حذر الجزء الأول من هذه السلسة من أن اتفاق فرقاء الصراع الدستوري الحالي على تصوير دستور ١٩٢٣ على أنه كان دستورا سباقا يعكس تخليهم عن مطالب ثورة يناير وعدم اهتمامهم بتبعية مصر للاستعمار من أجل إعلاء مصالحهم الحزبية الضيقة. ودفعني ذلك إلى رفض الإطار الذي يحكم وضع الدستور الحالي من حيث المبدأ حتى لا ينتهي بنا الحال إلى وضع دستور "سباق" كدستور ١٩٢٣: يقنن الاستعمار ويبني دولته المستعمرة على الصفقات السرية وأكل حقوق أغلبية الشعب. لكن، وعلى الرغم من ضرورة رفض الإطار الحالي لوضع الدستور من حيث المبدأ، تفرض علينا التناقضات الصارخة التي صاحبت ترجمته إلى ممارسات على الأرض أن نتوقف كثيرا عند دلالاتها، وهذا ما دفعني إلى كتابة هذا الجزء. وسوف أبدأ ذلك بتحليل أصل وفصل "حدوتة" الدستور، حتى لا تنسينا الأفرع جوهر ما نناقشه، وأيضا لكي أثبت مقدما المعايير التي أنوي استخدامها في تقييم التطورات الجارية على الأرض، ثم أنتقل تدريجيا لعرض التناقضات التي واكبت عملية وضع الدستور.
الأصول
من المعروف أن النظام الحاكم بقيادة المجلس العسكري (مع عدم اختزال النظام في المجلس) قام بوضع ترتيبات محددة تستهدف نظريا نقل السلطة إلى سلطة منتخبة في مرحلة ما الثورة. ومن الملاحظ أيضا أن هذه العملية بدأت تعيد إنتاج أركان النظام السابق تحت مسمى "عرس الديمقراطية." يكفي للتدليل على ذلك أن الحكومة الحالية يقودها رئيس وزراء مبارك، ومؤسسة الرئاسة يقودها مجلسه العسكري، وأن نائبه كان أحد أهم مرشحي الرئاسة يليه رئيس وزرائه ووزير خارجيته، وأن شيئا لم يتغير في حياة الناس على الأرض، وأن كل الأحكام التي صدرت على قتلة الشهداء برأتهم، وأننا لا نحصل على البوتجاز أو البنزين، وأن ثروات الفاسدين لم تمس، وأن شيئا لم يتغير بشكل حقيقي في لعلاقات مصر الخارجية، بل بات القضاء يهان علنا من أجل سواد عيون أمريكا (قضية التمويل)—والقائمة تطول.
ومن الملاحظ أيضا أن النظام ظل طوال فترة ما بعد الثورة يدعي إنه يدير شؤون البلاد نحو ما يسمى بالتحول الديمقراطي. لكن للتحول الديمقراطي هذا، على ليبراليته المعيبة، أصولا بديهية ومعروفة، ترشد الشعوب إلى التغييرات "الديموقراطية" المطلوبة لإنجاح "العملية الانتقالية،" من جانب، وتوفر لهم المعايير اللازمة لتقييم ما يحدث على الأرض من تطورات ذات صلة، بعد ترك مساحة كافية لخصوصية الشعوب. وبهذه الطريقة يشهد كل خرق لهذه الأصول على حقيقة ما يحدث على الأرض من تطورات، بغض النظر عن الإدعاءات التي تصاحبها. وأهم هذه الأصول هي ضرورة توصيف أركان الحكم الجديدة وشكله بشكل عادل وشفاف ومؤسسي قبل الشروع في اختيار من يمارسونه، حتى يستند الحكم الجديد إلى أسس مؤسساتية واضحة وشفافة تتفق عليها جميع الأطراف، وإلا ولد مفسدا، بغض النظر عن أي نسب قد يحصل عليها في الاستفتاءات والانتخابات (كان الوفد يحكم مصر بأغلبية كبيرة هللت في النهاية لانقلاب عسكري دشن ثورة شعبية على كل ما يعنيه).
ولإنجاح عملية "التحول الديمقراطي" هذه جرى العرف في الحالات التي تمر بها مصر على نقل الحكم إلى سلطة إنتقالية مؤقتة ومحايدة، يقر بحيادها الجميع، يكون هدفها الرئيسي إن لم يكن الوحيد، هو الإشراف على توصيف أصول النظام السياسي الجديد طبقا لما تتوافق عليه أغلب فئات الشعب، وتقوم في الوقت ذاته بإدارة شؤون الحكم وتتركه فور الانتهاء من وضع النظام السياسي الجديد. وعليه جرى العرف ألا يحق لأعضاء هذه السلطة المؤقتة الترشح لأي منصب من مناصب السلطة بعد انتهاء الفترة الانتقالية منعا لاستغلالهم لصلاحياتهم المؤقتة لتفصيل الترتيبات الانتقالية على مقاسهم. وهكذا لا يجب أن يسمح ببقاء أعضاء برلمان ما يؤتمن على وضع الدستور (على فساد هذا الطرح من حيث المبدأ) في أماكنهم بعد الانتهاء من وضع الدستور، أو حتى ترشيح أنفسهم لنفس ذات المناصب في الدورة التي تلي وضعه. أو هكذا جرت الأعراف.
وتتفق نظريات "الحكم الديمقراطي" أيضا على تصور محدد للعملية السياسية في المجتمعات الديمقراطية يهمني هنا أن أؤكد على عدة نقاط متعلقة بها: أولا، ترجع هذه النظريات أركان الحكم إلى "عهد إجتماعي" يحترمه الجميع، يكون "الشعب" مؤسسه ومصدره، ويتبلور بشكل عملي في صورة وثيقة دستورية--مع اعترافي بكل عيوب هذا الطرح الليبرالي ورومانسيته، لكن هذا ليس موضوعنا الآن. على أن يحدد هذا الدستور شكل الدولة وطبيعتها، ويوصف مؤسساتها، وصلاحيات كل منها وواجبتها، والتدابير اللازمة لفصل السلطات فيما بينها. كما يحدد أيضا حقوق وواجبات المواطنين، وحقوق وواجبات الأغلبية والاقليات، وأدوار الحاكم والمعارضة والأطراف الاعتبارية ذات الصلة، معينة كانت أم منتخبة. وجرى العرف كذلك على أن يقسم الدستور سلطات الدولة على عدد من المساحات، أهمها في حالتنا: التشريعية (البرلمان)، والتنفيذية (مؤسسة الرئاسة، أو الحكومة في حالة الدولة البرلمانية، الخ)، والقضائية. وتتخذ هذه المبادئ ألوان مختلفة غالبا ما تختلف في الشكل لكن تتفق في الجوهر.
