تعلن الجبهة القومية للعدالة والديمقراطية رفضها التام لما تم إقراره من ترتيبات بخصوص انتخابات الرئاسة. فلا يمكن لأي شعب يبتغي الحرية أن يقبل بترتيبات تسلبه حقه في اختيار من يحكمه طبقاً لنظام اختيار شفاف، ومعايير حكم واضحة، وأسس حكم متفق عليها ومحددة قبل اختيار الحاكم، وأمانة وكفاءة في إدارة عملية الاقتراع على الحاكم، وإلا تحولت عملية الاختيار هذه إلى مسرحية لإفساد المجتمع. لقد أفرزت الحركة الثورية على مدار العام الماضي العديد من التصورات التي تترجم هذه الشروط الأساسية إلى إجراءات محددة. لكن النظام الذي يحكمنا الآن بقيادة المجلس العسكري، ومشاركة مجلس الشعب، وتدخل مباشر من جماعة الإخوان المسلمين، أقر ترتيبات لإجراء انتخابات الرئاسة ليست مغرضة فحسب وإنما تنطوي على إهانة لثورة يناير وخرقاً لأهدافها على كافة المستويات.
أولاً: قرر هذا النظام انتخاب الرئيس القادم قبل تحديد صلاحياته، وهو ما يعني استحالة المفاضلة بين المرشحين على أساس ملائمتهم لمتطلبات الوظيفة لعدم تحديد ماهية الوظيفة أصلاً. فأصبح الناخب ليس أمامه إلا أن يبني تقييمه لمرشح ما إلا على شكله أو صيته. وهكذا نظل نسير على درب الشخصنة التي قتلت السياسة في مصر على مدار العقود السابقة. وحتى المرشحون أنفسهم لا يعلمون إن كانوا سيمتلكون الصلاحيات المطلوبة لتنفيذ برامجهم ووعودهم الانتخابية. وعليه فتلك البيئة الانتخابية تجبر المرشحين على تقديم برامج ووعود زائفة لن يسأل الفائز، في حال عدم تنفيذ أي منها. ولقد رأينا النتيجة العملية لعدم تحديد صلاحيات البرلمان قبل انتخابه، الذي تمخض في النهاية عن مجلس شعب لا حول له ولا قوة إلا كونه مكلمة لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثانياً: ربط النظام توقيت كتابة الدستور الذي يحدد هذه الصلاحيات بنتيجة العملية الانتخابية وتشكيل الجمعية التأسيسية، وهو ما يعني أنه إما (1) سيتم تمرير دستور بتسرع شديد بتبرير تحديد صلاحيات للرئيس بسرعة، وهو بالأمر الخطير، أو (2) سيتم نقل صلاحيات المجلس العسكري لرئيس جديد فنخلق فرعوناً جديداً، أو (3) أن يبقى المجلس العسكري في الحكم حتى الانتهاء من وضع الدستور مع وضع الرئيس الجديد على "الرف" طوال هذه الفترة. وهكذا تبقى قدرة المجلس العسكري على التحكم في الرئيس بما يضمن له الامتيازات التي تجعله فوق الجميع نافذة لا يحد منها سوى إرضائه لجماعة الاخوان. أو (4) أن يتم فتح الباب لتفصيل الدستور على مقاس الفائز. فتقلص صلاحيات الرئيس إذا ما فاز مرشح غير مرغوب فيه "ثوري"، أو تقر صلاحيات مطلقة للرئيس إذا فاز مرشح يدين بولائه للنظام.
وتقع كل هذه الاحتمالات في إطار عملية وضع لجنة تأسيسية للدستور يشوبها العوار الشديد، مما يزيد من أن نتيجة الربط هذه أننا لن ننل أياً من عملية انتخاب رئاسية سليمة أو عملية وضع دستور سليمة.
ثالثاً: أسس النظام الحاكم نظاماً للإشراف والمراقبة على انتخابات الرئاسة معيبة، حيث تستند الترتيبات التي يجري فرضها علينا الآن على منع أي اعتراض على الإطلاق على قرارات اللجنة العليا للانتخابات. مما يعني أنه حتى في حال ظهور آلاف الأدلة على تزوير الانتخابات فلا يحق لأحد أن يطعن فيها. بل وسيتم رهن نزاهة الانتخابات بقرارات ثلاثة قضاة اختارهم وعينهم مبارك شخصياً، أحدهم متورط في قضية إفلات المتهمين الأجانب في قضية التمويل الأجنبي—بشكل يكشف أنه لا يمانع التدخل ضد قرارت القضاء من أجل تنفيذ الأوامر السيادية—وآخرون لهم تاريخ طويل في الإشراف على الانتخابات التي جرت في الحقبة المباركية، التي بنيت كلها على التزوير.
ينتج كل هذا الإفساد عن عدم أمانة النظام الانتقالي وسوء نواياه. فتدل خبرة العام الماضي على أن النظام الانتقالي بقيادة المجلس العسكري مستبد، غير شفاف ولا عابئ بأحكام القضاء، سيء النية، وأن المؤسسات التي أشرف على إنتاجها مثل البرلمان، خرجت لتستبدل الفعل بالكلام الأجوف وساحة تعقد من ورائها الصفقات السياسية، فبدأت الحركات السياسية الكبرى تستغلها لما يحقق مصالحها الضيقة على حساب مصالح الشعب. فلا يمكن القبول أبداً بأي ترتيبات تعتمد على ثقة عمياء في نوايا نظام انتقالي أثبت أنه لا يؤتمن. والمشاركة في الانتخابات على أمل واهم بانتخاب رئيس جيد على الرغم من فساد ترتيباتها بهذا الشكل وفي بيئة سياسية شديدة الفساد يعني القبول بعملية انتقالية لم يشهد التاريخ في مثل رجعيتها من قبل.
لذلك تعلن الجبهة القومية للعدالة والديمقراطية عن مقاطعتها للانتخابات الرئاسية، وتهيب بكافة النشطاء عدم المشاركة في هذه المسرحية الهزلية بأي شكل كان، والعمل في المقابل على رفع الوعي بما تنطوي عليه من خيانة بينة لأهداف الثورة وتآمر صريح على حقوقنا الديمقراطية. بات من الواضح أن العملية الانتقالية برمتها التي وضعها المجلس العسكري، متوجة بانتخابات رئاسية مشبوهة، ما هي إلا محاولة لإقصاء الشعب من الحكم. والخوض فيها يعني ضمنياً المشاركة في إنجاح مشروع النظام الحاكم بكل أطرافه، وثورته المضادة بكل مؤامراتها، بإرغامنا على تقديم التنازل الأخير لهم في مسرحية انتقال السلطة.
الثورة الآن هي الثورة على آليات الرجوع إلى الاستبداد، ثورة على العملية الانتقالية التي وضعها المجلس العسكري، التي تتمثل أمامنا الآن في هيئة "انتخابات رئاسية". وضمان الاستمرار في النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة يرتكز الآن على الصوت القوي الرافض المشاركة في انتخابات بهذا الشكل والتكتل لإعلاء صوت الحق والمنطق فوق كل الأصوات. علما بأن النجاح هنا لا يقاس بعدد المقاطعين، بل فقط في التأكد من توصيل الرسالة التي يمكن البناء عليها في المرحلة اللاحقة لانتخاباتهم، التي تهدف إلى التطهير وبناء الأسس الداعمة لانتخابات نزيهة وشريفة تليق بمصر الثورة.