لا شك في أن جدار الفصل العنصري، الذي بدأ العمل عليه منذ العام 2002 على الأراضي الفلسطينية المحتلة، كان ضمن مشروع ممنهج لخلق واقع جديد، عبر اختراقه أراضي المحافظات الفلسطينية، عازلاً لبعضها، ومحاصراً للبعض الآخر، وفي النتيجة ملتهماً آلاف الدونمات، ومفسحاً المجال لسياسات وعمليات تهويدية جديدة، على رأسها ضم الكتل الاستيطانية الموجودة على أراضي الضفة الغربية لإسرائيل، عبر اتّباع سياسة الأمر الواقع. لقد بدأ الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الرغم من قرارات مجلس الأمن الدولي، وقرارات الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة التي تعتبر هذا الضم غير قانوني ولا تعترف به، بتغيير الواقع على الأرض في مسعى منه لتبديد أي إمكان لتقسيم القدس، أو للتنازل عن الشطر الشرقي منها، أو تحويل مسار الجدار ذاته إلى المسار النهائي لترسيم الحدود.
كانت القدس إذن، في صلب هذا المشروع التهويدي، حيث عزلها الجدار عن الضفة الغربية، معززاً ومكثفاً لسياسة الإغلاق التي يتبعها الاحتلال منذ العام 1967، وهو ما انعكس سلباً على مجمل نشاطات الفلسطينيين هناك، بما يشمل الجوانب الاجتماعية، الاقتصادية، الصحية، الدينية، الثقافية، وبما يؤثر أيضاً على المسألة الديموغرافية للمدينة، وذلك بعرقلة النشاطات الحياتية للمقدسيين، والفصل القسري بينهم وبين امتداداتهم الطبيعية والبنيوية مع مدن الضفة الغربية وقراها، وتحويل نشاطاتهم واهتماماتهم نحو المؤسسات والمراكز الإسرائيلية.
الحياة الاجتماعية
شكّلت سياسة الإغلاق قطيعة ملموسة مع الفلسطينيين بالضفة، وذلك بعرقلة حركة القادمين إلى القدس، عن طريق الحواجز والبوابات وجدار الفصل العنصري، أو عن طريق الإجراءات المشددة في استصدار التصاريح، مع ما يرافقها من معاملة قاسية وغير إنسانية مصحوبة بالشتائم والإذلال والإهانات بحق الراجعين إلى القدس. يقول الحاج أبو أحمد من سكان البلدة القديمة، إن البلدة القديمة تشبه في المساء البلد المهجور، تغلق المحال أبوابها، وتتوقف حركة المشاة، على نقيض أعوام ما قبل الانتفاضة: "كانت البلدة عمرانة والناس تروح وتيجي ...".
ينسحب هذا الأمر على العديد من المرافق الاجتماعية، فقد حالت سياسة العزل والإغلاق دون الزيارات الاجتماعية، وعقّدت الزواج بين الفلسطينيين داخل الجدار وأهاليهم المقيمين خلفه، وعسّرت التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعه. وما تؤكده حالات الزواج بين الجانبين هو لجوء الأزواج من المنطقتين إلى السكن خارج منطقة القدس، حيث باتت كفر عقب هي المأوى لهم، فيما تعرقلت حالات زواج أخرى، كحالة إحدى مواطنات القدس، التي رفض أهلها تزويجها لشاب من رام الله. تقول الفتاة: "في آخر عشرة سنوات بات السؤال الأول للمتقدم للزواج ما لون هويته؟".
