هل استعاض نتنياهو عن مشروعه الدموي في ايران بضرب غزة؟ هل الاحباط الذي واجهه في واشنطن بسبب تريث الادارة الامريكية وعدم موافقتها على توجيه ضربة عسكرية لايران الآن، دفعه الى اشعال جبهة غزة؟ ماذا يريدون من غزة اليوم؟ ولماذا افتعلوا هذه المعركة الآن؟
من الواضح ان اسرائيل تجد نفسها في حيرة امام التغيير الذي يجتاح العالم العربي. صديقها المصري تهاوى، كما ان بدائله، رغم محاولات المجلس العسكري المصري التلاعب بالسلطة، ليست واضحة او مضمونة. كما انها تواجه الحيرة على الجبهة الشمالية. فالنظام السوري، على الرغم من وحشية آلته القمعية يترنح، والاسرائيليون يعلمون ان اي بديل لن يضمن لهم هدوء جبهة الجولان مثلما ضمنتها العائلة الأسدية. فكان مشروعهم البديل هو الهجوم على ايران الذي يحقق لهم هدفين: الأول هو تأخير المشروع النووي الايراني، والثاني هو اشعال المنطقة، واغراقها في اتون صراعات طائفية ومذهبية مدمرة.
غير ان المشروع الجنوني الاسرائيلي جرى تأجيله على الأقل، فالامريكيون غير قادرين على الدخول في حرب جديدة، بعد انسحابهم من العراق، وتعثرهم القاتل في افغانستان. كما انهم ما عادوا يمتلكون سياسة واضحة المعالم في المنطقة. اقصى ما يريدونه اليوم هو حماية منابع نفطهم، في انتظار تبلور سياسة جديدة تتعامل مع الوقائع المتفجرة في العالم العربي.
لذا كان فشل زيارة نتنياهو الامريكية متوقعا. السياسة الاسرائيلية منذ تأسيس الدولة الصهيونية قائمة على مبدأ واحد هو شراء الوقت. وشراء الوقت يعني مسألة واحدة هو تأجيل حل المشكلات عبر اللجوء الى الحرب. ولعل آخر نماذج شراء الوقت تجسدت في اجتياح الضفة الغربية وقتل ياسر عرفات، ثم الانقضاض على كل التعهدات وتمزيقها، ما حوّل السلطة الفلسطينية في عهد محمود عباس الى اسم لا مسمى له.
الآن، وامام الخطر الايراني من جهة، وخطر غموض احتمالات العالم العربي الذي يعيش حمى التغيير من جهة ثانية، تريد اسرائيل اللجوء الى شراء الوقت بالدم، مهما كان الثمن، شرط ان يدفعه الآخرون. فالعملية ضد ايران سوف تشعل المنطقة العربية وتغرق الامريكيين فيها ، كما انها سوف تقود الى توترات طائفية ومذهبية تزيد من احتمالات التفتيت وخصوصا في سورية.
قد يقول المحللون ان هذه السياسة سوف تغرق اسرائيل نفسها في الفوضى على المدى الطويل، وهذا على الرغم من صحته، لا يدخل في الاعتبار السياسي الاسرائيلي، لأن الدولة العبرية تعمل وفق روزنامة لا وجود فيها للمدى الطويل، بل هي روزنامة تهدف الى قذف المشكلة الى الأمام، على أمل ان يساهم الزمن في حلها، او في انتظار لحظة جديدة تسمح بقذف المشكلة مرة أخرى.
هذه هي قواعد اللعبة التي تأسست مع ولادة اسرائيل على انقاض فلسطين، وتجددت عامي 1956 و1967، لتتحول بعد ذلك الى الثابت الأساسي في الاستراتيجية الاسرائيلية.
لكن مشروع الهجوم على ايران جرى تأجيله، او فرض الامريكيون هذا التأجيل لأسباب تتعلق بقراءتهم الشاملة لمحاذير الهجوم على وضعهم السياسي والعسكري في المنطقة. ووجدت اسرائيل نفسها مضطرة الى الرضوخ، خصوصا مع ورود اشارات قوية الى ان اعادة انتخاب اوباما مرجّحة. وبذا فقد الاسرائيليون جزءا رئيسيا من قدرتهم على فرض الأمر الواقع على حاميهم الامريكي، ولم تعد سياسة الابتزاز نافعة، على الأقل اليوم.
ولأن اسرائيل لا تعيش الا عبر تصريف فائض قوتها العسكرية، ولأن التأجيل قد يعني تحولها الى هامش في زمن العاصفة التي تضرب المنطقة العربية، فقد قرر نتنياهو وتابعه ايهود باراك تصريف العنف في مكان ما. ولأن اللعب في لبنان مكلف جدا، فقد اختارا اللعب بالنار في غزة، وافتعلا مشكلة من الواضح انها لا تحمل اي بعد استراتيجي اليوم، لكنها تذكّر الجميع بأن اسرائيل لا تزال لاعباً.
من الواضح ان الاعتداءات على غزة واغتيال بعض قادة المقاومة الشعبية فيها، لن يقودا الى شيء، فلا اجتياح غزة ممكن، ولا الاغتيال سوف ينهي القوى الاسلامية المسلحة فيها. كل ما في الأمر ان حكومة اليمين الاسرائيلي تريد تصريف الغضب والاحباط، وتحاول دخول اللعبة الكبيرة التي تجري في المنطقة من الباب الخلفي.
غير ان اهمية ما يجري في غزة يتعدى في رأيي اهدافه المعلنة، وهو اشارة لا بد من التقاطها كي يعي العالم العربي، وهو يعيش واقع التغيير ودموية الاستبداد، ان الوجه الحقيقي للتغيير في العالم العربي يجب ان يظهر في فلسطين. فاذا كان البعض قد نسي او تناسى ان الدولة الصهيونية وجدت في المنطقة كي تكون اداة لقمع احتملات التحرر، فان الصهاينة يرفضون نسيان دورهم. فهم الاداة الاولى لكبح المنطقة العربية وابقائها اسيرة التفكك والعجز.
فلسطين تدخل اليوم في ربيع العرب من بوابة دمها، كي تقول للجميع ان تحرر المجتمعات العربية مرهون بالقدرة على ردع هذا الوحش المعدني الذي لا يشبع من دم الضحايا.
[عن جريدة "القدس العربي" اللندنية]