أصول وضع الدستور
ولأن الدستور يوصف سلطات الحكم (بما يضمن ألا تجور أيا منهم على الأخرى)، ويحدد حقوق الأغلبية الحاكمة والأقليات المعارضة، ويفرض شكل من الرقابة الانتخابية على هذه السلطات، ويحدد ترتيبات صيانة نفسه، ويضع المعايير اللازمة للتأكد من حماية حقوق المواطنين ومنع الدولة من الجوار عليها، لذلك وجب وضع "الدستور أولا،" قبل اتخاذ أي خطوات انتقالية أخرى، حتى يتفق المجتمع على النظام السياسي وينتخب ممثليه على أسس معروفة، ومقبولة، ومحصنة ضد تضارب المصالح. والأهم، ان تحديد صلاحيات مقبولة للمرشحين قبل انتخابهم هو شرط اساسي لشفافية وعقلانية عملية الاختيار، ومخالفته تفرض اختيار غير عقلاني بالمرة: "من فضلك انتخبني لأداء وظيفة ستحدد فيما بعد." ومن هنا كان لعملية وضع الدستور طبيعة خاصة لا تشترك فيها أي عملية سياسية أخرى، تتطلب فيما تتطلب أن تضعه جمعية تأسيسية شرط تشكيلها الوحيد تقريبا هو أن تمثل فئات الشعب الأساسية، بطريقة تحفظ التوازن بينهم وتمنع أن تجور الأغلبية على الأقليات.
وكان يمكن في حالتنا هذه أن تشكل هذه الجمعية على النحو التالي: يتم تشكيل لجنة أولية من الفئات الأساسية في المجتمع بعد الوصول إلى توافق حولها بين فرقاء السياسية الأساسيين، بغض النظر عن اختلاف احجامهم. يليه أن تنتخب كل فئة من هذه الفئات ممثل لها وأن يجتمع هؤلاء الممثلون لوضع معايير اختيار الجمعية التأسيسية، ويشمل ذلك تحديد كل الفئات التي ستشكل الجمعية التأسيسية، ونسب تمثيل كل منها، وتحديد طريقة لادارة الجمعية (أي لائحتها التنظيمية) تضمن عدم انفراد أي تيار بتشكيل الدستور، أيا كان حجمه. ثم تشكل هذه الجمعية بأن تنتخب كل فئة ممثليها طبقا للعدد المخصص لها، يليه أن تدخل في جدل علني حول مواد الدستور يتخلله استقبالها للمقترحات الشعبية من خارج الجمعية. وفي النهاية يصوت أعضاء الجمعية على الصياغات والمواد المختلفة بأغلبية توافقية. ويتم إدارة نقاش مجتمعي فعال حول الدستور طوال هذه الفترة وتعديل مقترحاته إذا ما تراءى للجمعية أن الحوار المجتمعي يلزم ذلك. ثم تقر الصيغة النهائية إما بإقرار الجمعية له (لأنها منتخبة) أو بعرضه على الاستفتاء العام ليقره الشعب. ويمكن بالطبع تشكيل الجمعية التأسيسية بالانتخاب الشعبي المباشر بدلا من تمثيل الفئات، على أن يتم ذلك طبقا لمنظومة انتخابية تضمن عدم انفراد أي تيار بالجمعية مهما كانت شعبيتهم.
المباراة وأصول اللعبة
علينا ونحن في هذا السياق أن نميز بين الحكم، والدستور، والقوانين، لاختلاف هذه المفاهيم. وأظن أن مجاز المباراة يوفر أقصر الطرق للتدليل على هذه الاختلافات. لنتخيل معا أن هناك فرق عدة تتنافس على الفوز في مسابقة ما: وهو ما يعني في المحيط السياسي أن يتنافسوا على الفوز في انتخابات، كالرئاسة مثلا. هنا يحق للفريق الفائز أن يحكم اذا فاز في الانتخابات لأن التنافس هو أصل الحكم في المنظومة الديموقراطية. ويحق له أن يضع القوانين وأن يعدلها، إذا فاز في الانتخابات البرلمانية، وهكذا. وعليه لا يوجد شك في أن من حق الإخوان أن يحكموا إذا فازوا في الانتخابات، ولا يجوز توظيف نقد ما لعملية وضع الدستور للتشكيك في هذا الحق، كما يفعل البعض. وبنفس الطريقة، لا يحق للفريق الفائز في المباراة أن يحدد أصول اللعبة، ولا يجوز له أن يروج أطروحات مضللة لتبرير ذلك (مثل، ٥٠٪ من دساتير العالم وضعتها البرلمانات، الخ). بل، يجب أن تتوافق كل الفرق المشتركة في المسابقة وروابط مشجعيهم والنقاد الرياضيين على هذه الأصول، وإلا انتهت اللعبة باقصاء الفرق الأخرى وعزوف الجماهير عنها بعد تفصيل شروطها على مقاس الفائز. وعليه، يحق للإخوان أن تحكم و أن تحاسب على نتيجة حكمها، لا على نيتها، لكن لا يحق لها أن تضع الدستور، وخاصة في بيئة تحكمها حرب أهلية باردة.
اذن الأصل في وضع الدستور في المنظومة الديموقراطية هو التوافق حول أصول اللعبة. ولا يصبح لأي دستور شرعية إذا لم تتوافق الفرق السياسية وفئات المجتمع الأساسية (لا الأغلبية) على اعتباره قواعد التنافس السياسي المتفق عليها، وإلا لجأت الفرق الأخرى للعب خارج نطاق الدستور، وهو ما يعني في عالم السياسية أن تعتمد على أشكال العصيان المختلفة أو تعمل خارج النظام السياسي الرسمي، أي بطريقة "غير شرعية،" بشكل علني أو سري--غير مكترثين بأصول اللعبة التي فرضها الفائز عليهم. وتاريخنا الحديث مليء بالأمثلة على سقوط شرعية الدساتير التي يفرضها فصيل غالب على كل الآخرين، أنظروا مثلا لجؤ الفرق السياسية في عهد مبارك إلى العب خارج "الشرعية" المفروضة عليهم وما صاحب ذلك من شيوع نعوت من نوع الجماعة المحظورة والتنظيم غير الشرعي، الخ، من أهمهم "جماعة الإخوان المحظورة،" (التي ظلت تعمل خارج النظام السياسي الرسمي منذ عهد الملك فاروق). لكن ها هي نفس الجماعة تعمل على تأسيس نظام اقصائي سيؤدي بشكل حتمي إلى دفع الفرق الأخرى للاعتماد على العمل "غير الشرعي." بل بدأت بعض الفرق تعتمد بالفعل على آليات "غير شرعية" قبل وضع الإخوان لدستورها، فبات بعضها يراهن على ديكتاتورية المجلس العسكري لوقف استئثار الإخوان بالدستور، في حين اعتمد آخرون على آليات العصيان لمناهضة تأسيسيتهم قبل أن تبدأ في عملها، وذلك بعض أن ضاقت بهم السبل الأخرى.
