوى "المدنية" الديمقراطية قدرها أن تجاهد واقعاً بائساً، لانتزاع حق الوجود، وهي لا تملك في هذه المعركة سوى خيالها النقي (في ظل مستقبل تبدو فيه كل السيناريوهات ممكنه وكل الصفقات مهددة)، ولهذا فيجب عليها أن تتمسك بتشككها العميق في خيارات الحذر، فقبول خيارات الحذر سيجعل منها جماعة هزيلة منزوعة الإرادة ،غير فاعلة، غريبة كما يراها الإسلاميون.