1- تتفاقم الأزمة الوطنية في سورية منذ حوالي السنة، ولا تلوح، في المدى المنظور، بارقة أمل في الوصول الى حلّ لها. البلاد تعيش حالة أقرب ما تكون لحالة الحرب، بل أصعب مما كانت عليه أيام الحروب التي عرفتها في الماضي. فالجيش ينتشر على مساحة الوطن وفي المدن ويقيم الحواجز على الطرقات العامة بين المدن والبلدات والقرى، والعنف المضاد لعنف السلطة آخذ في الاتساع. يرتبط التفاقم بجملة شروط وظروف، في مقدمتها إصرار النظام منذ البداية، وحتى الآن، على رفض الاعتراف بوجود أزمة وطنية، ليس الاحتجاج الشعبي سوى التعبير عنها. فإذا كان منشأ الأزمة بنية النظام، فإن نموها مرتبط بالسياسات القائمة على إلغاء الحريات والنفي الواقعي لمبدأ المواطنة وتغييب سيادة القانون، وبالسياسات الاجتماعية الاقتصادية، التي ترافقت مع الانتشار الوبائي للفساد وأدت، خلال ممارستها في العقود الأربعة الماضية وخصوصا منذ العام 2000، إلى استيلاء القلة على ثروات اسطورية متأتية من نهب المجتمع والمال العام، وإلى إفقار فئات واسعة من المواطنين ونمو البطالة وانعدام الأمل لدى الشباب في حياة كريمة ومستقبل آمن. لكنه يتعلق أيضا بتجاهل حقيقة أنّ حل أزمة بهذا العمق والتعقد هو شأن من صلب السياسة لا بدّ أن يتأسس على ادراك فوات النظام وغربته عن المجتمع، وضرورة الانتقال إلى نظام جديد يؤمن مستوى معقولا من المشاركة السياسية الحرة للمواطنين، ويلبي الحاجات الاجتماعية المحتجزة بالقوة للأغلبية، وينال رضى الناس. ويتعلق أخيرا بواقع أنّ الحل الأمني الذي سارت عليه السلطة منذ بداية الأحداث، لم يدفع بالأزمة إلا نحو المزيد من التفاقم، وحال ولا يزال يحول دون الوصول إلى حلول مقبولة من المجتمع ومن الأطراف الداخلية المشتبكة بالأزمة.
لم يكن من الممكن، إذا، جمع الحل الأمني والحل السياسي في وقت واحد وعلى صعيد واحد. بل لم يكن التلويح بالحل السياسي إلا لتغطية الحل الأمني. لقد نسبت السلطة الأزمة لمؤامرة خارجية، ولم تستطع، بالأحرى لم ترد الفصل بينها وبين المؤامرة التي حولتها إلى مشجب علقت عليه كل مايجري. حتى المؤامرة، المفترض توقعها من أطراف مختلفة معادية للبلاد أو للنظام قبل انفجار الأحداث، أو بعد انفجارها وتوفر شروط مناسبة لها، لم ُتستوعَب أبعادها، فجرى تضخيم البعد المتعلق بالنظام، وإهمال أو تجاهل الأبعاد المتعلقة بسورية الكيان والدولة والدور والموقع الستراتيجي. لقد حجبت الشجرة رؤية الغابة التي تقع وراءها. ولو كان تقدير الأوضاع صحيحاً وسليماً، لتصرفت السلطة بطريقة أخرى وبذلت الجهود الجدية للتعامل الصحيح مع الانتفاضة الشعبية، بتلبية مطالبها المشروعة التي اقتصرت في البداية على إصلاح النظام، والحيلولة، بالتالي، بين المتآمرين الواقعيين والمفترضين والاستفادة من الجو الذي خلقه عنف السلطة. ماجرى في الواقع هو العكس. وما اتخذ من تدابير أو خطوات تحت عنوان الإصلاح، كان إما متأخراً، وبالتالي قليل الفاعلية أو عديمها، أو شكلياً أدّى إلى الضد من هدفه المعلن. فكأن السلطة توفر للمتآمرين، الذين تعلنهم أعداء لها، أجواء ملائمة للمضي في التآمر وظروفاً مناسبة تغريهم بإمكانية النجاح.
