من يقرأ رواية سنان أنطون «وحدها شجرة الرمان»، سيعتقد أن الكاتب أمضى حياته في عالم الرواية. لا بل سيظن أيضاً أنه تجاوز السبعين من عمره. إذ كيف لشاب في الأربعينات أن يمتلك خبرة حياة متكاملة، كيف له أن يتصالح مع الموت، ويروي لنا أدق تفاصيله كعجوز تعب من الحياة واكتفى. إنها شجرة الرمان، وحباتها اليانعة، الحمراء، الشهية، شربت طوال سنوات الماء الذي ينهمر فوق أجساد الموتى ويسيل متخذاً طريقه إليها. إنه جودي الذي لم يتصالح مع مهنة أبيه رافضاً مساعدته بعملية التغسيل والتكفين ثم تجبره الحياة على الخوض في تلك المهنة المنهكة حد الإعياء. ينام جودي مستمتعاً بكوابيس الليل، يصحو منها على الأقل، بينما كابوس الحياة اليومية لا صحوة منه. إنه الموت بتفاصيله الحميمة التي نتجنب الحديث عنها. إنه العراق الجريح. إنها تجربة حياة لا يعوزها شيء لتنضج وتتكامل. وسنان أنطوان، يقدم للقارئ عملاً روائياً بديعاً لا نعرف كم استغرق من الوقت لإنجازه، لكنه بالتأكيد، سرق جزءاً وفيراً من ذاكرته وروحه.
÷ أول سؤال يتبادر إلى الذهن: كيف استطعت إنجاز روايتك هذه؟ العلاقة المباشرة مع الموت ترهق القارئ، ما البال بالكاتب نفسه؟
} لا أنكر أن الموت الذي فيها أرهقني في نهاية الأمر، لكن الغريب هو أنني لم أدرك أو ألاحظ ذلك إلا بعد أن أكملتها. كنت منهمكاً بشكل كامل في عوالمها وشخصياتها وتفاصيلها أثناء الكتابة. قرأت الكثير عن الموتى وأحكام غسلهم وتفاصيل حيوات أولئك الذين يمارسون هذه المهنة. و كان هذا ضرورياً طبعاً ولم أدرك أن الكثير منه سيسكنني ويظل داخلي. كانت الصعوبة مضاعفة بعد أن أنجزت الرواية. فهناك دائماً حزن وحنين لأن الكاتب، بصرف النظر عن موضوع الرواية، يودّع شخصيات عاش معها أو تقمّصها لسنة أو سنين. وبالتالي يحنّ إليها ويشتاق لأن يعرف ما حلّ بها. كان الحزن مضاعفاً مع «وحدها شجرة الرمان» لأنني ودّعت شخصياتها من دون أن أتمكن من أن أودع عوالمها ومناخها بسهولة. ووجدت أن كل هذا الموت يستنزف الكاتب أيضاً ويسكنه لفترة طويلة.
÷ لا يشعر القارئ ولا للحظة واحدة، أنك تعيش خارج العراق. بالعكس تماماً، الرواية تعطي الانطباع بأنك لم تغادر العراق ولا مرة، وبأنك منذ طفولتك حتى الآن، لا تفعل شيئاً سوى تكديس تلك التفاصيل الدقيقة عن الحياة والموت هناك. كيف أسعفك خيالك وربما ذاكرتك؟
} هذا إطراء كبير قد لا أستحقه. الذاكرة بئر عميقة لا تنضب. وهي قد تكون عبئاً بكل ما تختزنه من الأحزان والمواجع وهكذا يصبح نقيضها، أي النسيان، نعمة. لكن الذاكرة نعمة للكتابة والإبداع بكل تأكيد. لأنها، على جناح الخيال الذي ذكرته أنت، يمكنها أن تسافر وتكبر وتعود لتختزن الكثير. أحرص على متابعة أخبار العراق بكل تفاصيلها وبشكل يومي، مع أن بعض الأصدقاء ينصحني بأن أتوقف عن ذلك لأنه يضر بالصحة ويرفع الضغط! وأحاول أن أعوض البعد بالاطلاع والمشاهدة والاستماع إلى الذين يعيشون في العراق. وهذا كله يساعد. الغريب في عالم اليوم هو أن الوسائل التي أتاحتها الثورة التكنولوجية تسمح للمرء بأن يعيش افتراضياً في أمكنة أخرى. لكن حتى قبل أن نصل إلى ما يسمّى «عصر ما بعد الحداثة» كان الخيال هو رحلة إلى أماكن وحيوات أخرى، حتى تلك التي لم يعشها الكاتب.