اضطّر العديد من المقدسيين لتغيير أماكن سكنهم بما يتلاءم مع التزاماتهم وحاجاتهم الإنسانية، فالبعض ترك سكناه خارج الجدار لئلاّ يخسر بيته في القدس، والبعض الآخر سكن في الضواحي ليكون قريباً من عمله أو أقاربه، وهو ما يعني تشويه الحياة الاجتماعية التقليدية، وإجبار الفلسطينيين على إعادة تشكيلها، لتجنب أضرار السياسة الإسرائيلية التهويدية. وحول هذه القضية، يقول مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية خليل التفكجي: "إن العائلة المقدسية هي عائلة ذات نواة صلبة، كما أنها ممتدة، وبالتالي فإن المسعى الإسرائيلي يهدف لتحجيم هذه العائلات وفصلها، فيما الأسرة يتم تدميرها من الداخل بثقافة دخيلة وآفات اجتماعية على اختلافها"، ويضيف التفكجي: "سيصير 185 ألف مقدسياً منفصلين اجتماعياً ومعزولين عن امتدادهم، وهو ما يولِّد تطور ونمو مختلفين تماماً عمّا هو عليه في الضفة، وهو ما يشبه الثقافة في غزة وأراضي ال48، إذا إنها تحمل في داخلها خصوصية التقوقع المفروض عليها، بحيث تتلاءم مع خصوصيتهم كشريحة ذات وضعية خاصة، وليس مع الثقافة الفلسطينية الجمعية. الحالة ذاتها قد تفرز توجهات نحو الاندماج في المجتمع الثاني. ولكن إسرائيل في النهاية تسعى لإخراج جيل فلسطيني عدمي وغير مُنتمٍ يعمل لديها كعبيد لا أكثر، بمعنى هي تشمل كل من لم يستطع الاندماج في ثقافة المنتصر المُحتل، ولا يستطيع أن يعيش في إطار ثقافته".
العمل والاقتصاد
هناك عشرات الحالات التي تشبه الحالة السابقة، والتي تقع ضمن التأثيرات الديموغرافية التي أحدثها الجدار وسياسات الاحتلال المرافقة، على أنَّ الأمر لم يتوقف عندها، بل نراه انسحب إلى مرافق أخرى. وفي هذا السياق يقول أحد تجار البهارات في القدس: "سابقاً، كنت تسمع كل اللّهجات الفلسطينية الخليلية والنابلسية، الجنوبية والشمالية والبدوية، اليوم ما بتسمع إلا لهجة أهل القدس ولهجة الأجانب"، ويؤكد أن التجارة تضررت بشكل كبير، ويصف مرحلة ما قبل الإغلاق والجدار بأنها "أيام زمان، أيام العز"، حيث كان يبيع البهارات لمختلف المناطق. لقد كانت القدس مركزاً اقتصادياً جاذباً للمستثمرين ورؤوس الأعمال وللصناعات الصغيرة، وكانت حركة التسوق نشيطة، وكانت العديد من المنشآت الاقتصادية تعتمد فقط على سكان ضواحي القدس، أو على سكان الضفة الغربية. أمّا مع الإغلاق فقد تضررت المواصلات، إذ كانت حركتها نشطة بين الضفة الغربية والقدس، وتضررت كذلك العديد من المصانع الصغيرة والمراكز التجارية، التي اضطرت للانتقال إلى الضفة الغربية أو أجبرت على أن تغلق أبوابها نهائياً، مخلفة وراءها حالة ركود اقتصادي، وأوضاعاً اجتماعيةً قاسية.