2- على أرض الواقع، يلاحظ الانزياح التدريجي، من الحراك السلمي إلى اللجوء إلى استخدام السلاح. ثم اتساع رقعة المواجهات المسلحة، وتواترها وازدياد شدتها، وانتقال المسلحين إلى تطوير أساليبهم في نوع من حرب العصابات، بما في ذلك الانتقال إلى الهجوم على حواجز الجيش، ونصب الكمائن الموجهة ضدّ أفراد أو مجموعات من الجيش أو رجال الأمن، لكن خصوصاً في السيطرة على مناطق واسعة في الريف، وعلى بعض الأحياء الداخلية لبعض المدن والبلدات والقرى في الليل وأحياناً في النهار، ولمدد زمنية مختلفة تمتدّ للأسابيع. بالإضافة لذلك، حدثت اغتيالات عديدة في مدن مختلفة، وتفجيرات، نسب بعضها لـ"القاعدة" تناولت مراكز أمنية وجرى تخريب مؤسسات عامة (أنابيب نقل النفط والغاز والسكة الحديدية). في المحصلة، المبادرة باستخدام العنف، لم تظل وقفاً على النظام، الذي، بمواجهة ذلك، زاد في زجّ القوات المسلحة في الأحداث، وأخذت الممارسة ترتدي طابعاً حربياً يتجلى بحصار المدن وتطويق الأحياء وقصفها وتهديم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، كما هو جار حالياً في بعض أحياء حمص.
في الميدان الاقتصادي، لمواجهة هجمة العقوبات الاقتصادية المتصاعدة المطبقة من الولايات المتحدة والدول الأوربية والخليجية العربية، لجأت السلطة لسياسة التراجع، لاحتواء هذه الهجمة. وهي ممارسة، أثارت استياء الغالبية، وكان بالإمكان أن تلقى تفهماً، بل تأييداً من المواطنين لو لم تتصف بالاضطراب والفوضى والعجز عن تأمين المواد الضرورية التي تحتكرها مثل المازوت والغاز، أو تنتجها مثل مستلزمات الإنتاج، إضافة للكهرباء التي تنقطع عدة ساعات يومياً في أنحاء البلاد كلها، ولو لم تتغاضَ عن التجار الذين استباحوا البلد وأمعنوا في نهب المواطنين، وعن تهريب الأغنياء لأموالهم إلى خارج البلاد، مما ساهم ،حتى الآن، بارتفاع قيمة العملات الصعبة بحدود الخمسين بالمئة، وتدني قيمة الليرة بحدود الثلث، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين بماهو أكثر من ذلك بكثير.
الاتجاه من اسلوب الحراك الاحتجاجي السلمي، الذي هو الضمانة الأكيدة للتغيير، إلى العمل المسلح لا يعني تضييق قاعدة الحراك فقط، بل ربما دفعه للتقهقر، عدا عن أن العمل المسلح يحتاج للمال والسلاح، مما يدفع إلى البحث عنهما عند من يملكونهما. بذلك تنتقل قضية التغيير الديموقراطي الجذري من الحراك الشعبي السلمي إلى العمل المسلح الضيّق بالضرورة، ومن الداخل السوري إلى االخارج الغربي والخليجي، وتخضع، بالتالي، لإعادة صياغة موافقة لأهداف وتصورات هذا الخارج. وبدلا من أن تكون القضية ممسوكة بالأيدي السورية، يضع الآخرون أيديهم عليها، وهي الأقوى.
يشير السياق الذي يسير فيه الوضع العام، وخصوصا جوانب السياسة والأمن والاقتصاد، إلى المخاطر التي تواجه البلاد والمجتمع. الممارسة الواسعة للعنف طوال هذه المدة، ومارافقها من اختلال الأمن، والغلاء الحاد والمفاجئ، ترفع التوتر بين الناس، وتنشر في دوائر ليست قليلة مزاجاً طائفياً، لم تألفه البلاد، ولم يتعود عليه أهلها، مما يشكل أرضية مناسبة لاستمرار الصراع الداخلي ونموه ويهدد بدخول البلاد أتون الحرب الأهلية.