البرلمان وأصول اللعبة
ما تم اقراره في مصر من قيام البرلمان بتأسيس لجنة وضع الدستور يخرق الأصول المذكورة بشكل فاضح، ما دفع عدد كبير من الكتاب إلى تسليط الأضواء على ذلك. لكنهم للأسف ركزوا معظم نقدهم على جانب واحد من جوانب هذا خرق العديدة، مختزلين إياه في مسالة "تضارب المصالح" لا غير (أساس الحكم ببطلان تشكيل التأسيسية)، وهو ما دفعهم إلى استحضار حكم سباق للمحكمة الدستورية العليا أقر أن البرلمان هو مؤسسة يخلقها الدستور ولذلك لا يحق له أن يخلق الدستور. أو بمعنى آخر، إن الدستور يحدد صلاحيات البرلمان وعليه يعني قيام البرلمان بوضع الدستور أنه سيحدد صلاحيات نفسه، وفي ذلك تضارب واضح في المصالح. وتم تفسير هذا الحكم على أن يشكل البرلمان الجمعية التأسيسية كلها من خارج البرلمان.
ومن هنا بدأ هؤلاء يحذروننا من أن هذا التضارب في المصالح يدفع البرلمان إلى تغليب مصلحته الخاصة على المصلحة العامة وهو يضع الدستور. ويبدو أنهم لم يلاحظوا أن البرلمان غلب المصلحة الخاصة على العامة قبل تشكيل الجمعية التأسيسية بالفعل. أشير هنا إلى تأكيد "نواب الشعب" من النور الإخوان بشكل مسبق على عدم حل البرلمان بعد كتاب الدستور، وأنهم سيلحقون به مادة انتقالية تمنع حله إذا تطلب الأمر. وعمليا يعني هذا الطرح أحد أمرين. أولا: أن يجبر ذلك الجمعية التأسيسية مسبقا على وضع دستور لا يغير كثيرا من وضع البرلمان الحالي حتى لا يستوجب حله. مثلا، ألا تقر أبدا تغيير نسبة العمال والفلاحين بما يستوجب اعادة الانتخابات، حيث ان رفع النسبة الى ٦٠٪، مثلا، تستوجب اعادة الانتخابات لعدم إستيفاء البرلمان الحالي لهذا الشرط. أو أن تقر الجمعية كل التغييرات المطلوبة مع وضع مادة انتقالية تفرض علينا برلمانا لا يستوفي شروط الدستور الجديد لمدة أربع سنوات أخرى. في كلا الحالتين تكون مصلحة البرلمان قد دفعت الجمعية التأسيسية إلى وضع دستور يغلب المصلحة الخاصة على العامة قبل شهرين من البدء في وضعه بالفعل. (ينطبق نفس التحليل على كل المواد الخاصة بشكل البرلمان وصلاحياته...فقط استعرضت ما يخص نسبة العمال لأنها الأوضح، وتحدثت عن رفعها لمطالبة النخبة بإلغائها).
بكل تأكيد لا يمكن تصور خروج مثل هذا العبث من جمعية دستورية لا يؤسسها البرلمان. فهذه هي طريقة التشكيل الوحيدة التي يمكن أن تعلي مصلحة البرلمان فوق كل شيء بهذا الشكل، ولا يمكن تصور تشكيل آخر يقيد وضع الدستور باستمرار البرلمان (ما يعني أيضا استمرار المشرفون على المرحلة الانتقالية في الحكم) لأن هذا العوار لا يخرج إلا من صاحب مصلحة. وهكذا يتضح أن تضارب المصالح الذي يحذرنا فقهاء الدستور من إمكانية حدوثه وقع بالفعل قبل تشكيل الجمعية بشهور.
ترجمات الوضع السياسي الجديدة
يعاني قيام البرلمان بمجلسيه (شعب وشورى) بوضع الدستور من عوار آخر يتعلق بكونه يمثل الفائز ولذلك لا يصح أن ينفرد بتحديد أصول اللعبة. وهذا العوار تحديدا لا يزول بقيام البرلمان بتشكيل الجمعية التأسيسية من خارجه. وتتجلى فداحته بشكل صارخ في هزلية المفردات التي تترجم واقعنا الانتقالي في الخطاب السياسي المهيمن. يلاحظ، مثلا، أنه يتم استحضار مفهوم "برلمان" بشكل تلقائي الآن للإشارة إلى قرارات "الأغلبية البرلمانية." وهذا ما مكن "الأغلبية البرلمانية" التي شكلت الجمعية التأسيسية دون تدخل من الأحزاب الأخرى (ما أدى لانسحاب هذه الأحزاب من الجمعية) أن تقدم قرارها على أنه موقف البرلمان. وفي خطوة ثانية تمكنها هذه الترجمات من إستخدام مصطلح "برلمان" لتفادى ذكر "حزب الحرية والعدالة بالاشتراك مع حزب النور" في كل القضايا الجوهرية. وخطوة ثالثة نرى مفهومي "الحرية والعدالة" و"النور" يستخدمان في للتغطية على الفاعلين الحقيقيين: الإخوان والدعوة السلفية، وكلاهما من خارج البرلمان. هكذا تسيدت هذه الترجمات الرثة اللعبة الخطابية في مصر. فما قيل عن اختيار "البرلمان" لتأسيسية الدستور هو في الحقيقة ترجمة مضللة لقيام الإخوان والدعوة السلفية بتشكيل الجمعية بأغلبية إخوانية واقلية سلفية وتهميش كل ما عدا ذلك.
ويدل استقرار هذه الترجمات على مدار العام السابق (حتى وإن بدأت تهتز مؤخرا) على أنها تلعب دورا حيويا تستفيد منه أطراف عديدة. على سبيل المثال، من الصعب جدا تخيل خروج المستشار طارق البشري علينا في جريدة ليؤكد على حق الإخوان في تشكيل الجمعية التأسيسية وتحديد حصتهم فيها بشكل مباشر، لكن شيوع هذه الترجمات ساعده بالفعل على التأكيد في جريدة الشروق على حق "البرلمان" في أن يحدد "حصته" في التأسيسية (وكأن هذا جزء من النظرية الديموقراطية). وبكل تأكيد لو كان أجبر على ترجمة ما يقوله إلى لغة تنصف ما يحدث على الأرض لما أستطاع أن يقول الشيء نفسه. وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية هزت مصداقية هذه الترجمات، لفساد وهشاشة الواقع الذي تترجمه، يظل أمثال البشري يتمسكون بلغة "البرلمان" و"الأغلبية البرلمانية،" الخ--يساعدهم في ذلك استقرار هذه الترجمات على مدار عام كامل.
لكن لا يوجد شك في أن التطورات الأخيرة قللت من مصداقية هذه الترجمات بعد أن استخدمها أصحابها في الدفاع عن حق الإخوان في تحديد ممثلي الفئات الأخرى ونسبة تمثيل كل منهم، على أساس أنهم "الأغلبية البرلمانية،" ومن ثم هم ايضا "البرلمان." وفضحت هذه الترجمات نفسها عندما استخدموها في تبرير قيام الإخوان بتعيين أحد كوادرها المسيحية على أنه أحد ممثلي الأقباط (يحسبونه في نسبة الأقباط). فقيام الإخوان بتحديد من يمثل، ومن لا يمثل، منافسيهم في التأسيسية وهو سلوك تجرمه كافة الأعراف الدستورية. بلغة المباريات، لا يمكن لأي لغو أن يعطي الإخوان الحق في اجبار منافسيهم على أن يلعبوا بحارس مرمى في مركز رأس الحربة، وأن يلعبوا بتسعة لاعبين فقط على أن يكون من بينهم ثلاثة من كوادر الإخوان "علشان يجيبوا اجوال في أنفسهم،" لأن منافسيهم حتما سيردون: طيب، مش لاعبين.
