حتى تاريخ كتابة هذه السطور، نعد نحن المواطنون المصريون الذين ننوي مقاطعة الانتخابات الرئاسية الوشيكة أقلية. يتهمنا الكثيرون بالسلبية وأرى أن قرارنا هو عين الإيجابية بلا شك. بل إنني أرى أن من كانوا معنا على نفس الدرب ثم تركوه، من هتفوا معنا «لا انتخابات تحت حكم العسكر» فى يناير وفبراير، ثم تراجعوا وتنازلوا عن المبدأ، واستمر حكم العسكر، هم السلبيون باستسلامهم لوضع يتسم بالخلل.
لطالما حلمت بأن تجري فى مصر انتخابات رئاسية يختار من خلالها الشعب رئيسه، لكن حلمي كان، ولا يزال، أكبر من مجرد مسرحية تتم فى إطار غير ديمقراطي أصلاً، وفي أجواء تتسم بالقمع والديكتاتورية، إضافة إلى انعدام المنطق، والعوار القانوني، والشكوك حول نزاهة الانتخابات ومصداقية العملية الانتخابية برمتها.
●●●
يعتقد الكثيرون أنه رغم تردي الأوضاع الحالية وبعدها عن أهداف الثورة فإن وجود رئيس منتخب يتسم بالحنكة والقوة سيحل الأمر، فالبعض يأمل في أن يكون ذلك الرئيس المرتقب هو القائد والزعيم الذي سينتصر على قوى الثورة المضادة ويعبر بالبلاد إلى بر الأمان. لكني أرى ذلك الافتراض أملاً فى غير محله، فلقد ثبت على مدار أكثر من عام ــ منذ تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة للحكم ــ أن كل خطوة تسير فيها مصر تحت الحكم العسكري يشوبها الخلل وتؤدي للإضرار بالمصالح العامة، وإلى المزيد من البعد عن أهداف الثورة.
ولنا فى الانتخابات البرلمانية عبرة: فقد كانت هناك دعاوى ضعيفة طرحت لمقاطعة انتخابات مجلس الشعب من منطلق عدم الثقة فى انتخابات تجري تحت الحكم العسكري وعدم الاقتناع بجدوى البرلمان فى ظل تركز السلطة في قبضة العسكري في كل الأحوال. لكن للأسف تم تجاهل تلك الدعاوى، وإشاعة الأمل فيما اعتبر مؤسسة ديمقراطية منتخبة لها شرعية في مقابل قوة العسكري. إلا أنه مع مرور الوقت اتضح أن الداعين للمقاطعة كانوا على حق، فلا البرلمان قادر على شيء، ولا الديمقراطية تحققت ولو جزئيا، ولم ينازع النواب المنتخبون العسكري سلطته – التى ثبت أنها لا تهتز إلا بالميادين والحراك الثوري، وليس من خلال خارطة طريق اصطنعها العسكر فضلل بها الثوار وفرقهم، تاركاً الشعب فى حالة من التشوش والالتباس حول الشأن القانوني والدستوري.
●●●
هذا التشوش ساهم فى إلهاء الناس باللغط المثار حول كون المرشحين «ثوريين بجدارة أم فلول»، مصريي الأب والأم أم منحدرين من ذوى جنسيات مزدوجة، وغير ذلك من المواضيع الفرعية التي تبعدنا عن مربط الفرس، ألا وهو ماهية المنصب الذي ترشح له المرشحون أصلاً، طبيعة منصب رئيس الجمهورية الذي يتنافس عليه المتنافسون وحجم صلاحياته، وما إذا كان الرئيس سيتولى السلطة التنفيذية فى اطار نظام رئاسي يفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أم أنه سيشغل منصباً شرفياً بصلاحيات محدودة جداً في نظام برلماني تندمج فيه السلطتان تحت سيطرة حزب الأغلبية.