÷ أعتقد أن الرواية في مكان ما، ليست مجرد حكاية تحكى. إنها التاريخ الموازي الذي لا يدرّس في المدارس والجامعات لكنه يشكل المرجع الأكثر صدقية عن تاريخ الشعوب والأوطان وأمزجتهم. فالرواية اللبنانية مثلاً استطاعت أن تروي الحرب الأهلية بدقة مفرطة أكثر بكثير من نشرات الأخبار أو الكتب النظرية. وأنت ربما أول من شقّ طريقه إلى احتلال العراق. هل كان ذلك مقصوداً؟
} هناك روايات عراقية أخرى عالجت مرحلة الاحتلال. لكنني أتفق معك حول أهمية الرواية والسرديات الأدبية كفضاء تتشكل فيه الذاكرة الجمعية ويكتب فيه تاريخ جمعي آخر ينافس التاريخ الرسمي والمؤسساتي المؤدلج. ولعل الفضاء الروائي يكتسب أهمية مضاعفة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا تفتقد إلى الحدّ الأدنى من الحرية الأكاديمية (والحرية بكل أشكالها طبعاً للأسف) وتنعدم فيها امكانية إعادة كتاب التاريخ (إلا في حالات تشويه التاريخ كما فعل نظام صدام في مشروع إعادة كتابة التاريخ من منظار بعثي) بشكل نقدي على نطاق مؤسساتي واسع. هناك محاولات وإسهامات فردية من قبل بعض المؤرخين طبعاً، لكنني أتحدث عن الأطر المؤسساتية والاتجاهات العامة مجتمعياً. العراق حالة خاصة، برأيي، تفاقمت وتعمّقت فيه إشكاليات تشويه التاريخ، خصوصاً في عهد البعث وثقافة الحروب، وليس الحال أفضل الآن في ظل مأسسة الطائفية وتفتت الهويات. وهكذا فالرواية هي فضاء واسع يستوعب السرديات المهمشة والتواريخ الأخرى وقد يكون أكثر عمقاً من الخطاب التاريخي التقليدي. أعتقد بأن هذا تحصيل حاصل، لكن من المهم أن تكون الرواية رواية في المقام الأول. أي أن تفي بشروطها الجمالية والفنية، لا أن تصبح منصة لخطاب أيديولوجي أو قالباً جاهزاً كما يفعل البعض هذه الأيام. لم أكتب هذه الرواية لكي أروي الحرب أو الاحتلال حصراً. البذرة الأولى لها كانت حواراً قرأته مع «مغسلجي» يمارس مهنة غسل الموتى هزني وأحزنني وأخذت أبحث عن تفاصيل المهنة وتاريخها وكيف تحولت بعد الحرب الأخيرة . وموضوع الموت يتقاطع مع الاحتلال وتبعاته فالسياسة في أحد معانيها هي إنتاج للعنف وإعادة ضبطه و«إدارته» إن صح التعبير. وفي الحروب الأهلية والطائفية تفقد الدولة احتكارها للعنف وتتم «خصخصته» وممارسته على نطاق واسع من قبل قوى مختلفة. وجسد المواطن هو الهدف الرئيسي والعملة الرئيسية التي يتم تداولها. لكن جنس الرواية يسمح بطبيعته في الغوص في حيوات الناس ونفسياتهم ورؤية الكاتب للتاريخ وهمومه تنعكس في خياراته وعلى كتاباته بوعي أو بدونه وبدرجات.
÷ أنت لم تختر في الرواية موضوع الموت فقط، بل اشتغلت على الفكرة بحرفية عالية وبتمهل وروية، على الرغم من بشاعتها. هل هو الموت وحده، أم إنك أردت اختصار حياة أهل العراق، بكل ما فيها من تناقضات بين القسوة واللين وذلك الكمّ المتهافت من الجراح والوجع.
