بترشح عمر سليمان الرسمي لانتخابات الرئاسة يقترب المسار الانتقالي في مصر من محطته الأخيرة مما يوجب علينا أن نراجع بعض المقولات الرئيسية أولا، من السذاجة الشديدة تصور أن الدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية والبيروقراطية ستقبل طواعية بالإشراف على عملية إنتخابية، بشكل مباشر عبر الداخلية والقضاء والإعلام وبشكل غير مباشرعبر مناورات المخابرات والأمن، تؤدي إلى فوز مرشح يتسلم منهم السلطة التنفيذية الحقيقية في البلاد.
وهذه المقولة الرئيسية الشديدة المنطقية يجب أن تفكك كل مايتعلق بأوهام تسليم السلطة في 30 يونيو القادم، فالسلطة، بمعنى القدرة على اتخاذ القرارات الخاصة بوضع السياسات التنفيذية وسن القوانين وتشكيل الجهاز الحكومي عبر التعيين والعزل والمحاسبة وتخصيص الامتيازات وتوزيعها وتحديد المخصصات المالية ومراجعتها، ستبقى في يد هذه الدولة طالما أنها لم تخسر أدواتها القادرة على تنفيذ وتطبيق ما تريد، وطالما لم تبرز قوة بديلة لمنازعتها على هذه الأدوات، ولمحاولة تغيير موازين القوى الفعلية على الأرض.
وفي هذا السياق، أعتقد أنه من الخطأ الشديد القبول بفرضية الانقسامات والصراعات الداخلية بين أجهزة السلطة المختلفة للوصول إلى استنتاج مفاده أنه ليس هناك احتشاد رسمي حقيقي وراء عمر سليمان. ففي تصوري أن وحدة المصالح للدولة العميقة وترابط شبكاتها يتجاوزان أي تباينات جزئية، وأن التناقضات غير المفهومة في الممارسات الظاهرة لأجهزة الدولة من الممكن تفسيرها في ضوء اختلاف مناهج العمل والأداء بين أجهزة المخابرات والمؤسسة العسكرية، لكن أن نتصور أن هناك انقساماً حقيقياً داخل سلطة الدولة وأن هذا الإنقسام مؤثر على مجرى الأحداث، فضلا عن أنه يوفر فرصة للقوى الثورية للعمل داخل مساحة هذا الإنقسام واستغلال هذا الضعف، فهذا في تصوري أقرب للتفكير التواق غير المنتج والبعيد عن الواقع ونحن لا نحتاج المزيد من الأساطير السياسية.
إذن فمهما كانت نتائج الإنتخابات، ستبقي السلطة في يد الدولة العميقة بحكم موازين القوى ومن البلاهة أن يتصور أحد أن الدولة العميقة، عبر إشرافها علي الإنتخابات، ستتخلى طواعية عن كل ما تحوزه بدون أي ضغط حقيقي يمارس عليها، لأنه، وبكل بساطة، لا تزال موازين القوى مختلة وبشدة لصالح هذه الدولة برغم كل إنحطاطها و فشلها و ترهلها وبالتالي فالدولة العميقة تريد من الإنتخابات أحد أمرين:
إما رئيس موالٍ من داخل الدولة الأمنية العميقة، وإما رئيس شبح بلا سلطات أو صلاحيات حقيقية. ويبدو أن قرارهم النهائي قد استقر علي الرئيس الموالي ليكون عمر سليمان تحديداً هو الخيار الأصلي بالنسبة لهم حيث لم تفلح أي محاولات أخرى لإيجاد بديل له.
والأغلب أن يتمكن عمر سليمان من الفوز إستفادةً من دعم أجهزة الدولة له وبخاصة أجهزة الأمن والإعلام الحكومي، وتبقى شبكات الإعلام الحكومي المرئية والمقروءة هي أقوى أدوات الإعلام وأكثرها تأثيراً على سلوك المواطن العادي في سياق الأزمات السياسية، أما احتياج عمر سليمان إلى تدخل أجهزة الدولة القضائية والأمنية للتزوير لصالحه فستحدده تطورات الأسابيع القليلة القادمة وفي تصوري أن هامش التزوير المطلوب لن يكون كبيراً.