اختزال المصلحة العامة في شكل صراع سلطة
تلعب هذه المفردات دورا أساسيا في إخفاء المستوى الثاني من تضارب المصالح بين الجمعية التأسيسية والبرلمان. أشير هنا إلى إعلان الإخوان عن أن وجود توافق شعبي على الإبقاء على الأبواب الأربعة الأولى للدستور على ما هم عليه لجودتهم (على غرار تعظيمهم لدستور١٩٢٣). وأحيانا ما تسوق الإخوان هذا الطرح في صورة اقرار منها بوجود اتفاق على ٩٥٪ من مواد الدستور. وبهذه الطريقة تجيش الجماعة بأوجها العديدة الجمعية التأسيسية التي شكلتها من بين أعضائها لإخراج دستور مفصل تماما على مقاسها، على أساس أنه محل توافق، كما ساشرح بعد قليل. لكن قبل ذلك أود أن أقف عند تناقض رئيسي كشفه هذا الطرح.
لا يوجد شك في أن الابقاء على أول أربعة فصول يعني الانتهاء من كتابة الدستور بسرعة، وهو ما تريده الجماعة. لكن ذلك يتناقض مع موقفها وموقف كل من سعوا لتأسيس مشروعها من خارجها حتى مارس ٢٠١١. لنتذكر سويا أنهم بنوا رفضهم لطرح "الدستور أولا" على أساس طول عملية وضع الدستور. عندها زعموا أن ذلك سيؤدي إلى تأجيل الانتخابات لمدة طويلة، وبالتبعية إلى سلق الدستور من أجل التعجيل بالانتخابات--بالإضافة إلى اعتراضات أخرى أكثر وجاهة بالطبع. عندها توقع طارق البشري في خضم حربه على"الدستور أولا" أن تستغرق عملية وضع الدستور ما بين العام والعامين. أما الآن فنراه يقبل بوضعه في أقل من ستة أشهر. وهكذا قبلوا على ما يبدو بضرورة سلق الدستور بعد أن كان يرفضون وضعه أولا "علشان يأخذ وقته في السوا ومبيوظش"--وأكرر، إن هذا النقد مبني على الإطار الزمني الذي قدموه في أثناء حربهم على "الدستور أولا." وكان موقفهم في مارس ٢٠١١ يتناقض هو الآخر بشكل فج مع موقفهم في فبراير ٢٠١١، عندما رفضوا اقتراح عمر سليمان بتعديل الدستور على طريقة البشري، وأصروا على وضع دستور جديد على أساس أن ذلك من مطالب الثورة.
من حق الجماعة أن تغير موقفها طبقا لمتطلبات صراعها مع النظام، لكن لا يمكننا قبول أن يؤدي ذلك إلى التضحية بالمصلحة العامة. فتبعات التسرع في وضع الدستور الآن لا ترتبط باقتراب انتخابات الرئاسة فقط كما يبدو، بل تعني الإشادة بالأبواب الأربعة الأولى فعليا حصر الصراع السياسي كله في شكل الدولة (برلمانية أم رئاسية) لأن هذا ما تتناوله الفصول المتبقية، وهو أمر تهتم به الجماعة كما أعلنت أكثر من مرة. على النقيض من ذلك تقع المواد المتعلقة بمعظم مطالب الثورة في الفصول الأربعة الأولى التي قرروا مسبقا عدم تغييرها بشكل جوهري. فهي التي تحدد الحقوق، وهي التي يمكن أن تؤسس للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ومناهضة التبعية والتطبيع، الخ. ومن ثم يعني الإبقاء عليها دون تغييرات جوهرية تجاهل الاستحقاقات الدستورية للثورة (كما فعل دستور ١٩٢٣) وتركيز الصراع في نطاق الاختلاف على شكل الدولة، ما يختزل أهداف ثورتنا في صراع على طريقة "ترتيب الكراسي." ولا أظن أي جمعية لا يتحكم فيها الفائز، مهما تعددت ترجماته، كانت ستفعل ذلك.
انتقالية البشري وترجماتها
لعل أفضل السبل لتحليل تناقضات المرحلة الانتقالية هو اسقاط المواقف ذات الصلة على شخص ما يجسدها، بحيث يمكن ملاحظة تناقضات هذه المواقف في التضاربات التي تصدر عن هذا الشخص. لكن يظل لهذا التحليل قيمة استرشادية في أفضل الأحوال لما تحمله علاقة الشخص بالمواقف التي يتخذها من تعقيدات يصعب قولبتها. ومن هنا، يمكننا قراءة تناقضات المرحلة الانتقالية في مواقف المستشار البشري ذات الصلة، لكونه مهندس الإطار الدستوري الذي يحكم العملية الانتقالية، ومن ثم فهو بحاجة أكثر من غيره إلى تبريرها واعادة تفسيرها طوال الوقت. وأول ما يلفت النظر هنا هو أنه تجاهل المبادئ أعلاه عندما وضع تعديلات مارس ٢٠١١. وبهذه الطريقة وضعت تعديلاته المرجعية الأساسية لترجمة خطف الثورة إلى لغة "ديموقراطية" كالتي استعرضتها فيما سبق. ويلاحظ أن البشري ظل متمسكا بمبادئه القديمة، التي كانت كل الحركة الوطنية تحترمها، حتى قبل الثورة بشهور قليلة، عندما هاجم حركة البرادعي لسيعها إلى تعديل الدستور فيما عرف بإسم بيان التغيير. عندها كتب مقالة مطولة في جريدة الشروق هاجم فيها الحركة ضمنيا، مستندا في ذلك إلى منطق مفاده أن للدستور أصول سياسية واجتماعية لا يمكن تجاهلها،ولا يصح "لكلكته" في ظل سياق استعماري هادم يهدف إلى تفتيت الدولة المصرية.
لكن ما أن أنتقل إلى موقع سلطة حتى أخذ يؤسس تعديلاته على أسس تماثل مبادئ البرادعي السبعة. وهكذا رفض طريقة البرادعي في تعديل الدستور في موقف إصلاحي ليقبل بها في موقف ثوري، في حين صعد البرادعي من مطالبه بما يتسق مع الوضع الثوري. الأنكى من ذلك هو أنه قبل أن يؤسس المرحلة الانتقالية على تعديلات دستورية هي في جوهرها نفس التعديلات التي عرضها عمر سليمان في أثناء الـ١٨ يوم للإبقاء على نظام مبارك، بنفس المواد تقريبا، بعد أسبوعين فقط من سقوط اللجنة التي شكلها سليمان (مع سقوط مبارك) لأداء نفس مهمة البشري. وبذلك قبل بتأسيس المرحلة الانتقالية على الأسس التي عرضها مبارك لإنقاذ نظامه، بعد شهور قليلة من موعظته ضد البرادعي، مكررا في ذلك، بوعي أو غير وعي، موقف الإخوان.