ولم تعد القدس، على وقع هذه التطورات، تشكل مركزاً مشجعاً للعمل والاستثمار، فلم تعد السوق قادرة على استيعاب العدد الكبير من الباحثين عن عمل، وهو ما دفع بدوره العمال المقدسيين إلى البحث عن عمل خارج السوق المقدسية. وقد انعكس هذا على الحالة المعيشية للمقدسيين، خاصة في ظل تمييز وإجحاف يتبعه الاحتلال في مستوى الخدمات التي يقدمها إليهم، وخصوصاً التمييز في الميزانيات وتوزيعها. وحول هذا الموضوع يلخِّص د. نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت، الوضع بقوله: "لم تعد القدس تجذب المستهلكين أبداً، والكفاءات بدورها انتقلت إلى منطقة رام الله، فالقدس خالية حتى من منطقة صناعية، والمقاولين وخصوصاً مقاولي الإسكان تضرروا بشكل كبير في القدس، الكثير من المستثمرين ملّوا من عناء الحواجز فسكنوا رام الله، وبقيت القدس تعاني حالة تفريغ قاسية"، ويضيف: "باتت حالة القدس مزرية في ظل مدارس غير جاذبة، ترتفع فيها نسب تسرّب الطلاب، كما تحوّل المقدسيون المتسربون إلى عمال تنظيفات حتى يكاد يخلو شارع في القدس لا ينظفه مقدسي، كل هذا متوافق مع المشروع الإسرائيلي المتجلي باتجاهين: الأول، تشجيع الاستيطان وتسهيل حياة المستوطنين؛ والثاني، وضع العراقيل أمام المقدسيين. أمام كل ذلك فمستقبل المدينة هو مدينة مفرغة من سكانها الأصليين، ومن يتبق منهم يتم تجريده من الهوية الفلسطينية المميزة له".
التعليم الأكاديمي
يدرس أغلبية طلبة القدس في جامعات بالضفة الغربية، وقد بات مع سياسة الإغلاق والحواجز الوصول إلى جامعاتهم متعباً للغاية، مما يضطر قسم كبير من هؤلاء الطلاب إلى أن يقيموا بقرب جامعاتهم، وعدم العودة يومياً لمنازلهم بالقدس. لكن، وبالنسبة على القسم الآخر من الطلاب الذين يسافرون صباحاً على جامعاتهم ويعودون مساءً، فقد باتت الحواجز تشكّل تحدياً حقيقياً. تقول الطالبة رزان جبريل من بيت صفافا، تدرس هندسة الكمبيوتر في جامعة القدس في أبو ديس، إنها تخرج من البيت في الساعة السادسة والنصف صباحاً، لتصل إلى محاضرات الساعة الثامنة، كما أن طريق العودة يحتاج إلى ساعة ونصف على الأقل، هذا إذا لم تحدث مناوشات مع الجنود، الذين يحاولون دائماً استفزاز المقدسيين الذين يمرون عبر معبر "الزعيِّم" الذي يفصل العيزرية عن القدس، علماً بأن الطريق من دون حواجز لا تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة". قد تكون رحلة المعاناة هذه أصعب لمن يدرس في جامعةٍ أبعد من جامعة أبو ديس، يقول الطالب كنعان الغول من سلوان، ويدرس التربية في جامعة بيرزيت، إنه يستيقظ يومياً في الخامسة والنصف صباحاً، ويخرج من البيت في السادسة كي لا يتأخر عن محاضراته، وبوجه عام، فإن الطريق تحتاج على الأقل بين ساعتين إلى ثلاثة ساعات في كل اتجاه.
تعرقل وتؤذي هذه المعاناة المسيرةَ الأكاديمية، إذ إن الطالب بعد ساعات السفر يصل إلى البيت مرهقاً لا يقوى على التركيز وعلى متابعة دراسته، كما أن أربع إلى خمس ساعات سفر يومياً تكون قد التهمت ساعات اليوم ولم يتبق من وقت لمزاولة نشاطات الحياة اليومية. تهدف سلطات الاحتلال الإسرائيلي من هذا كله إلى عرقلة المسيرة الأكاديمية الفلسطينية في القدس، على رأسها قطع العلاقة الأكاديمية بين الضفة والقدس، وهو ما ينجلي في فتح الجامعة العبرية أبوابها للمقدسيين، لكي تخلق بديلاً يوقف تدفق الطلبة المقدسيين إلى جامعات الضفة الغربية. ولأجل إتمام هذا المشروع كان لا بد من خلق البديل، بحيث يكون بديلاً يحمل مضاميناً إسرائيلية: الراحة في مقابل المعاناة، والقرب في مقابل البعد، والتقنية والتطور في مقابل البدائية، وبهذا تصير الجامعة العبرية في القدس طوق النجاة الذي قد ينقذ الطالب المقدسي من مرارة الطريق وصعوباته، بحيث يستطيع المقدسي، على خلاف الإسرائيلي المُلزم بامتحانات "البجروت"، أن يتقدم للجامعة الإسرائيلية بما يثبت أنه درس اثني عشر عاماً تعليمياً، وبتحصيل معدل جيد في "السنة التحضيرية" (المخيناه في العبرية)، ممّا يؤهله في النهاية إكمال دراسته الأكاديمية.
