يقول أحد عمال سيراميكا كليوباترا المضربين بحماس شديد في فيديو مدته ١٠ دقائق من قلب الإضراب بثت حركة مصرين على يوتيوب:"احنا لما قمنا بالثورة قمنا عشان نلغي حكومة رجال الأعمال. احنا عايزين الحكومة اللي بتمثل الشعب تشوف الشعب عايز ايه". يصف العمال، الذين حققوا انتصارا شاملا في كل مطالبهم فيما بعد، صاحب المصنع محمد أبوالعينين، رجل الأعمال والقيادي السابق في حزب النظام المخلوع وبرلمانه، بأنه كان يدير البلد، في وعي كامل بما يسميه الاقتصاديون والخبراء والسياسيون برأسمالية المحاسيب. غير أن الاستنتاج البسيط، في سهولته ووضوحه وليس في عمقه، الذي خرج به العامل الثائر، لا يحوز على تأييد قوى سياسية عديدة تقول إنها تمثل المصريين، وإلا كيف نفهم أن تقوم جماعة الإخوان المسلمين عبر حزبها بترشيح رجل أعمال لرئاسة مصر قائلة إن قرارها ينبع من "الحرص على استكمال الثورة والدفاع عنها"؟
من يدير البلاد؟ سؤال الثورة
رأسمالية المحاسيب هو مصطلح يصف اقتصاداً يكون فيه النجاح في الاستثمار وإدارة الأعمال معتمداً على العلاقات الوثيقة بين رجال الأعمال ومسؤولي الحكم. وفيه يطفو فساد عالم السياسة إلى عالم البزنس فتؤثر الصداقات والقرابات العائلية بين المستثمرين والحكومة على الاقتصاد والمجتمع لدرجة أنها تحدد مسارهما. وفي مصر، كانت سنوات حكومة نظيف تتويجا لخيار مشترك بين رأسماليين مصريين وبين الأسرة الحاكمة عكس نفسه في تحويل هائل لثروة المجتمع، بشكل مباشر من أراضي وأصول الدولة أو غير مباشر بالمواقع الاحتكارية في الاستيراد والانتاج، لأيدي شريحة مقربة منتقاة من رجال الأعمال، سيطرت أجندتهم ومصالحهم على جدول أعمال الاقتصاد والمجتمع كله. ووجدت هذه المصالح تجسدها وحلفها السياسيين في مشروع التوريث.
جاءت ثورة يناير من رحم هذا التداخل المركب الذي أفسد السياسة والاقتصاد معاً، لتطلب ديمقراطية تحققحرية وكرامة يعكسان تجليهما في توزيع عادل للثروة: عدالة اجتماعية. لكن الثورة نجحت فقط، حتى الآن، في إزاحة المشروع السياسي لهذه المصالح المسيطرة التي اطعمها ورعاها نظام المخلوع حتى صارت أخطبوطية، وبقيت هي تبحث عن مشروع جديد تعيد تقديم نفسها من داخله.
وبرغم الضربة الهائلة التي وجهها الثائرون للتزاوج بين الثروة والسلطة، نجحت عصابات المصالح القديمة في الحفاظ على مكتسباتها القديمة في نظام ضرائب منحاز لها على حساب أغلبية المصريين ودعم مباشر لأرباح محتكريها في الطاقة والصادرات ... الخ. ليس هذا فقط، بل نجحت في إيقاف قوانين كانت أساسية لتعطيل جزء من الآلية الأساسية في رأسمالية محاسيب مبارك وجمال: على رأسها قانون تعارض المصالح. ويضع هذا القانون، الذي دخل مشروعه أروقة حكومة شرف الأولى قبل أن تنحيه جانباً، قواعد لتنظيم عمل رجال الأعمال بالسياسة وبمناصب الدولة لكي يحاول تأمين عدم تأثر السياسة العامة بمصالحهم الخاصة.
بالتزامن مع هذا ظهرت أحزاب جديدة يتحكم فيها بشكل شبه كامل رجال أعمال، كان لهم صلات لا تنكر بنظام مبارك، لتضخ أموالا هائلة في الدعاية وتدافع عن برنامج اقتصادي واجتماعي كان ليفخر به نظيف ورجاله. كما مولت المصالح القديمة عددا لا بأس به من القنوات الفضائية والصحف الجديدة للتأثير في الرأي العام ... الخ. وها هو المال يطل برأسه وبجسده وبكل جبروته في الانتخابات الرئاسية (مرة أخرى بعد الانتخابات البرلمانية) عبر الدعاية الهائلة غير المنضبطة وفي غياب القيود على تمويل المرشحين وغياب الشفافية في مصادر التمويل. فهل هذه هي الديمقراطية التي نسعى إليها؟
درس أمريكي
في الولايات المتحدة هناك قوانين تنظم تعارض المصالح، غير أن هذا لم يعف نظامها السياسي من مشكلات تأثير مصالح الأغنياء والشركات الكبري في مواجهة مصالح الأغلبية. يكتب روبرت رايش، الاقتصادي الأمريكي الكبير وأستاذ الإدارة العامة بجامعة كاليفورنيا، في عدد التاسع من أبريل ٢٠١٢ من مجلة "ذي نيشن" The Nation أن "الحكومة الكبيرة ليست هي المشكلة – كما يقول الجمهوريون الساعون لتقليص عجز الموازنة ودور الحكومة في الاقتصاد. المشكلة هي المال الكبير الذي يستحوذ على الحكومة. الحكومة تفعل القليل مما يريدها أغلبيتنا أن تفعل- في توفير مدارس عامة جيدة وكليات بتكلفة معقولة وتحسين البنية الأساسية وصيانة شبكات الأمان الاجتماعي وحماية العامة من المخاطر. وفي المقابل تفعل أكثر الأشياء التي يريدها الأغنياء وول ستريت والشركات الكبرى أن تفعل".