ثم أتت ترجمة "البرلمان" لتفاصيل مادة البشري الخاصة بحكر تشكيل الجمعية التأسيسية على "البرلمان" على الشكل الذي رأيناه، ففضحت الهزل الدستوري الذي استندت عليه هذه التعديلات. حيث قام "البرلمان" (بترجماته الكثيرة) بتعيين نصف أعضاء الجمعية من بين أعضائه وكأنه طفل يصرخ "دي لعبتي ومحدش هيلعب بيها غيري." وبذلك فسر المادة المعنية على أنها دعوة له لانتخاب نفسه. ثم عمل على ترسيخ هيمنته على الجمعية فساوى بين حصته وحصص سائر الكيانات الأخرى مجتمعة. ووصل من البجاحة أن وضع رئاسة الجمعية التأسيسية في أيدي رئيس البرلمان، وكأن مصر ليس بها من يستطيع القيام بهذه المهمة سوى الكتاتني.
ثم اجتمعت التأسيسية بعد تشكيلها بدون لائحة تنظم عملها وتحدد صلاحيات أعضائها ورئيسها. فما كان من الكتاتني إلا أن منحها إجازة أسبوع في أول قرار له كرئيس لها، دون أن يعرف أحد إذا كانت صلاحياته تسمح بذلك أم لا (روحوا، انتوا في إجازة أسبوع من أول يوم؟). وتقاطعت هذه الإجازة مع الأزمة التي تفجرت في وجه الإخوان بسبب تشكيل الجمعية، ما عنى أن الكتاتني صدر أزمة الإخوان إلى الجمعية، كاشفا بذلك تحكم الإخوان التام. كذلك اجتمعت بنسبة ٧٥٪ في غياب ما يحدد ما إذا كانت هذه النسبة قانونية في جمعية أصلها التوافق أم لا (لم يحدد لها نصاب قانوني). ثم قررت الجمعية في ثاني اجتماع لها أن تفرض السرية على مداولاتها، ما عنى حصر النقاش المجتمعي حول الدستور في الـ١٥ يوم التي تسبق الاستفتاء عليه. ومن هنا بدأت الأسئلة حول كيفية إدارة الجمعية تنتشر دون إجابات. وكان أحد أعبط تطورات هذه العملية هو تعيين الجماعة لممثلي الفئات الأخرى دون الحصول على موافقتهم، فتوالت الانسحابات من الجمعية لتكشف أن الإخوان لم يتوقعوها. ومن ثم يبدو أنهم صدقوا ترجماتهم الرثة إلى درجة أنها ضللتهم مثلما ضللت الشعب، لذلك قرأوا هذه الانسحابات على أنها مؤامرة من المجلس العسكري فقط لا غير (لا أشك في وجود مؤامرة من المجلس بالطبع، لكنها ليست السبب الرئيسي وراء الانسحابات).
وصل فيلم اسماعيل ياسين هذا إلى حد قيام الجماعة بتعيين أحد كوادرها ضمن حصة الاقباط ثم الاستشهاد بوجود أمثاله على تمثيل الجمعية لكافة أطياف المجتمع. وهكذا دشنوا حملة لتعريف معنى التوافق طبقا لمنطق يعني تعيينهم لقلة غير مؤثرة لتمثل منافسيهم. لكن للتوافق معايير قانونية محددة لا تسقطها الكوميديا، من أهمها ألا تحظى الأغلبية السياسية بأغلبية الجمعية الدستورية لأن الأغلبية السياسية محصنة بقدرتها على قبول أو رفض الدستور في الاستفتاء، أما الأقليات فلا سبيل لها للتأثير على الاستفتاء. وحتى إذا أصرت الأغلبية على الاحتفاظ بأغلبية الجمعية التأسيسية، وهذا ترتيب فاسد في حد ذاته، عليها أن تحدد نسبة لإمرار القرارات تضمن تفعيل ولو حد قليل من التوافق. وجرت الأعراف على نسبة الثلثين لتوفير ضمانة ما يسمى بالثلث المعطل للأقليات السياسية. وإذا قل تمثيل الأقليات مجتمعة عن الثلث وجب تعديل النسبة بما يوفر لهم القدرة على منع أي قرار تجتمع كلها على رفضه. ويعطي هذا الجزء المعطل الأقليات ميزة تفاوضية، لا حق فرض مادة بعينها، تمكنهم من منع إقرار المواد التي تكون من الاجحاف بحيث تجمع كلها على ضررها، على اختلاف فرقها: أقباط، ليبراليين، نوبيين، نقابيين، يسار، قومين عرب، الخ. وأي مادة تجمع كل هذه الطوائف على رفضها ستكون بالضرورة ضارة بالصالح العام، حتى وإن بدت في ظاهرها مفيدة للأغلبية. لكن الإخوان، عفوا "البرلمان،" اخترع معنى للتوافق مبني على أغلبية بسيطة (٥٠% + ١)، في لجنة سرية يتحكم الإخوان والسلفيون في ما يزيد عن ثلثيها. وهذا يعني أن إجماع كل الأقليات لا يهم، لاستطاعة الإخوان والسلفيين أن يقروا ما يريدون دون استشارة أحدا من خارجهم. وعليه، فأي رضوخ منهم للأقليات السياسية عند إقرار أي مادة سيخرج كمنة إخوانية على الأقليات، لا كحق من حقوق هذه الفرق. هذا ما يدفعنا للتساؤل: لماذا عينوا أقليات لا دور لها أصلا؟
يظن البعض أن هذه المسخرة نتجت عن تفسير إخواني انتهازي لتعديلات البشري، لكن سبب هذه المسخرة هو في رأيي فساد ضحالة البشري نفسها، التي لم تتطرق إلى نسب إقرار أو طرق ادارة أو تنظيم لعلاقة الجمعية بالبرلمان--على الرغم من أنها المكان المعني بتحديد هذه التفاصيل، إما بالنص أو بالاشارة إلى المبادئ ذات الصلة. إن فيلم "اسماعيل ياسين في الجمعية التأسيسية" الذي لازلنا نشاهد فصوله، حتى بعد الحكم ببطلان تشكيل الجمعية، لم ينتج عن تفسير مغرض للإخوان لأن من البديهي أن يسعى أي فصيل إلى تغليب مصلحته. هو نتيجة طبيعية جدا لتعديلات بنيت على افتراضات كوميدية عن طبيعة الصراع السياسي في مصر. وهي فاشلة ليس فقط على المستوى السياسي الذي يلاحظه الجميع، وإنما على المستوى الحرفي أيضا. فبكل تأكيد يمكن تصور ترتيبات أكثر حرفية تحقق نفس الغرض السياسي دون أن تتسبب في هذه المسخرة--بمعنى آخر، إنها ساقطة من الناحية الفنية قبل أن تكون ساقطة سياسيا. ويكفي للتدليل على سقوطها الفني والسياسي معا أنها استخدمت لشطب خيرت الشاطر على أساس أنه لم يحصل على عفو من النظام في الوقت المناسب بسبب ارتكابة جريمة الآنتماء إلى جماعة محظورة وتمويلها (وذلك بعد ثورة!).