تحدث الكثيرون عن إختلاف السلوك التصويتي للمصريين في الإنتخابات الرئاسية عن البرلمانية. هذا صحيح فالمصريون في إنتخابات البرلمان قد يفضلون انتخاب تيار أو فكرة أو لافتة أيديولوجية واجتماعية وهوياتية، وقد يجدون تحققاً في انتخاب مرشحين للدائرة الإنتخابية يتسمون بالبساطة والقرب من المصريين العاديين، بينما هم في إنتخابات الرئاسة، ولأسباب ثقافية ونفسية واجتماعية متوارثة، قد يفضلون إنتخاب رئيس "بيه" و"دكر" ومشهور قادر علي قيادتهم وتوجيههم وإنقاذهم من انفسهم ومما هم فيه ... ويبقي هذا التقييم في نهاية الأمر تقييماً إنطباعياً يفتقر إلى الدقة بحكم أنها أولى التجارب الإنتخابية الرئاسية الحقيقية التي يخوضها الشعب المصري، لكن إذا ما افترضنا هذه الفرضية فبالتأكيد أنّ عمر سليمان تنطبق عليه كل هذه الشروط بل ويتمتع بمزايا أخرى.
فعمر سليمان قادر بالفعل على حشد أصوات الكثير من المؤيدين له الآن، فبعد أكثر من عام كامل من رهاب الفوضى، والذعر والخوف، وفقدان الثقة وعدم الإستقرار، والكفر بالثورة والإسلاميين والمجلس العسكري على مستوى المواطن العادي، يبدو أنّ هناك جوعاً شعبياً واضحاً إلى بونابرتية شعبوية الطابع قد تجنح نحو الحلم الطوباوي الإسلامي كما في حالة حازم أبو إسماعيل أو تجنح إلي الثقة في "رجل الدولة القوي" القادر على تسويق نفسه في صورة جذابة بعيداً عن الثقوب السوداء للفشل وعدم الثقة التي تحاصر الشعب الآن.
فعمر سليمان يمكن له أن يسوق نفسه بوصفه رجل الدولة القوي القادر على توفير الأمن والإستقرار كما تقدم، والقادر على الاحتفاظ بعلاقات مصر الخارجية والإقليمية منضبطة ومتوازنة في أجواء شديدة الإضطراب، كما أنه قادر أيضاً، و هذا لا يقل أهمية، على تسويق نفسه بوصفه كان صوتاً للمعارضة داخل نظام مبارك، فهو كان نقيضاً لشياطين جمال مبارك ولجنة السياسات من رجال الاعمال الذين باعوا نظام مبارك للأمريكان والفساد، وكانوا مسؤولين عن التدهور الذي وصلت إليه البلاد في السنوات الأخيرة، بينما كان عمر سليمان هو ممثل الوطنية والاستقلالية داخل النظام وهو وارث العصر الذهبي للسلطوية الوطنية الجميلة.
وهذا ليس صعباً بالنظر إلى أن عمر سليمان، وإن كان شخصية مشهورة من شخصيات نظام مبارك، إلا أنه لم يكن يتمتع بالكراهية والغضب الشعبي اللذين حظيت بهما الشخصيات الأكثر تماساً مع الحياة اليومية المباشرة للمواطنين مثل أحمد عز، وجمال مبارك، وصفوت الشريف، وحبيب العادلي، وأحمد نظيف، وفتحي سرور وغيرهم.
أيضا من الممكن أن يتم تقديمه بصفته نقيضاً لأطماع الإخوان التوسعية، وهنا يمكن له أن يحوز تأييد بعض القطاعات المرتعبة من الإسلاميين داخل صفوف الأقليات والقوى العلمانية إلى جانب من تنجح معه حملات شيطنة الإخوان بوصفهم امتداداً لهيمنة رجال الأعمال المرفوضة علي السياسة المصرية إلى جانب القوى الإجتماعية والإقتصادية المحافظة المتخوفة من التجذير الشعبي، والطبقي والإجتماعي الذي قد تأتي به رياح التحول الديمقراطي الثوري إذا تُرك لها العنان بدون ضبط أو توجيه.
يبقى عمرو موسى مرشحاً قوياً وله قاعدة شعبية معتبرة تسمح له بالمنافسة في إنتخابات حرة ولكنه لا يتمتع بتأييد دولة العسكر والمخابرات لعدة أسباب منها أنه من خارج هذه الدولة وأنه في نهاية الأمر شخص رخو من ناحية وغير مأمون الجانب من ناحية أخرى، فلا يعتمد عليه لا في السيطرة ولا في الموالاة للدولة العميقة.
