نعود إلى الأرض مرة كل عام في يومها. منذ عام 76 نعود وكأننا نواسي أنفسنا في هذا اليوم (1) بمظاهرات كي نتذكر أننا ما زلنا على هذه الأرض، التي يسحقنا العيش فيها رغم جمالها.
تضيق بي فلسطين وتتسع في ذات الآن. تضيق عندما أرى عيشنا فيها، وتتسع عندما أرى كم هي غنية وجميلة، هذه البقعة الصغيرة. وهي ليست أجمل بقاع الأرض، ولا أغناها، لكنها البقعة الأجمل في عينيّ لأنني أحبها بكل قباحتها التي أراها كلما عصرني شعور بالذل، وكلما شعرت بالغربة داخل بلادنا التي تمكنت من البقاء فيها، ليس لشيء ولكن لأن الصدف شاءت أن لا يكون أجدادي من الذين هُجروا عام 48. ضربة حظ لا أقل ولا أكثر! أو لعله سوء حظ، أن تولد في مكان لا تتركك ذاكرته بل تقبض على خناقك. ”وأنتِ ماذا تفعلين كي لا تكرهي هذا المكان؟“ أتساءل في أيام عابرة وليس فقط في يوم الأرض. ”أذهب إلى البحر!“ أقول لنفسي وأنا أحدق في الأفق في وهم اللانهاية وأنا أجلس على شاطىء من شواطئه.
لماذا لم يختاروا بقعة أخرى غير هذه البقعة، فالبلاد فاتنة الجمال والغنية كثيرة؟ لا جدوى من السؤال الآن أقول! ولا عدالة في العدالة! تصطادني الذاكرة وتأكلني كما يأكل الصدأ الحديد وتحييني من جديد. فلا مفر من العيش من جديد. ذاكرة المكان وذاكرة هؤلاء الذين يعيشون في المخيمات وذاكرتنا نحن الذين بقينا وذاكرة أجدادنا المبتورة وذاكرة الآخر، أو بمعنى أدق ذاكرات الآخرين. هل بقي مكان في الحاضر في معمعة هذه الذاكرات؟
”المدينة والصناعة هي ما جلبه الإستعمار، أصلنا هو الزراعة والقرية والفلاح!“ قال لي رسام فلسطيني أُخرج من عكا في النكبة وكان قد ترك خلفه حوالي العشرين عاماً من الذكريات في حينه. كان جوابه هذا رداً على سؤال لي في مقابلة معه في برلين حول معرضه وصوره التي تأخذ القرية والفلاح دوراً كبيراً في مواضيعها. استغربت لماذا يأخذ بعض الأدباء والفنانين الفلسطينيين القرية والفلاحين كرمز رئيسي لفلسطين بحيث تكاد تكون المدينة شبه غائبة عندهم إن لم نقل غائبة تماماً. وقلت لنفسي عندما سمعت جوابه، هل تمكنت رواية المستعمر منا إلى هذا الدرجة بحيث نسينا أن بلادنا كانت لها أيضاً تجارة وصناعة مزدهرة تنافس وتضاهي الكثير من المدن العربية الأخرى قبل 48؟ هل صدقنا الرواية الاستشراقية عن المكان؟
لعله من سوء حظ فلسطين ”وهي القريبة من كلام الله“(2) أن الإهتمام الفوتوغرافي بها، جاء بعد حفنة من السنين لما يؤرخ له كأول صورة في العالم التقطها الفرنسي Joseph Niépce عام 1826. (3) فبعد سنوات قليلة وتحديداً في عام 1839، اخترع التصوير الفوتوغرافي وعرف تحت إسم ”الديغيروتايب“ وأصبح من الممكن تخزين اللحظة بوهم الحقيقة (في تلك السنة التقطت أول صورة لغزة من قبل Frederic Goupil Fesquet). (٤) وانتشر التصوير الفوتوغرافي بسرعة وأصبح وسيلة لشرعنة ”الواقع“ وبالتالي ”الحقيقة“.
” ... الصور مثلها مثل الوثائق التّاريخيّة الأخرى التي تركها الأوروبيون حول هذا البلد، تعكس، بالأساس، مواقف ومفاهيم أوروبية سائدة آنذاك حول فلسطين والشرق عموماً، أكثر من مجرد أنها تظهر كيف بدا المشهد الفلسطيني للكاميرا في ذاك الحين.“ (5) لكن أهمية الصور التي التقطت في فلسطين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي في دورها في تشكيل وترسيخ ”صورة“ فلسطين الاستشراقية، ومن ثم ”توثيق“ الصورة الصهيونية عن البلد. وهذا يطرح أسئلة عدة من ضمنها الطريقة التي كانت هذه الصور تأخذ بها؟ ومدى انتشارها؟ وماذا عن المصورين الفلسطينيين؟ وأسئلة أخرى كثيرة هي موضوع بحوث. ولكن السؤال الأهم والذي يعيدني إلى جواب الرسام هو: إلى أي مدى تبنّينا نحن ”الضحايا“ رواية الجلاد بوعي أو بدونه؟ فالصور، وطبعاً ليست لوحدها فالأساليب الأخرى كثيرة، لعبت دوراً في خلق إسطورة المكان الفلسطيني. “ بالطبع، من المهم الإشارة إلى أنه على الرغم من أن الصور عكست الوعي والمخيلة التاريخية الأوروبية، فإن ذلك لا يعني أنها لم تساهم، أيضاً، في خلق وإعادة تشكيل هذا الوعي ذاته. فالصور تمتلك سلطة تشكيل المخيلة بقدر ما تعكسها“. (6)