انتقالية العسكر تتقاطع مع انتقالية البشري
لا يوجد شك أن معضلتنا الدستورية هي نتيجة منطقية لتعديلات البشري. وأظن أن البشري فشل لسببين، أولهما عدم اتصاله بالواقع السياسي وانعدام صلاته بالمجموعات السياسية من خارج التيار الإسلامي المهيمن. وتؤكد تصريحاته وكتابته على أنه غير ملم بالخريطة السياسية والمشكلات التي تواجه جماعاتها، وربما ورطه ذلك في بناء تعديلاته على تصور غير واقعي عن سمو التيار الذي يثق فيه، فتجاهل أنه مثل كل التيارات سيغلب مصلحته على الكل إن استطاع. وبهذه الطريقة خرجت تعديلاته مفرطة في رومانسيتها فترجمها الواقع إلى فيلم اسماعيل ياسين الذي عرضته أعلاه. وأوقع هذا النهج صاحبه في خطايا سياسية تعارضت مع تاريخه بشكل مؤسف، إلى درجة أن تخرج علينا جريدة الشروق بخبر يقول أنه عكف على تنقيح دستور الإخوان قبل أن تتقدم به، ما يعني قبوله بالمساهمة في توجه يسعى إلى فرض دستور جاهز على الكل. وبهذه الطريقة ورطه فيلم اسماعيل ياسين الذي كتبه بنفسه في أن يشارك في فرض دستور معد سلفا، تقره جمعية إقصائية سرية، يتحكم فيها فصيله المخلص.
أما خطأوه الثاني فهو أنه تعامل مع الثورة كأنها هبة اصلاحية عندما قبل أن يعدل الدستور تحت حكم النظام السابق، طبقا إلى شروطه، وفي حدود المواد التي كلفه بتعديلها: وهو خطأ أكثر فداحة بمراحل من فيلم اسماعيل ياسين والعصبوية التي صاحبته. والأهم هو أنه يعكس قناعة غير ذكية بأن العسكر سيسلمون السلطة بسهولة. وبهذه الطريقة خرجت تعديلاته من منطلق يتجاهل حدوث ثورة في مصر، فأسس لواقع يستبدل الشرعية الثورية بشرعية مستمدة من النظام القديم. بدأ ذلك كما قلنا بقبوله تأسيس انتقاليته على تعديلات عمر سليمان، وعليه تقاطعت انتقاليته مع انتقالية النظام من اللحظة الأولى، وقدمت نفسها على أنها أقصر الطرق لإنهاء حكم العسكر، لكنها رسخته ووفرت له غطاء شرعي استخدمه بكثافة ضد الحركة الثورية.
ثم تجلى تدريجيا أن المجلس العسكري لن يسمح بالتخلي عن امتيازات المؤسسة العسكرية السياسية والاقتصادية. وخرجت كل أفعاله لتؤكد عدم نيته في تسليم السلطة بشكل حقيقي بقدر ما ينوي إخراج تسليم سلطة جزئي في أفضل الأحوال. وقام من اللحظة الأولى بفرض مواد دستورية على التعديلات المستفتى عليها وأصدرها في إعلانه الدستوري، وبذلك التف على التعديلات من أول يوم. وكان يمكن للمجلس العسكري أن يفرض إعلانه هذا باستفتاء شعبي كان حتما سيقره، لكن بغض النظر عن الاسباب، أكسبه عدم عرض إعلانه للاستفتاء حق اصدار المواد الدستورية دون الرجوع للشعب. واكتسب هذا الحق من اللحظة الأولى، للأسف على خلفية استفتاء شعبي، وها هو يخطط لاصدار بيان دستوري يحدد صلاحيات الرئيس الموقت من تلقاء نفسه.
واحقاقا للحق كانت تعديلات البشري تعني من حيث المبدأ تعديل دستور ١٩٧١، لكن المجلس العسكري ألغى هذا المعنى بإعلانه الدستوري، وهو ما أدى بنا لإنتخاب برلمان والتحضير لانتخاب رئيس جمهورية دون تحديد صلاحيات أيا منهم. وبدأت هذه الحقيقة تنعكس في أداء البرلمان الذي لم ينجز أي شيء طوال الأشهر الثلاث الماضية. لكن تيارا الإخوان والسلف ظللا يربطان الإعلان الدستوري بالتعديلات الدستورية، ويصورانه على أنه رمز الإرادة الشعبية. ثم أتى سكوت البشري نفسه عن نقد هذا الإلتفاف ليؤكد شرعيته. وفي النهاية لم يبالي أحد بتقديم تبرير مقنع لعدم عرض الإعلان الدستوري للاستفتاء، وظلت هذه الأطراف تساند حق المجلس العسكري في اصدار مواد دستورية بالصمت على تجاوزاته، حتى عندما غير صياغة المواد التي تم الاستفتاء عليها دون الرجوع للشعب. وأخيرا بدأ الكل يتحدث عن الكارثة الدستورية التي ستعقب الانتخابات، كل لأهدافه.
في نفس الوقت بدأت ترتيبات تأمين وضع الدستور الجديد تتوالى منذ اللحظة الأولى، فإذا بملف دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب ينقل إلى المحكمة الدستورية العليا، وهي محكمة سياسية بامتياز. وحتى لو لم تكن، فإن الحكم بعدم دستورية هذا القانون شبه مؤكد قياسا على الأحكام السابقة ذات الصلة. ثم بدأ القضاء في تأجيل الحكم في الطعونات على صحة عضوية اعضاء البرلمان دون سبب واضح، كما ظهر في حالة الكتاتني نفسه. والحكم ببطلان عضوية الكثير منهم مؤكد نظرا للتجاوزات التي حدثت (مع عدم التشكيك في حتمية فوزهم في الانتخابات إذا تكررت بطريقة أخرى، فشعبيتهم لا تعني عدم الحكم ببطلان فوزهم لأن الفيصل في ذلك هو حدوث تجاوزات تكفي للحكم بالبطلان).
بمعنى آخر، يتم وضع الدستور الآن بواسطة "أغلبية برلمانية" محاصرة بكروت تهديد وابتزاز عديدة وقوية، وعليه تصبح هي أفضل من يضع الدستور لصالح النظام لأنها دون غيرها مهددة من كل جانب (حل البرلمان أصبح لا يهم غيرها الآن، مثلا). وهنا وجب التذكير بأن كروت الابتزاز هذه تلعب على تضارب المصالح المذكور أعلاه، لأنها تأسست على تخيير "الأغلبية البرلمانية" (بترجماتها العديدة) بين مصلحتها الضيقة والتوقيع على الدستور المطلوب. وبهذا تقدمت الانتقالية منذ لحظتها الأولى على النحو التالي: فصيل انتهازي، شأنه في ذلك شأن منافسيه، يرتب كل شيء لمصلحته، فيبتزه النظام الحاكم بتهديد نفس المصالح الضيقة التي أعلاها فوق الكل.وبما أن انتقالية العسكر اتفقت مع انتقالية البشري من اليوم الأول على تجاهل حدوث ثورة في مصر ثورة، أنتجا في النهاية ما يترجم هذا المنطق إلى واقع ساعد النظام على تشكيل الأحداث.