حتى ولو كان بعض مرشحي الرئاسة ثوريين، فإن ثوريتهم ستكون محدودة الفائدة بسبب جهلهم بصلاحيات منصب الرئيس والتي من الأرجح أن تظل مبهمة مع استمرار المجلس العسكرى فى الحكم. هذا هو الحال فى مجلس الشعب الذي لا يخلو من النواب الثوريين الذين كتفت أيديهم وأهدرت طاقاتهم فى برلمان عبثي، يتخذ قرارات ثم يعجز عن تنفيذها، مثل قرار سحب الثقة من حكومة الجنزوري الذى ووجه بالرفض من قبل الحكومة والعسكر، حيث ردوا على البرلمان بأنه ليس من اختصاصاته سحب الثقة من الحكومة، ودخل الجميع فى جدل عقيم لا نهاية له حول حدود صلاحيات البرلمان. لذا يؤخذ على مرشحي الرئاسة أنهم قطعوا على أنفسهم وعوداً فى برامج انتخابية رغم أنهم يجهلون إن كان منصب الرئيس سيخوله سلطات تمكنه من الايفاء بتلك الوعود أم لا.
لو كان الدستور (سواء أكان دائماً أو مؤقتاً) وضع أولاً، كما كان يقترح البعض، لكان حدد نوع النظام السياسي ووزع الصلاحيات بين السلطات بشكل واضح لا يدع مجالا للشك أو لتعدد التفسيرات والرؤى من قبل القوى السياسية والخبراء الدستوريين. لكن التعديلات الدستورية المبهمة التي تم إجراؤها على دستور 71 والإعلان الدستوري، تركانا فى حالة من البلبلة المستمرة التي تعيد إلى الأذهان ما حاول مبارك ورجاله أن يفعلوه بنا أثناء الـ18 يوماً الأولى للثورة، عندما كان المطلب الأساسي هو رحيل الرئيس (مبارك آنذاك)، فكانوا يحاولون صرفنا عن مسار الشرعية الثورية ووضعنا فى حلقة مفرغة من السفسطة والإشكاليات القانونية العبثية، مثل من يحق له دستورياً أن يخلف الرئيس فى حالة تنحيه، أهو رئيس مجلس الشعب أم نائب رئيس الجمهورية، وتحذير عمر سليمان الشهير حول «الفراغ الدستوري» الذى كان يقال إن رحيل مبارك سيخلفه.
نفس التشويش يربكنا الآن ــ فمنذ مارس الماضى وحتى الآن تتضارب تفسيرات مواد التعديلات الدستورية والاعلان الدستوري، فتارة يقال لنا إن الانتخابات الرئاسية يجب أن تجرى قبل وضع الدستور، ثم يعود من قالوا ذلك ويؤكدون أن الأصح هو أن يوضع الدستور ليحدد مهام منصب الرئيس. وهكذا فقدت ما يطلق عليها «خارطة الطريق» مصداقيتها (وهو تطور طبيعى لعملية بدأت بترقيع دستور عصر مبارك الذي قامت ثورة لتبيده) وبالتالى فقدت انتخابات الرئاسة المرتقبة مصداقيتها ودواعي الثقة فيها. هذا بالإضافة لإشكالية المادة 28 والتي أثارت تخوف الكثيرين حول نزاهة وشفافية العملية الانتخابية، فقد أعلن البعض بالفعل أنهم لن يقبلوا نتيجة الانتخابات لعدم ثقتهم فى المجلس العسكري الذى ستجري الانتخابات تحت حكمه.
●●●
لذا فلقد عزمت على مقاطعة الانتخابات الرئاسية والامتناع عن السير على خارطة طريق معيبة، وتلفيق حلول وسط تفرغ الثورة من مضمونها، وتقديم تنازلات تكرس القبول بقلة حيلة الثورة إزاء العسكر. والتزمت بالمبدأ: لا دستور تحت حكم العسكر، ولا انتخابات تحت حكم العسكر.
[عن جريدة "الشروق" المصرية.]