ويقدر الخبراء أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة ستشهد صعوداً هائلا في تمويل المرشحين لتصبح الانتخابات الأعلى تكلفة في التاريخ بضخ حوالي ٦ مليارات دولار. “ولا يمنح الأغنياء والشركات هذه الأموال بدافع العمل الخيري لكنها استثمارات يتوقعون عليها عائداً معتبراً"، يضيف رايش.
هذا الوضع المتفاقم في واحدة من أكثر ديمقراطيات الرأسمالية قدماً يفسر الصعود في حركات المقاومة "احتلوا"، كما يفسر عزوف الناخبين الفقراء عن المشاركة في العملية السياسية وعضوية الأحزاب، وهو وضع موجود بدرجات متفاوتة في بريطانيا وفرنسا ودول أخرى.
في استطلاع للرأي قامت به مؤسسة أبحاث "بالس" للرأي العام لحساب مؤسسة "تقارير راسموسن" الأمريكية في يناير الماضي، قال ٦٤٪ إنهم يعتقدون أن الرأسمالية هي النظام الأصلح لبلادهم بينما اختار ١٥٪ الاشتراكية و٢١٪ قالوا إنهم غير مستقرين على رأي. لكن الأهم هو أن ٣٩٪ أكدوا أن النظام الذي يحكم بلادهم هو رأسمالية محاسيب منحاز للقلة التي تملك المال والسيطرة الاقتصادية.
يجيء هذا في وقت تتصاعد فيه المواجهة بعد أن قررت هذه القلة أن تتطلع بنفسها لمهمة الحكم عبر شخص رجل الأعمال ميت رومني، المرشح لتسمية الجمهوريين في انتخابات الرئاسة المقبلة. وفي تعليق له على ترشح رومني يقول بول كروجمان الاقتصادي الأمريكي الحائز على نوبل إن أمريكا ليست شركة وإن رجل الأعمال الناجح لا يخلق رئيساً ناجحاً مركزاً على الفوارق بين إدارة الدولة واقتصادها وإدارة شركة مهما كانت كبيرة، لكن كثيرين يعارضون الترشح ليس بالأساس من كفاءة الإدارة ولا منطلق تعارض المصالح المباشر (هناك قانون ينظمه) وإنما من منطلقات انحيازات الديمقراطية عموماً وملاءمتها لاحتياجات تطورها وتعميق تمثيلها للناس.
مصر ليست شركة
في يوم ترشيحه عن الاخوان لرئاسة مصر، أعلن خيرت الشاطر عن استقالته من الجماعة في رسالة بأنه سيكون مرشحاً لكل المصريين. لكن المؤتمر الصحفي لم يشر لنشاطات الشاطر الاقتصادية المتعددة. فمن خلال إدارته على مدى سنوات لنشاطات الجماعة الاقتصادية، التي اعتمدت عليها في التمويل، تحول الشاطر إلى رجل أعمال بامتياز. فهو مؤسس ومساهم في مجموعة مالك (يملكها زميله القيادي في الاخوان حسن مالك) وسرار لملابس الرجال، ومؤسس ومساهم في شركة الشهاب لتصنيع الأتوبيسات ومؤسس ومساهم في شركة النقاء ورواج التي تملك استقبال للأثاث (تكلف الكنبة في محالها ٦ آلاف جنيه) وسلسبيل للتجارة والاستثمار، وكان عضواً بمجلس إدارة بنك المهندس بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩٢ ومستشاراً لمجموعة الشريف لتوظيف الأموال على مدى سبع سنوات، وعضواً بمجلس إدارة البنك الدولي للتنمية والاستثمار، وكان أيضا المدير التنفيذي للشركة الدولية للاستثمار البحرينية لـ ٣ سنوات في نهاية الثمانينيات.