} علاقتنا كبشر بالموت غريبة وإشكالية على الرغم من حقيقته وماديته وحتميته. لكننا نتفادى مواجهته كاحتمال وفكرة إلا بشكل عابر بالطبع لأن ذلك قد يقود إلى الجنون. وإن اضطررنا إلى مواجهة الموت فإنها تكون مواجهة قصيرة تفرضها علينا الظروف وغالباً ما تساعدنا الطقوس والإيمان والخطاب الديني على تقبّله وتقبّل عبثية حياتنا بطرق شتى. ما استوقفني في مهنة غاسل الموتى هو أن يضطر المرء إلى مواجهة الموت كفكرة وحقيقة مادية بشكل يومي. يمكن الإنسان أن يعتاد الأمر في الظروف العادية، ولكن ما الذي يحدث عندما يصبح الموت مجانياً وتتراكم الجثث كما هي الحال أثناء الحروب؟ وكيف يتعامل مع كل هذا إنسان اضطرته الظروف المعيشية الى أن يمارس هذه المهنة التي حاول الهرب منها لأنه كان يريد الاحتفال بالحياة وبجمالياتها بأن يكون نحاتاً، بدلاً من التعامل مع الموت. سيكتشف جواد، السارد الرئيسي في الرواية، أن الحياة والموت في عالمه يتداخلان بقسوة. لكن الموت هو هو، وجسد الإنسان لم يتغير. لكن الجسد هو مسرح للتاريخ أيضاً لأنه رمز تتصارع عليه ومن أجله الدول والملل والنحل! وهكذا فإن متابعة ما يفعله الموت، أو وكلاؤه من البشر بالأحرى، في أجساد البشر في حقبة ما يسرد لنا حكايات هؤلاء البشر. الموت يصادر الحياة لكنه يحكيها.
÷ ألم تكن قاسياً بعض الشيء على جودي؟ حتى مناماته، لم تخلق له فسحة هرب إلى عالم أحلى. تلاحقه الكوابيس أينما ذهب، في الغفلة واليقظة. والمفارقة، أنه كان يفضل كوابيس الليل عن كوابيس النهار. وكأنه طوال حياته، يهرب لاهثاً من الغفلة إلى اليقظة والعكس.
} الحياة هي التي كانت قاسية على جودي. وجودي، مثله مثل الكثيرين، ليس في العراق وحده، بل في أصقاع الأرض، واحد من كثيرين يولدون في طبقة مسحوقة، ويعيشون في سياق تاريخي تتحكم فيه قوى وعوامل جبارة، اقتصادياً وسياسياً، ولا تنجح موهبته وعزيمته وطيبته في أن يكسر القيود التي صُبَّت قبل ولادته. حاول جودي أن يهرب إلى عالم أحلى بالهجرة كما فعل الكثيرون، لكنه أخفق، لا لذنب أو خطأ اقترفه. عندما يعمل شخص برهافة وحساسية جودي، الفنان الموهوب والواعد، كل يوم لساعات طويلة على غسل جثث الموتى وتطهيرها وتكفينها، فإن الموت يستعمر لاوعيه وأحاسيسه وتصبح ذاكرته أرشيفاً مخيفاً للموت. فلا مفر من الكوابيس. لو كان بإمكاني تخفيف حدة الكوابيس وإعطاء جودي تذكرة سفر إلى عالم أحلى لفعلت، لكن حتى الآلهة لا تستطيع أن تخلص جودي وأمثاله وتكذب إن ادّعت ذلك.
÷ وكأن جودي اختار النحت، ليهرب عبره من أجساد الموتى. ليخلق أجساداً جامدة، صلبة، تشبه إلى حدٍّ بعيد تلك الأجساد الممددة بصمت على الدكة. كأنه أراد أن يبث الحياة في منحوتاته لينتقم من فعل تغسيل الموتى وتكفينهم، ووضعهم في توابيت. خاصة إذا استغرقنا بعلاقة اليدين والأصابع بتلك الأجساد.
} نعم، بالضبط. وهنا نعود إلى ثيمة تكاد تكون أزلية وهي الفن كمحاولة الانتصار على الموت والزوال وتحقيق الرغبة في الخلود. والنحت بالذات مثال مادي رائع لهذه المعادلة واستعارة مهمة عموماً ولكن بالذات في سياق الرواية. الجسد الزائل يعيش، تمثيلياً، في قالب وإطار فني. والإنسان يقلد الآلهة في النحت بأن يصنع شبيهه. وفي الأساطير الرافدينية القديمة قررت الآلهة أن تخلق الإنسان من نصــف إله ونصف بشر، من طين وادي الرافــدين، لكي يحمل أعباءها ويساعدها.
÷ أرى أنك لم تكن منفصلاً عن روايتك بشكل كلّي. باستطاعة القارئ أن يعثر عليك في الرواية وعلى آرائك السياسية. هل إحساسي صحيح؟
} صحيح بالتأكيد. لا أعرف إن كان بإمكان الكاتب أن ينفصل كلياً عن الرواية التي يكتبها. الراوي دائماً موجود في روايته بطرق مختلفة. لكن عندما يكتب هذا الراوي كمثقف مهتم مقالات تتعامل مع الشأن السياسي يصبح من السهل ربط أفكاره بأفكار شخصية من الشخصيات أو تتبع صدى أفكاره في النص الأدبي.
[عن جريدة ”السفير“ اللبنانية.]