استنباط شكل الدستور القادم من ممارسات مجلس الشعب
يعاني الطرح بخصوص قيام "البرلمان" (على ترجماته الكثيرة) بوضع الدستور من عوار جوهري أخير يتجلى عندما نحاول استنباط شكل الدستور القادم من ممارسات "البرلمان" الحالي، على أساس أنه الهيئة المعنية بوضع الدستور. وفي هذا السياق وجب التذكير بأن البرلمان الحالي وصلاحياته من خلق الانتقالية نفسها، وعليه فإن مساوئه تضيف بعدا آخر لمساوئ انتقالية التي بنيت على انتخاب برلمان ضعيف وبدون صلاحيات من أجل منع وضع "الدستور أولا."
أولا، يلاحظ أن مجلس الشعب لم يلغي "حالة الطوارئ" حتى الآن، وأكتفى بإعلان المجلس العسكري غير الملزم عن تقيدها في حدود معينة دون اصدار مراسيم تترجم ذلك إلى التزام قانوني. لذلك ظلت قضايا أمن الدولة طوارئ تتوالى منذ تسلم مجلس الشعب سلطة التشريع دون متابعة أو اكتراث. وهذا يعني أن "البرلمان" لم يبالي منذ انعقاده باستمرار حالة الطوارئ على الرغم من أن إنهائها كانت من أول مطالب الثورة. كما إن ذلك لا يتسق مع الجلبة التي صدرت عن الإخوان عندما أعلن المجلس العسكري استمرار حالة الطوارئ في سبتمبر الماضي، أي قبل الانتخابات البرلمانية، وردت عليه الإخوان بأن استمرار العمل بالطوارئ غير دستوري. لكن ما أن انتهت انتخابات البرلمان حتى كفوا عن محاربة الطوارئ. وبنفس الطريقة أقام "البرلمان" حفلا اعلامية كبيرا عندما أعلن عن منع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية (الذي لم يقر بعد)، بعدها أحالت نيابة أمن الدولة ملفات ما يزيد عن سبعين شخصية عامة إلى النيابة العسكرية، ليس بينهم إخواني أو سلفي واحد بالطبع، أعقبها إحالة المتهمين في أحداث شغب بورسعيد إلى النيابة العسكرية.
وعلى نفس المنوال، لم يقم "البرلمان" بأي إجراء حقيقي نحو إلغاء اتفاقية الكويز أو حتى الغاز مع اسرائيل، بل سافر وفد مصري إلى تل أبيب للتفاوض على توسعة نطاق الكويز تحت سمع بصر "البرلمان." كما لم يتخذ أي اجراءات نحو فرض ضريبة واحدة تعيد توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، ولا حتى أعاد النظر في الضريبة الرأسمالية التي فشلت حكومة شرف في فرضها على الرغم من ضآلتها. أضف إلى ذلك عدم إنصاف الشهداء، والسكوت على تبرئة قاتليهم، وسفر مفتي مصر إلى القدس المحتل لأول مرة في التاريخ، وعدم الاكتراث بمأساة المصابين، وعدم التحرك نحو استعادة ثروات الدولة المنهوبة أو تقييد إمتيازات البيزنيس، وهو ما يعني ضرب مفهوم "القصاص" في مقتل--والقائمة تطول. ثم أتت حادثة تهريب المتهمين الأجانب في قضية "التمويل الأجنبي" الشهيرة لتؤكد أن "البرلمان" غير معني أيضا بمناهضة النفوذ الأمريكي، ولا يهتم بمناهضة التبعية للإستعمار. وأثارت القضية بلبلة كبيرة بعد شكر "ماكين" لخيرت الشاطر على دور الإخوان في إطلاق سراح المتهمين الأجانب. وأثبتت نفس القضية أن "البرلمان" لا ينصف استقلال القضاء، فلم يتحرك من أجل تصحيح ما حدث أو العمل على منعه. ولا يهم هنا كثيرا إن أتى هذا الأداء المزري نتيجة عدم إهتمام أو نتيجة عدم وجود صلاحيات للبرلمان، فالمحصلة واحدة نظرا لتأسيس الجمعية التأسيسية على نفس الأسس التي تحكم عمل "البرلمان" (أي، الترتيبات الانتقالية).
وعليه يمكننا أن نستنتج أننا أمام "برلمان" متعدد الأسماء لا يكترث بوقف التبعية للإستعمار، ولا يهتم كثيرا بمنع الاستبداد الذي يتجسد في قانون الطوارئ، ولا يكترث بالعدالة الاجتماعية، وغير معني بإعادة توزيع الدخل واستعادة ثروات الدولة المنهوبة، وغر مقدر لاستقلال القضاء، يرحب بالتبعية لأمريكا، ولا يمانع من توسعة اتفاقيات كالكويز والغاز، ويتجاهل القصاص. لكنه معني وبشدة بتشكيل الحكومة، ويطالب كل القوى أن تسانده في رفع الثقة عن حكومة الجنزوري بعد أن اشترك في إجهاض محاولات الحركة الثورية لإسقاطها في ديسمبر الماضي بالفعل، التي كبدت الحركة الكثير من الخسائر (أنظر تصوير مرشد الإخوان للجنزوري في حينها على انه المخلص). وتخلل هذه الأحداث إلصاق تهم البلطجة والعمالة لأمريكا بالثوار تحت سمع وبصر الجماعة التي شارك إعلامها في هذه الحملة المغرضة.
وإذ فجأة بدأ البرلمان، أي الأغلبية البرلمانية طبقا للترجمات السائدة، أي حزب الحرية والعدالة بالاشتراك مع حزب النور، أي جماعة الإخوان والدعوة السلفية--يتحدث عن ضرورة التوافق على اسقاط حكومة الجنزوري بالتزامن مع تشكيله لجمعية تأسيسية إقصائية، ثم انتفض فجأة لمنع الفلول من الترشح بعد عام من صمته على ترشيح شفيق، ولن أقول موسى، عندما بدى لذلك وجاهة من منطلق الصراع على السلطة، لا من منطلق المبادئ لأن المبادئ لا تظهر فجأة. وعليه لنا أن نستنتج أن الجماعة معنية بالأساس بمشروع سلطة لا يضع أهداف الثورة في أولوياته حاليا، وفي أفضل الأحوال، يؤجلها إلى مرحلة لاحقة.
إذن يلاحظ وجود اتفاق بين طرح واضعي الدستور لفكرة عدم الحاجة إلى تعديل الفصول الأربعة الأولى من الدستور السابق، وتصويرهم لدستور ١٩٢٣ على أنه "سباق،" من جانب، وممارستهم في مجلس الشعب من جانب آخر. ولا يجوز هنا أن تبرر الأغلبية البرلمانية فشل "البرلمان" بهذه الطريقة بتآمر حكومة الجنزوري عليه (وهي ترجمة رثة للمجلس العسكري لها مشكلاتها)، لأن "البرلمان" قادر على إلغاء حالة الطوارئ دون الرجوع إلى، لاموآخذة، الحكومة، وقادر على تصدير المشكلة للمجلس كما فعل في حالة الفلول، لكنه لا يفعل ذلك.