لم يعلن الشاطر موقفه من استثماراته وشركاته بعد، خاصة في ظل غياب قانون يلزمه بذلك أو ينظم تعارض المصالح. لكن قواعد منظمة الشفافية الدولية، التي لا يتم العمل بها أيضا في مصر، والتي تنظم ما يسمى ”الباب الدوار“ Revolving Doors ، وهو ما يحدث حينما ينتقل الناس من مناصب حكومية لقيادة شركات أو العكس مؤسسين لصلات تفتح الباب لعلاقات تفضيلية وفساد، تفرض أيضا ما يسمى بفترة التبريد (كانت أول قرارات أوباما بعد وصوله للبيت الأبيض). وفترة التبريد هي فترة فاصلة بين آخر المناصب في الشركة وأولها في الدولة والعكس وتبدأ مدتها من سنة وتزيد إلى اثنتين وثلاث سنوات في حالات أخرى. وهو ماكان يكفي لاستبعاد الشاطر من السباق. لكن ترشيح الشاطر لا يحمل فقط مشكلات تعارض المصالح من هذا النوع بل إنه أيضا يجافي اعتبارات التحول عن رأسمالية المحاسيب التي انحازت سنوات لرجال أعمال مبارك وابنه. فهل يليق أن يحكم مصر بعد ثورة تطيح بهذا النظام من يجيء من نفس منطقة الشبهة فيه؟
ليس هذا فقط. فهناك ما يجعل من الشاطر مرشحاً توافقيا بين حكم الإخوان السياسي ومصالح الأعمال القديمة. فلقد نظمت شركة المجموعة المالية هيرميس (بنك الاستثمار الذي كان جمال مبارك شريكا مباشراً في إحدى الشركات التابعة له، والذي لعب دوراً هائلاً في عمليات "التحرير" لاقتصاد مصر وفي الخصخصة) على مدى الشهور الماضية لقاءات بين الشاطر وبين ١٤ مديراً للاستثمار من أوروبا والولايات المتحدة. وقال وائل زيادة مدير البحوث بهيرميس لموقع صالون الإخباري الأمريكي في يناير الماضي إنه يعتقد أن "الاجتماعات استبعدت دواعي القلق لدى المستثمرين من السياسة الاقتصادية للحكومة المقبلة".
لم يتوقف الأمر عند اللقاء المباشر مع مستثمرين بترتيب من هيرميس وإنما أطلقت الجماعة أيضا جمعية بداية لتنمية الأعمال لعقد الوصل مع المصالح القديمة ليحضر الاجتماع التأسيسي نخبة من رجال أعمال مبارك، وبعضهم أعضاء سابقون في الحزب الوطني المنحل، وقيادات مؤسساته الاقتصادية. ونقل موقع الإخوان على الانترنت تصريحات لرئيس اتحاد الصناعات المقرب من جمال مبارك وعراب الكويز مع إسرائيل، جلال الزوربا، يمدح في الخطوة ويؤكد على أهميتها.
ويتأكد التوجه والتحالف الجديد من تصريحات حسن مالك، رجل الأعمال الإخواني وشريك الشاطر، لوكالة رويترز في نوفمبر الماضي، بأن سياسات مبارك الاقتصادية لم تكن كلها خاطئة، غير ناسٍ أن يشيد برشيد محمد رشيد وما جلبه من استثمارات أجنبية للبلاد.
يرصد رايش في مقاله عن المال الكبير في الولايات المتحدة ما يقول إنه مطالب أساسية للأمريكيين الآن: “استعادة ضريبة الدخل على أغنى ١٪ إلى ماكانت عليه قبل ١٩٨١ أي ٧٠٪ على الأقل، ضريبة معاملات على صفقات البورصة، إعادة تنظيم الديون العقارية للفقراء بما يمكنهم من الاحتفاظ ببيوتهم، اتاحة التأمين الصحي (ميديكير) للكل، تخفيض الميزانية العسكرية بـ ٢٥٪ على الأقل خلال العقود القادمة، والافصاح
عن كل تبرعات الشركات للسياسيين وتعديل دستوري لتحجيمه".
هل يمكن لرئيس رجل أعمال أن يحقق مثل هذه المطالب، الواجبة في أمريكا، للمصريين؟ هل يمكن لرجل أعمال أن يدخل مواجهة لفرض الرقابة الشعبية والسياسية الديمقراطية على مشروعات القوات المسلحة؟ هل يمكن لرجل أعمال، في هذه الظروف وبخيوط تحالف مثل الذي يحوزها الشاطر مع المصالح القديمة، أن يكمل مهام الثورة حقا في اتجاه العدالة الاجتماعية؟ مصر ليست شركة وبالتأكيد ليست في حاجة لرئيس مجلس إدارة يحافظ عليها في خدمة المصالح القديمة. "احنا لما قمنا بالثورة قمنا عشان نلغي حكومة رجالالأعمال. احنا عايزين الحكومة اللي بتمثل الشعب تشوف الشعب عايز ايه"، يذكرنا عامل سيراميكا كليوباترا.
[عن جريدة "الشروق" المصرية]