3- إيغال النظام في ممارسة العنف المنفلت من الضوابط والوضع المضطرب في البلاد خلال الأشهر المنصرمة سمح لقوى خارجية، بالتدخل المباشر وغير المباشر في الأحداث، تدخل واسع امتدّ من الحرب الإعلامية إلى الحرب الاقتصادية والسياسية وإلى أمور أخرى، وأصبح "للمسألة السورية" أبعاد إقليمية خطرة، ثم أبعاد دولية بعد ذلك. وتحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، والغيرة على الشعب السوري، شن حلف من الدول الغربية الكبرى ودول الخليج نوعاً من الحرب، يذّكر بشبيهه خلال الأشهر التي سبقت العدوان على العراق في ما سمّي بحرب تحرير الكويت. وبتواتر لافت للنظر، استخدمت منابر المنظمات الدولية والإقليمية. فالجامعة العربية، وظفت وقتا طويلاً وبذلت جهداً كبيراً لعلاج الأزمة. من حيث الظاهر أرادت بقراراتها ونشاطها، المساعدة في التوصل لحل في الإطار العربي. في الواقع لم يكن هدف السعودية وقطر تحقيق تسوية مقبولة، بل منع حصولها، ونقل القضية إلى مجلس الأمن، عسى أن يصدر منه قرار شبيه بالقرار حول ليبيا، يمهد لتدخل الحلف الأطلسي (وتركيا عضو فيه)، مدعوماً (بالأحرى مغطى) من قوات خليجية. من غير الواقعي عقد الآمال على الجامعة لإيجاد حلول معقولة للأزمة السورية. فهي، من جهة، منظمة دول يتحدد نشاطها بسياسات وأوزان هذه الدول، وهي حاليا واقعة تحت نفوذ السعودية ودول الخليج النفطية. ومن جهة أخرى، يكشف تاريخها، خصوصا في العقدين المنصرمين، الدور المشين الذي لعبته في تغطية العدوان الأمريكي الأول على العراق 1991، ثم في تغطية الاحتلال الأمريكي له2003، وأخيراً وليس آخراً، في استجلاب تدخل حلف الناتو في ليبيا بذريعة حماية المدنيين.
لا جديد في الأمر، إذاً، عندما تستخدمها دول الخليج بالاتفاق مع حلفائها الغربيين، وبالاستفادة من الأزمة السورية، للتمهيد لتغييرات كبيرة في الشرق الأوسط تلبي الأهداف المشتركة. ينطلق التصور الغربي، والأمريكي بالدرجة الأولى، وخصوصا منذ الخمسينيات، أي منذ إعلان مبدأ الفراغ لأيزنهاور، ينطلق من الأهمية الجيوسياسية الاستثنائية للشرق الأوسط في الصراعات على النفوذ، ومن الأهمية الاقتصادية لبتروله وغازه، وكون تأمينهما المستمر مسألة "وجودية" للرأسمالية الغربية، بل للحضارة الغربية التي تقوم على الاستخدام الكثيف للطاقة. لذلك يجب أن تبقى كياناته، خصوصا العربية منها، هشّة وضعيفة.وهذا هو مضمون المخطط الأمريكي الجديد لإعادة صياغة الشرق الأوسط، الذي عملت إدارة بوش الابن على تنفيذه، ولاتزال الإدارة الأمريكية الحالية تتابعه، وإن بطرق ووسائل جديدة. ينبغي الحيلولة، إذاً، دون وجود دول متطورة، قوية علمياً واقتصادياً ومجتمعياً. وإن وجدت مثل هذه الدول، يجب الخلاص منها بكل الوسائل، والحرب أجداها. وهذا هو السبب الرئيسي وراء عدوان 1967 للخلاص من مصر الناصرية، ووراء الحرب العراقية الإيرانية لاستنزاف الطرفين، ووراء حرب "تحرير" الكويت لإنهاك العراق والتمهيد لاحتلاله الذي أنجز عام 2003.
4- تأتي أهمية سورية ليس من نظامها السياسي، ولا من سياسته تجاه الدول الغربية أو إسرائيل أو الدول العربية والإقليمية، والتي يقال فيها الكثير، وليس من بترولها الضئيل الكمية والمتجه للنفاد، بل من أهمية موقعها الجيوسياسي، ومن شعبها الذي حمل دائماً مشعل العروبة، ولم يتزعزع ارتباطه بقضية فلسطين. لذلك احتل "الصراع على سورية" حيّزاً هامّاً من تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين. وبعد الحرب العالمية الثانية، مع ازدياد أهمية البترول، وفي سياق الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والغرب وبين الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، ازدادت أهمية الموقع السوري.