هكذا ردت زينات صدقي على اسماعيل ياسين
وما أن أخرج الفصيل الأكبر فيلم "اسماعيل ياسين في جمعية الدستور" على النحو السابق حتى رد وجهاء الليبرالية عليه بفيلم أكثر هزلا، تأسس على الاستهزاء بثغرات فيلم الأغلبية، وما أكثرها، لنسف عملية وضع الدستور من أساسها. ووظفوا في ذلك بعض الاطروحات التي عددتها أعلاه، لكنهم لم يستخدموها لنقد طريقة وضع الدستور والدفاع عن حق المعارضة بقدر ما سعوا لتوظيفها في نفي حق الإخوان في الحكم. وهكذا خان وجهاء الليبرالية أحد أهم مبادئ الليبرالية: حق الفائز في أن يحكم. يشهد على ذلك استقوائهم بالعسكر، وتركيز نقدهم لترتيبات الإخوان على الأشكال الإجرائية التي يدعمها العسكر، وقبهم بالفصول الاربعة الأولى من الدستور السابق، وخلو نقدهم من كل ما عرضته بخصوص التبعية، والعدالة الاجتماعية، واستعادة ما نهب من ثروات البلد، والقصاص، وإعادة توزيع الثروة، إلخ، وبهذه الطريقة انصب صراعهم مع الاخوان على تحديد من يحق له الالتفاف على الثورة وكيف يفعل ذلك.
للأسف تمكنت هذه البيئة الرثة بأفلامها الهزلية فأثرت على أكثر من فصيل، ما دفع عددا كبيرا منهم إلى خرق ايديولوجياته بشكل فاضح. فأصبحنا لا نلاحظ أي ليبرالية في سلوك، مثلا، مصطفى النجار، وأختفى الإسلام من سلوكيات وأداء الإخوان والنور، وهكذا...ولم ينجح تيار أبو الفتوح من السقوط في فخ الأفلام الهزلية هو الآخر، إذ انصبت كل حلوله على استخدام انتخابات فاسدة كمدخل إلى خلق تيار إسلامي "وسطي" ينافس الإخوان. ثم تفوق فيلم تيار خالد عليهم: فبعد وصلة من المواعظ الثورية واليسارية عن النضال الشعبي انتهى به الأمر إلى دخول انتخابات فاسدة، بتوكيلات حزبية اشتملت على توكيلات من المصريين الأحرار: أبو الرأسمالية، وتضمنت توكيلات من أعضاء برلمان من الفلول. وكنت أود أن اقول أن الحركة الثورية أفضل حالا، لكنها باتت تعاني من انحدار مستمر لإصرار كل أفرادها على اعتبار أنفسهم قيادات تاريخية. وهكذا شكلوا عدد لا يحصى من الحركات ليمارسوا أدوارهم التاريخية المفترضة ففتتوا الحركة تماما. ووصل الهزل ببعضهم إلى درجة استخدامهم لبعض الاطروحات الفوضوية (أعني المصطلح السياسي لا الأخلاقي طبعا) لتفسير رفضهم للانضمام للمنظمات الموجودة، ثم بنوا على وظفوا نفس الاطروحات في تبرير تأسيس أشكال جديدة يتصورونها بشكل طليعي (من وجهة نظر لينينية)، ولأن الفوضوية تتعارض مع الفكرة الطليعية اللينينة، إنتهوا إلى تسمية أنفسهم بأشياء مثل، "اتحاد المستقلين،" الذي تنفي أول كلمة فيه الكلمة التي تليها بعبط شديد. وهكذا بدت كل الفصائل وكأنها تحاول انتاج فيلمها الخاص بما يتفوق على فيلم اسماعيل ياسين الذي رأيناه فيما سبق.
لذلك يجب ألا نستغرب مما حدث في الفصل الأخير من مسرحية الانتقالية، الذي شهد استدعاء تعديلات البشري لشطب الشاطر (الذي "لم يكن ينتوي الترشح") وأبو اسماعيل. عندها شاهدنا أطراف النزاع يتبادلون الأدوار كما تتبادل زينات صدقي واسماعيل ياسين الأدوار في أفلامهما المشتركة. فإذا بالتيارات التي ساندت هذه التعديلات وفرضتها على الكل تخرج لتلعن أبو التعديلات واللي خلفوها، في حين انبرى من عارضوها في بادئ الأمر يدافعون عن ضرورة التمسك بما ورد في بيان العسكر الدستوري وأقره الشعب في الاستفتاء. وهكذا خرجت علينا زينات لتبرر قبول الليبراليون بشطب الشاطر بسبب عدم إصدار النظام الحاكم الذي ثورنا عليه عفو عنه على خلفية انتمائه لجماعة محظورة والعمل على تمويلها. وهذا يعني أن زينات صدقي تقول بعدم أحقية الشاطر في الترشح لأنه خالف شرعية نظام مبارك ودستوره. في نفس الوقت قام اسماعيل ياسين بتصوير الشاطر على أنه الضحية التي تعاني لكنها عزيمتها واصرارها على مقاومة الطغا تدفعها إلى هندسة دستور يبدأ بدفع كل على الأخرين نحو "عدم الشرعية،" كما قلت من قبل.
ثم إذ فجأة خرج المجلس العسكري، المنتج الرئيسي لكل هذه الافلام، منذ يومين فقط ليعلن عن خطورة انتخاب رئيس جمهورية غير محدد الصلاحيات ليحكم البلد مع برلمان غير محدد الصلاحيات هو الآخر، مكررا بذلك ما ظلت الحركة الثورية تقوله على مدار العام السابق كله في آخر مشاهد مسرحية "الانتقالية" العبثية. ووعد بحل هذه المشكلة إما بتأجيل الانتخابات، أو التعجيل بوضع الدستور والاستفتاء عليه قبل تسليم السلطة (لتتم العمليه كلها في أقل من ستين يوم، يخصص اسبوعان منهم للنقاش المجتمعي حول الدستور، ما يعني وضع الدستور في أقل من خمسة وأربعين يوما)، أو استدعاء جزء من صلاحيات الرئيس من الدستور السابق واعادة توزيعها على سلطات الدولة، أو اصدار اعلان دستوري جديد يحدد صلاحيات الرئيس القادم بشكل انتقالي، أو إصدار اعلان دستوري مكمل للإعلان الدستوري الحال...وهكذا عدنا إلى نقطة الصفر من جديد قبل شهرين من انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. علينا إذن أن نترقب أفلام هزلية جديدة تتفوق في عبثها على كل ما شاهدناه حتى الآن، تصاحبها ترجمات جديدة لواقعنا الرث تجعل من الترجمات التي شاهدناها هنا تبدو في منتهى الوقار. ولو ظل الهدف الأساسي للحركة السياسية على ما هو عليه من تجاهل استحقاقات الثورة التي يعرفها الجميع من أجل أن تتصارع على سلطة وهمية لم تتشكل بعد، ستكون بذلك تصر على حل مشكلات مصر بفيلم جديد من أفلام الراحل محمود شكوكو بعد أن تعلمت أن أفلام اسماعيل ياسين ليست واقعية بما يكفي!