الثقافة
تعتبر الثقافة، بما فيها من عادات وتقاليد ومعتقدات وحِرف وصناعات، وطقوس، وفولكلور، وأساطير، وأنماط حياة، وفنون، ومنتجات مادية، وعمران؛ إحدى أهم معاقل المواجهة بين المُستعمِر والمُستعمَر. فهي البناء المميِّز للأمم والشعوب والجماعات، وهي التي تحفظ هذه الكيانات من الاندثار والزوال، وتبقيهم وجوداً حياً وفاعلاً، وقادراً على المقاومة ضد الغزوات الخارجية. لذا ليس من المبالغة القول إنَّ كل أنماط الثقافة الفلسطينية وتجلياتها في القدس باتت في خطر نتيجة للسياسات التهويدية. فمن الواضح أنَّ عزل القدس عن امتدادها الفلسطيني، وقطع أواصر العلاقات وفتح أبواب العمل والتعليم للمقدسيّ في المؤسسات الإسرائيلية يعني تسريب أنماط وأشكال ثقافية جديدة إلى مخزونه الثقافي – المعرفي، مما يشكّل حالة من الاصطدام الفكري بين أفكاره وثقافته الأصيلة، وبين ما يتم تسريبه من أنماط ثقافية إسرائيلية، ممّا قد يخلق لاحقاً حالة اغتراب، تتجلى في انعدام المرجعية السلوكية المُشكِّلة للتصرفات الفردية. إن هذه حالة تستوجب "أمناً ثقافياً" تتضافر فيه كل الجهود من مؤسسات وجمعيات ونخب سياسية وثقافية، إلاّ إن الوضع في الحالة المقدسية كان قد شهد تعقيداً إضافياً، تمثَّل في قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي باستباق إحداث مثل هذا "الأمن الثقافي" بإغلاقه مختلف المؤسسات والجمعيات الفلسطينية المتواجدة في القدس سنة 2000، ثم تلاها سنة 2005 مصادقة هذه السلطات على قانون منع السلطة الفلسطينية من القيام بأي نشاط رسمي في القدس، ويمثل "مسرح الحكواتي" نموذجاً حيّاً لهذه السياسة، إذ منعته السلطات من إقامة مهرجان أدبي لاشتباه سلطات الاحتلال بكونه تلقّى تمويلاً من السلطة الفلسطينية، وعليه فقد استضاف المركز الثقافي الفرنسي حفل افتتاح المهرجان.