في الوقت الحاضر تسنح فرصة ذهبية للإمساك بمصير هذا البلد. على هذا الهدف يتفق الغرب (وإسرائيل من ضمنه) ودول الخليج والسعودية على رأسها، ويتفقون أيضاً على ضرورة ضرب إيران، وعلى قطع السلسلة الممتدة من طهران إلى بيروت في أضعف حلقاتها، وهي في الحاضر سورية، ثم الإجهاز على الحلقات الأخرى بعد ذلك. لعل مايجري هو أيضاً حرب إستباقية هدفها المباشر الكيان السوري لفرض وقائع على الأرض، قبل أن يتبلور تحالف عالمي تلوح بوادره في الأفق، من روسيا والصين ودول أخرى لمجابهة التحالف الغربي والحيلولة دون تحكم الولايات المتحدة بالعالم لعقود قادمة. الأيام القادمة ستكشف ما وراء هذا النشاط المحموم لدول لم تعرف عنها الغيرة على حياة البشر وحقوق الإنسان. كما ستكشف حماسة دول الخليج لنقل "القضية السورية" إلى مجلس الأمن، والتمهيد لتحالفات غربية- إقليمية لا يمكن تصور اقتصارها على استهداف نظام الحكم السوري لوحده.
لقد تحول مجلس الأمن الى ساحة صراع، حاصرت الدول الغربية فيها روسيا والصين لإجبارهما إما على التراجع أمام الهجوم الغربي المعتمد على قرار الجامعة بطلب تأييد المجلس لقرارتها الأخيرة بشأن سورية، أو في حال استعمال الدولتين لحق الفيتو، تشويه سمعتهما، بإظهارهما كمدافعتين عن نظام والغ في دماء شعبه. انتقلت المعركة بعد ذلك إلى الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ثم إلى خارج الأمم المتحدة والجامعة العربية.
في تونس انعقدت الدورة الأولى لمؤتمر "أصدقاء سورية" الذي ستنعقد له دورة ثانية في اسطنبول وثالثة في باريس. وبغض النظر عن القرارات المتخذة من هذين المحفلين، فلا تجوز الاستهانة بقرار الأمم المتحدة، ولا بمؤتمر تونس، ولا بالمنظمات العالمية المختلفة، فهي تساهم في تكوين الرأي العام على نطاق العالم، وتؤثر على الرأي العام العربي والداخلي، وقد تمهد الأرض لأمور أخرى تتجاوز الكلام. فبعد مؤتمر تونس تشكلت مجموعة من سبع دول غربية وخليجية (منها الولايات المتحدة والسعودية وتركيا) "للعمل الميداني" في الأوضاع السورية.
5- في الأيام الأولى للأحداث، بل وحتى في الأسابيع الأولى لها، كان في قدرة النظام قيادة البلاد على طريق إصلاح سياسي حقيقي طالب به الديمقراطيون السوريون منذ أكثر من ثلاثة عقود، بعد العام 2000 ووضوح فوات النظام لدوائر أوسع من المواطنين ازدادت المطالبة بإصلاح سياسي ينقل البلاد باتجاه الديمقراطية. القمع كان رد النظام. فإصلاح من هذا النوع لم يكن مقبولاً منه، وربما لم تتوفر القدرة على تحقيقه، لأنه يلحق الضرر بالقوى المسيطرة على النظام والمستفيدة منه. بالإضافة لذلك لم تتوفر قوى اجتماعية عريضة قادرة على تحقيقه. الإصلاح الاقتصادي والإداري طُرحا في حينه للتشويش على الإصلاح السياسي، ولم يُقيّض لأي منهما أن يتبلور في مشروع محدد. في الواقع مارس النظام سياسة اقتصادية ليبرالية، حسب وصفات البنك الدولي، أُطلق عليها اسم "اقتصاد السوق الاجتماعي"، أدت إلى تسريع التمايز الطبقي وزيادة غنى الأغنياء وإفقار مجموعات جيدة من المجتمع ونشر البطالة خصوصا بين الشباب وزيادة تهميش أغلب المناطق التي تحولت إلى مراكز للحراك الشعبي.