نأتي هنا إلى الإسلاميين، وأقول هنا أنه من أكبر أخطاء المحللين طوال العام الأخير كان إعطاء الإخوان أكبر من حجمهم بكثير وإعطاء دولة العسكر أقل من حقها بكثير، ولا أعني بالحجم هنا الذكاء والألمعية فكلا الطرفين أثبت افتقاره لهما لكن أعني بالحجم القدرة على الفعل والتأثير وممارسة أدوات القوة، ومشكلة الإخوان الرئيسية كانت دائما في انعدام الكفاءة، وعدم الكفاية السياسية التي تسمح لهم بإدراك الفارق بين التكتيكي والاستراتيجي، والقدرة على الفرز والتصنيف الصحيح لمقتضيات عملية التحول الديمقراطي والتمكين الثوري.
فالإخوان، وعبر عام كامل من الانفصال عن الكتلة الثورية وفعالياتها الشعبية والجماهيرية، فقدوا قدرتهم على الضغط الشعبي الفعال على أصحاب السلطة وكان التصور هو أنهم سيفضلون منازعة أصحاب السلطة والقوة بشكل مؤسسي عبر التموقع بشكل مركزي داخل مؤسسات المجال السياسي الجديد، وكانت لحظة أحداث محمد محمود لحظة كاشفة، فبينما كان الكثير من المراقبين يرى أن الإخوان قد أهدروا فرصة ثمينة لإنتصار الثورة عندما رفضوا التضامن مع الشباب الغاضب في الشوارع والمشاركة في إشتباكاتهم، كانت وجهة النظر المعلنة للإخوان هي أنهم فضلوا التغيير عبر دخول إنتخابات مجلس الشعب واستغلال أغلبيتهم البرلمانية المتوقعة لفرض التغيير على بنية الدولة وأجهزتها ومؤسساتها لتحقيق أهداف الثورة عبر التشريعات والقوانين والرقابة والمحاسبة وأن هذا الخيار هو الخيار الواقعي والعملي الذي تفضله أغلبية الشعب.
ولكن، ويا للغرابة، فقد تقاعس الإخوان وبشكل غير مفهوم ليس فقط عن محاولة منازعة دولة العسكر السلطة الحقيقية والاشتباك مع مفاصل القوة داخل الجهاز الإداري الحكومي، ومن المفترض أن تكون هناك مصلحة مباشرة للإخوان فضلاً عن الثورة في هذه المنازعة، بل وأيضا عن القيام بأي عمل جاد لتحقيق أي قدر من المكاسب الجزئية الخاصة بتحسين شروط المجال السياسي الجديد فيما يخص القوانين المنظمة للإنتخابات والتشريعات الخاصة بعمل مؤسسات الدولة المشرفة على هذه الآنتخابات، وحصر الإخوان أنفسهم في ركن ضيق من المناورات الشكلانية الطابع والمعارك الصوتية ذات الأفق المحدود مثل معركة سحب الثقة من حكومة الجنزوري التي خاضوها بلا جدية حقيقية وفي التوقيت الخاطئ و باستخدام الوسائل الخاطئة.
بالإضافة إلى الأخطاء الكثيرة التي صاحبت عملية تشكيل تأسيسية الدستور مما أدى إلى مزيد من العزلة للإخوان بعيداً عن القوى السياسية الأخرى ناهيك عن الشارع الثوري ولم يتبق للإخوان إلا علاقة تحالف مع العسكر وصلت إلى محطاتها الأخيرة بعد إتساع حجم التناقضات التي ولدتها الإختلافات في طبيعة التنظيم والتكوين السياسي والأيديولوجي والمؤسسي والتصور حول علاقة الدولة والمجتمع وحول طبيعة التغييرات المرجوة. ماذا عن فرص فوز الإخوان في إنتخابات الرئاسة القادمة؟
في تقديري أن فرصة فوز خيرت الشاطر، مرشح الإخوان، إذا ما تمكن من اجتياز العقبة القانونية أمام ترشحه تعتمد على عاملين مهمين:
1- قدرته على توحيد الصف الإسلامي الإخواني والسلفي وتجنب تفتيت الصوت الإسلامي.
2- القدرة على اجتذاب قاعدة تأييد جماهيرية للمرشح الإسلامي من المواطنين العاديين إلى جانب القاعدة الإسلامية المؤدلجة.
