في دمشق، لا يزيد من سماجة حرّ نيسان، سوى اللافتات المعلّقة على الجدران، فوق أسطح العمارات، بين جذعي شجرتي نخيل، بين عامودي كهرباء، بين إشارتين ضوئيتين. تلك اللافتات تبدو أشدّ خطورة من الحرّ ومن سماجته. تلك اللافتات، وكأنها خرجت من جوارير المؤسسات الحكومية، لم ينفض عنها غبار السنوات الماضية، كتبت عليها العبارات ذاتها، وعلّقت. تلك اللافتات، تجعل المتجوّل في شوارع دمشق، يصدّق أن الأزمة انتهت. لا بل وقد يظن أن الأزمة لم تبدأ حتى تنتهي. وتلك الثورة التي يتحدثون عنها، ليست سوى "إشاعات مغرضة" تروّج لها الأقنية الفضائية "العميلة".
"يداً بيد نبني سورية الغد"، هذه إحدى الوعود التي كتبها أحد المرشحين لانتخابات مجلس الشعب. و"بالمشاركة نحقق حلم الشباب". و"لا أدّعي الكمال ولكن أسعى لتحقيق الآمال". وليست الانتخابات هذه سوى تكريس لسياسة "الانفصام" التي يعشقها النظام السوري. حيث تعيش سورية حياتين منفصلتين تماماً. حياة ترزح تحت أصوات القصف والصراخ والاستغاثة والتهجير والاعتقال. وحياة تتبختر خلف مفردات فارغة. انتخابات واحتفالات ورقص وغناء ولؤم أعمى. أحد المرشحين كتب على لافتته الدعائية عبارة متواضعة جداً: "طموح بحجم الوطن". وربما يكون قصده، طموح متواضع بحجم الوطن. إذ ماذا تبقى من هذا الوطن؟
في دمشق، ثمة وطن يبنى على الأنقاض. ثمة عين مفتوحة على الدهشة، تتفرّج، بالكاد تستوعب هذا الكم من اللامبالاة. ثمة احتفالات صاخبة بعيد "البعث" بعد أسابيع فقط من اختراع دستور يؤمن بالتعددية السياسية. ثمة حفلات تنظم في ساحة "السبع بحرات"، يحضرها العشرات، يصدح صوت مغنٍ هابط، يرقصون ويدبكون. ثمة أم ثكلى تتفرج على الرقص وتبكي بصمت. إنهم يرقصون فوق القبور. و"العصابات المسلحة" التي تفتك بأمن الوطن، التي تقتل وتذبح وتنكّل، تبرطع في أنحاء سورية وهم يرقصون! ثمة طفل في الخامسة من عمره، يحمله والده على كتفيه في ساحة "السبع بحرات" ويسأله أمام عين الكاميرا، أين تقع قطر؟ فيؤشر الطفل إلى مؤخرته!
في دمشق، مرّ عيد الجلاء، بصمت خجول. لم نسمع سيارات الموالين تلعلع بالزمامير في الأزقة والأحياء. لم تشهد العاصمة احتفالات كتلك التي شهدتها يوم عيد "البعث".
في دمشق، امتلأت الفنادق بالمهجرين. والعاصمة باتت مزحومة بأبنائها وأبناء المدن المنكوبة. بعضهم يقصد الفنادق الفخمة وبعضهم ينام في فنادق من الدرجة الأولى في حي "الست زينب". بعضهم يفترش الرصيف. بعضهم جائع. بعضهم يموت. سورية التي تعيش انفصاماً، صارت حياة أبنائها رخيصة. والموت فقد قدرته على الإدهاش. صار خبراً عادياً. والبعض اختار وسط هذه الفوضى، أن يترشح لانتخابات مجلش الشعب. وأي شعب؟ الشعب الذي لا يريد.