كثرت الصور وغيّب الفلسطينيون عن المكان، عن الأرض. أما في الصور التي ظهروا بها فكانوا أفراداً دون ملامح شخصية. ليسوا أكثر من ديكور لإسطورة إسمها فلسطين التوراتية والإنجيلية تؤكد ”صحة“ روايات المستشرقين. فتظهر فلسطين كأرض بتول لا ناس فيها وإن وجدوا يكونون وكأنهم قد خرجوا للتو من أحد كتب التاريخ لتأخذ لهم صور قبل أن يعودوا مسرعين إلى صفحاته! هل تشوهت ذاكرتنا إلى هذا الحد، فنسينا أن الفلاحة والفلاح كما البدوية والبدوي كانوا موجودين بالطبع، لكن المدينة بصخبها ونسائها ورجالها كانت موجودة أيضاً؟
لعل نظرة سريعة على بعض الأرقام عن يافا، على سبيل المثال لا الحصر، والحياة فيها قبل عام 48 تضيء الذاكرة التي سادتها ثقوب سوداء. فيافا كانت أكبر المدن الفلسطينية، حيث وصل عدد سكانها ما يقارب 100 الف نسمة من الفلسطينيين واليهود و 120 ألف نسمة مع القرى المحيطة بها قبل النكبة. كانت مركزاً إقتصادياً وتجارياً وثقافياً وسياحياً على الصعيد الفلسطيني والعربي. اشتهرت ببرتقالها وحمضياتها التي وصل معدل التصدير فيها في سنوات الثلاثينيات إلى عشرات الملايين من الصناديق. لكن يافا لم تكن فقط مدينة الحمضيات، بل كانت مدينة وجدت فيها العديد من شركات الاستيراد والتصدير وشركات النقل البري والبحري موطناً لها. إضافة إلى وجود مصانع صب الحديد وصناعة الزجاج والبوظة والسجائر وغيرها من الصناعات. ولا ننسى السياحة حيث كانت المدينة تحتضن عشرات الآلاف من الزوار سنوياً، ناهيك عن الصحف والمطابع. (7) وليس المقصود من كل هذا الرفع من شأن المدينة على حساب القرية. لا بل التذكير أن المدينة هي جزء من ثقافتنا وجزء من تطور فلسطين التي كانت جزء من الكيان العربي المحيط بها. فالمدينة هي الأرض أيضاً. وفي وقت تشهد فيه مدن كيافا وحيفا وعكا واللد والرملة وغزة وبيت لحم ورام الله حصارات مختلفة تلتهمها بصور شتى فإن أقل ما يمكن أن نقوم به في يوم الأرض إلى جانب تذكر أراضينا وقرانا ونضالنا، هو أن نتذكر مدنيتنا ومدننا.
[انظر الهامش رقم 8 لمصدر الملصقات والصور المستخدمة في هذا المقال]
أعود إلى ذاكرة جدتي عن المكان، ليس لأنها فنانة أو مصورة فوتوغرافية! بل لأنها كانت ترى نفسها يافاوية حتى النخاع. ولأنها كانت إمرأة يافاوية بسيطة تعمل خياطة وتعيش في المنشية. مفردات ذاكرتها هي السينما والبحر والبيارات. بيارات يافا، بيارات المدينة والمناطق المحيطة بالمدينة. ذاكرتها في وجوه فلسطينية ووجوه أخرى من كل بقاع الأرض كانت تعيش في تلك المدينة قبل النكبة. مفردات ذاكرتها هي طريقة الطبخ التي تختلف، في بعض تفاصيلها، عن طريقة طبخ المدن والقرى الأخرى. ذاكرتها في شوارع يافا وسينما الحمرا واللهجة اليافاوية والخوف والبحر. البحر لم تعد تحبه ولم تعد تحب الذهاب إليه بعد ذلك العام. لم تكن تسمي ذلك العام بعام 48 أو بالنكبة بل ”ذلك العام.“ وكان علينا كأطفال أن نعرف أن ذلك العام هو العام المحرم طرح الأسئلة حوله، هو العام الذي كرهت هي فيه ما أحبت. هو العام الذي لم يعد للمكان فيه معنى المكان. إنه ذلك العام الذي توقفت فيه ساعة القلب وبقيت ساعة الزمن تتكتك بصوت عال لتجعل منا قنابل موقوتة! أما الخوف فكان صديقها الخميم الذي لازمها إلى أن توفيت قبل ثلاثة أعوام. لهجتها هي الشيء الوحيد الذي لم يخذلها، ليس لأن اللهجات لا تتغير بل لأنها هي قررت أن تبقيها حبيسة في زمن ما قبل ”ذلك العام“!
في يوم الأرض هذا العام سأختار المدينة لأستذكر الأرض. بل سأنحاز لها لا لشيء إلا لأنها تغرق في الفقر والمحاصرة والتهجير والمخدرات. وتزدهر في الوقت ذاته بإصرار مستمر على العيش. يافا وعكا واللد والرملة وغيرها. سأنحاز ”للغيتوهات“ في هذه المدن في يوم الأرض من هذا العام. لأن المدن في هذه المدن قتلت. لكن ما قتل يحيا من جديد في المدن على عكس البشر!
مصادر:
1. انظر مقال سابق للكاتبة عن يوم الأرض وأجوائه.
2. من قصيدة الشاعر محمود درويش ”لبلادنا“.
3. انظر الصورة الفوتغرافية الأولى في العالم.
4-5-6. انظر دراسة للباحث والأكاديمي الفلسطيني عصام نصار بعنوان ”فلسطين والتصوير الفوتغرافي المبكر“.
7. انظر ”بديل المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين“.
8. مصدر الصور والملصقات المستخدمة في هذا المقال هو موقع "ناها اوست جورنال"