وفي تصوري أنهم سيعانون من تآكل فرص مرشحهم علي الصعيدين، فتفتيت الصوت الإسلامي ما يزال وارداً برغم خروج حازم أبو اسماعيل، أكثر المرشحين الإسلاميين جماهيرية، من سباق الانتخابات لكن يبقى العامل الآخر أكثر أهمية، فقدرة خيرت الشاطر، وهو الشخصية غير المعروفة على المستوى الشعبي والمفتقرة لأي رصيد من العمل الجماهيري، على اكتساب تأييد الناخب الوسطي أثناء الانتخابات تبدو مشكوكاً فيها وخاصة بالنظر إلى الإحباطات الشعبية من الأداء المتردي للبرلمان والمخيب لثورة التوقعات المتزايدة التي صاحبت فوز الإسلاميين في إنتخابات البرلمان. فالإخوان المؤتمنون شعبياً على مسار التغيير التدريجي الإصلاحي فقدوا الكثير من مصداقيتهم أمام الجماهير التي حملتهم إلى مقاعد البرلمان والكثير منهم غير مؤدلجين ولا مرتبطين بالشبكات الزبونية للإسلاميين ولكن حكم سلوكهم التصويتي الثقة في كفاءة الإسلاميين وسمعتهم التنظيمية والأخلاقية، تلك الثقة التي تتدهور بشكل متسارع.
وبالرغم من أن دوران الماكينة الانتخابية للإخوان والسلفيين، مع الشك في أن تعمل هذه الماكينة بكامل طاقتها كما حدث في انتخابات البرلمان، سيؤدي بطبيعة الحال إلى احتدام المعركة الانتخابية واستدراجها نحو الاستقطاب الحاد، إلا أنها و في التحليل الأخير ستعطي مصداقية للعملية الانتخابية وتضفي الشرعية عليها مما يعطي غطاء من المشاركة الشعبية يقوم بالتمويه، بشكل غير واعٍ، على حقيقة تدخلات الدولة العميقة لصالح مرشحها عن طريق التزوير أو الهندسة الانتخابية.
وماذا بعد؟
وإذ يقترب المسار الإنتقالي من محطته الأخيرة تنفجر تناقضاته أكثر فأكثر ويظهر عجز الفاعلين الرئيسيين عن تجاوز أسر اللحظة، فقد اضطرت كل الأطراف الرئيسية إلى إلقاء أوراقها الرئيسية والمهمة على الطاولة في جولة نهائية من التدافع والصراع تبدو تداعياتها غير معلومة. فدولة العسكر دفعت برجلها الأمني العتيد المتمكن من جميع ملفات النظام الداخلية والخارجية إلى ساحة المواجهة السياسية في رهان على كفر الناس بالثورة وعلى قدرة الدولة على التدخل لصالح مرشحها وتوجيه الضربة القاضية الفنية إلى الثورة، وهو رهان لا يخلو من المقامرة بطبيعة الحال. بينما اضطر الإخوان إلى النزول بمقامرة أشد والدفع برجل تنظيمهم القوي في معركة عض أصابع مع دولة العسكر للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مكتسبات حققوها، وللحفاظ على تماسك التنظيم بينما تحلقت القوى الثورية والمدنية حول مجموعة من المرشحين يبدو أقواهم، وهو عبد المنعم أبو الفتوح وبرغم كل محاولاته الطيبة لتجاوز معادلات سياسات الهوية، بعيداً عن إمكانية النجاح في الإنتخابات.
والمقامرة بالأوراق الرئيسية على الطاولة يدفع بجميع الصراعات والتناقضات السياسية إلى العلن وهذا مؤشر على التدهور المتسارع للمسار الإنتقالي الذي قام منذ البداية على تكتيك الجري في المكان والقفز على التناقضات البنيوية أو حصرها وراء الأبواب المغلقة بالإضافة إلى هذا، فهو يكشف وبوضوح إفلاس جميع الفاعلين، فدولة العسكر وبرغم أنها كانت ومازالت الفاعل الرئيسي، إلا أنها بلا أي مشروع حقيقي لإعادة إنتاج النظام، وأي مشروع من هذا النوع يحتاج إلى ذراعين: أولاهما هو ذراع القمع الأمني والضبط الإجتماعي عن طريق الأمن، و ثانيهما هو ذراع التسكينات الاقتصادية والاجتماعية، وكلا الذراعين تم بترهمها منذ الأيام الأولى لثورة يناير التي أفقدت دولة العسكر شرعية القوة وشرعية الأداء مما يثير علامات الشك حول قدرة جنرالات الدولة العميقة على إنقاذها وانتشالها من خريفها المحتم.
إن الهدف المرحلي الحالي لدولة العسكر هو العودة إلى أوضاع 10 يناير 2011 مع استبدال لنوعية الشركاء السياسيين. وهو فضلاً عن كونه محدود الأفق فهو في التحليل الأخير يريد أن يعيد إنتاج وضعية ثبت فشلها وانهارت بالفعل وقتها أمام الضغوط الشعبية.