أشاحت السلطة السورية بوجهها عن المعاني العميقة الواجب استخلاصها من الثورتين التونسية والمصرية ومن انفجار الأحداث في اليمن والبحرين وليبيا. بل استعدّت لمواجهة الاحتجاج بالعنف. على أن الأشهر المنقضية كشفت عن عجزها عن هزيمة الحركة الشعبية، لكن أيضاً عن عجز الحركة الشعبية عن كسر النظام أو اجباره على التسليم بمطالبها. ودخل الوضع حالة من الاستعصاء، بالأحرى نوعاً من حرب الإستنزاف المترافقة مع تدهور في الأوضاع العامة، مما يرهق المجتمع والسلطة ويفسح في المجال لتدخل متزايد متنوع الأشكال من القوى الاقليمية والدولية، ويحمل الأخطار على تماسك البلاد ووحدتها وعلى الدولة نفسها. بل يكاد الاضطراب أن يصل إلى لبنان، وحالته قابلة للتفجر من أصغر الشرارات، وإلى العراق بما يهدد بتشظي الدولة العراقية الضعيفة التماسك منذ الاحتلال الأمريكي، وربما يُوظف الوضع للتمهيد لحرب أوسع تشمل ايران ولن تكون منطقة الخليج بمنجاة من حريقها، حرب يزداد فيها الكلام عن قيام اسرائيل بالدور الرئيسي فيها، وليس من المستبعد مشاركة الولايات المتحدة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فأمريكا التي تعاني من أزمة اقتصادية شديدة، قد تجد في الحرب مخرجا لها من هذه الأزمة، برغم سنة الانتخابات الرئاسية التي يقال إنها تحول دون الذهاب إلى الحرب مؤقتاً.
6 – مع استمرارالحل الأمني-الحربي، والعمل المسلح، وتدويل القضية ودخول أطراف كثيرة فيها يصبح الحل السياسي الداخلي، أي التسوية السياسية، صعباً جداً يقترب من الاستحالة. ورغم ذلك من الخطأ الاستسلام أمام هذا الواقع الصعب. لقد أهدر النظام فرصاً كثيرة، خصوصاً في الأسابيع الأولى من انفجار الأزمة الوطنية، وكان بإمكانه استغلالها وتولي قيادة العملية التاريخية السلمية للتغيير. لكن السلطة، بنهجها الأمني، حولت نفسها من قوة رئيسية للحل إلى جزء هام من المشكلة المطلوب حلها. لقد فشل الحل الأمني، واتسعت الهوة بين المجتمع والنظام، وتزعزعت الثقة، ولم يعد من الممكن الوصول الى صيغة حل قادرة على تلبية مطالب الشعب بدون إعلان السلطة الالتزام بالحل السياسي، والاستعداد لتقديم التضحيات الملموسة القادرة على إحداث تغيير جدي في الرأي العام، وعلى إقناع الناس بأنّ التغيير نحو الديموقراطية قد بدأ. ومن واجب المعارضة، على اختلاف تشكيلاتها، الدفع نحو الحل السياسي السلمي، والابتعاد عن الطريق الذي سارت عليه المعارضة العراقية. الأيدي المعادية لشعبنا وبلادنا موجودة وفعالة في الأزمة، وهي لم ترد الخير لها في الماضي ولا تريده الآن ولن تريده مستقبلاً. هذا لا يعني رفض الاستفادة من القوى والدول التي تساعد في تحقيق حل يلبي مطالب شعبنا وينقل بلادنا إلى النظام الديموقراطي، ويصون استقلالها ووحدتها. من هنا أهمية التعامل الصحيح مع الاستعداد الروسي للمساعدة في البحث عن تسوية والخروج من حالة الاستعصاء السائدة والحيلولة دون الغرق في حرب الاستنزاف. كما تنبغي الاستفادة من أي جهد صادق تبذله الدول والهيئات الراغبة بتقديم العون لتحقيق هذا الهدف. وكيفما سارت الأحداث، فالمارد الذي خرج من القمقم لا يمكن إعادته إليه، والنصر في النهاية للشعب.
دمشق، أوائل آذار 2012.
[عن جريدة "السفير" اللبنانية]