أما الإخوان المسلمون فكان أمامهم أحد الخيارين:
1) إما محاولة وراثة الدولة العميقة، وهي محاولة فاشلة مقدماً ليس لأنهم لا يمتلكون أدواتها المؤسسية فحسب، بل لأن الدولة العميقة المصرية الأصلية قد فشلت بالفعل وهي تقاوم إحتضارها عبر محاولات يائسة لإطالة عمرها وتأجيل مالا بد منه، فلا جدوى إذن من استنساخ كيان فاشل.
2) الاصطفاف داخل الكتلة الثورية بمشروعها للتحول الديمقراطي الشامل والاشتباك مع المؤسسات السلطوية بمارساتها وأبنيتها وقواعدها، لكن هذا يتعارض مع مناهج الفكر، والتنظيم، والإدارة، والعمل السياسي والأيديولوجي المتوارثة والسائدة داخل الإخوان.
وفي حقيقة الأمر، فالإخوان فضلوا الهروب من استحقاقات أي من الإختيارين إلى منطقة رمادية مائعة من اللاانحيازات، واللافعل، واللاشئ تركتهم في نهاية الأمر لا حكاماً ولا ثواراً.
أما القوى الثورية، فهي، ومنذ البداية، ماتزال أسيرة لمأزقها الوجودي وهو قدرتها على الهدم والتفكيك الأفقي لمظاهر وتمثلات السلطة بدون القدرة على إقتلاع جذورها الرأسية نتيجة لضعفها التنظيمي والبرامجي البادي للعيان.
ويبدو المشهد الآن شبيها بالمشهد المصري ماقبل 25 يناير 2011 حيث كان مناخ الإحباط سائداً في أوساط النخب والناشطين السياسيين، فجاء التحرك الجماهيري أثناء ثورة يناير مربكاً ومفاجئاً لهم ولتصوراتهم الخاطئة عن جمود الوضع، فبينما تبدو النخب السياسية الآن في قمة الإحباط وبعضهم يعد نفسه لتحمل عهد من الفاشية العسكرية والدينية، يبدو الوضع الجماهيري مضطرماً بالغليان ،فلا تفتآ الاضطرابات الجماهيرية، ومبعثها اليأس والسخط على كل شيء، تزداد حدتها في مواقع اجتماعية مختلفة على إمتداد المحافظات المصرية.
والمسرح السياسي الآن مرشح لأحد إحتمالين:
1) أن تظهر قوى سياسية جديدة، أي أحزاب يمين وسط أو يسار وسط جديدة من داخل المعسكرين الإسلامي والمدني بالإشتراك مع القوى الإصلاحية داخل جهاز الدولة على المدى المتوسط، قادرة على تأطير مصالح قطاعات واسعة من المواطنين والدفع بهم نحو التنظيم والتمثيل والمشاركة السياسية بدءاً من انتخابات المحليات وعبر جميع مستويات المجال السياسي الجديد، وهذا قد يقلب المعادلات السياسية ضد مشاريع دولة العسكر ويجبرها على التفاوض لتقديم مزيداً من التنازلات ومن ثم تمكين هذه القوى الإصلاحية من التفكيك الفعلي للشبكات البيروقراطية الفاسدة والسلطوية.
2) تزايد حدة الإضطرابات الجماهيرية في قطاعات العمل المختلفة، وقد يتزامن هذا مع مشاكل غير متوقعة قد تثيرها اشتباكات غير محسوبة بين شباب الكتلة الثورية من أبناء الطبقات الدنيا، والمهمشين، والألتراس، وغيرهم مع قوات الأمن أو انفجار الموقف الشعبي هنا أو هناك بشكل غير محسوب قد يؤثر على عملية الانتخابات، وهذا قد يفجر موجة ثانية من الغضب الشعبي كفيلة بتعجيل تآكل الدولة العميقة وإرغامها، تحت وطأة الضغط المباشر، على التخلي عن مساحات ومواقع لها وبالتالي القبول السريع بما كانت ستقبل به بعد سنوات طويلة في حالة تحقق الإحتمال أعلاه .
ومن الصعب التكهن بما سيحدث، لكن المؤكد هو أن المسار الإنتقالي الحالي شديد الهشاشة والضعف وأن القوى السياسية القائمة كلها تعاني من الإفلاس و برغم أن الفراغ السياسي والمجتمعي سيكون عنوان المشهد في مصر لسنوات طويلة قادمة، بعد عقود طويلة من الإخصاء المجتمعي والسياسي في مصر، إلا أن قدرة النظام الحالي على الإفلات من رياح التغيير تبدو شديدة الصعوبة أمام موجة من الغضب والسخط الإحتجاجي ستغسل كموج البحر.