إلى جانب ذلك فقد باتت مشاركة الفِرق الفلسطينية، سواءً الثقافية منها أو الفنية، في مهرجانات القدس وحفلاتها مشاركة متدنية، وهو ما يتسبب بتغيير برامج عروض كثيرة بشكل جذري، أو إلغاء مشاركة الفِرق الفلسطينية من خارج القدس، كي تتلاءم الأعمال الثقافية والفنية مع الواقع الجديد. ويمكن في هذا السياق ملاحظة ازدياد عدد الفرق الأجنبية، التي باتت تشارك في مهرجانات القدس على حساب الفِرق الفلسطينية. يعلِّق أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت خالد عودة الله، على هذا الجانب بالقول: "إنّ ما يجري في القدس هو هندسة ثقافية اجتماعية، يسعى الاستعمار بها ليس إلى تغيير صورته لدى المُستعمَر فحسب، بل إلى تغيير صورة المُستعمَر عن نفسه أيضاً، وهو ما تتضافر لأجله جهود المُستعمِر بما فيه وزارة التربية والتعليم، ووزارة الداخلية ومختلف الأذرع الأخرى"، ويضيف عودة الله: "تعيش القدس حالة مكثفة من الهندسة الاجتماعية، وما يجري ليس عملية أسرلة، بقدر ما هو محاولة لإخراج المقدسي من دائرة العداء لإسرائيل، وربطه بنظام الاحتلال الاستعماري، الذي لا يسعى لإفراغ القدس تماماً، فهو بحاجة لتواجد الحد الأدنى من المقدسيين لئلاّ يظهر مشروعه كتطهير عرقي، وعليه يضمن بعض الأخلاقية التي تعزز بدورها روايته الاستعمارية، وتوفر له في الوقت ذاته راحة الضمير". أمّا عن أواصر العلاقات بين الضفة الغربية والقدس، فيقول عودة الله: "فكّ الارتباط مع القدس هو تسهيل لهندستها، الحاجز ليس للمنع فقط، نحن ننسى الناس المسموح لهم بالدخول، لأنها حالة تأديبية لا تقل عن عملية المنع ذاتها، فهي تحويل الداخل إلى مراقب لنفسه ليحافظ على علاقة طيبة مع النظام، فإذا كان ابن عمّه مشبوهاً، يقوم بتحديد علاقته مع ابن عمه".
مرافق الحياة اليومية
لقد بات مشروع الاحتلال واضحاً، فالمرحلة الأولى منه تمّت بإغلاق الجمعيات والمؤسسات الفلسطينية في القدس، لينتقل المشروع لاحقاً إلى بناء الجدار، الذي أرهق العلاقات الاجتماعية وأفرز ديموغرافية جديدة تقوم بالأساس على الأمن الإسرائيلي، وعلى تفتيت البُنى الاجتماعية الفلسطينية، ومن ثم دفع المقدسيين (الجيدين بالتعبير الإسرائيلي) نحو الاندماج بالمؤسسة الإسرائيلية. وقد هدف هذا المسعى إلى تفتيت الهوية الثقافية للمقدسيين، وإجبارهم على ترك القدس عن طريق سحب هويات الإقامة من أكبر عدد ممكن منهم، ووضْع عراقيل عديدة أمام حياة طبيعية لهم، كملاحقتهم بضريبة الأرنونا وبغيرها من الضرائب والغرامات، ومثل تعقيد شروط الحصول على رخصة بناء أو ترميم، وعلى لمِّ شمل العائلات.
أمّا المرحلة التالية فكانت بدفع المقدسي إلى "المرافق الإسرائيلية" عبر العديد من السياسات، كفتح سوق العمل الإسرائيلي أمام المقدسيين، وتهيئة السوق الإسرائيلية ذاتها لاستيعاب المقدسيين، بحيث تتحول وجهة المقدسيين إلى السوق الإسرائيلي، هذا ما يمكن ملاحظته قبل أعياد الفطر والأضحى وعيد الميلاد، إذ تتزين المراكز التجارية الإسرائيلية، كمركز المالحة التجاري، ومركز مأمن الله، والمحال التجارية في شارع يافا، بما يلائم حاجات المستهلك المقدسي في عيده. كما أن هذه السوق ذاتها باتت تستقطب العمال المقدسيين، مع ملاحظة فروق الدخل بين العامل العربي والعامل اليهودي. ورغم ذلك، فما بين الضفة الغربية أو القدس، تصير القدس هي البيئة المفضلة للعامل المقدسي بما فيها من قرب جغرافي، وفارق مادي ملحوظ. إنّ ارتباط المقدسي بالمؤسسات الإسرائيلية، مثل البنك، والبريد، وشركة المياه، وشركة الكهرباء، ودائرة الضريبة، ومن ثم سوق العمل والمنهاج الإسرائيلي الهادف إلى إعادة التنشئة في المنظور الإسرائيلي، يشكّل اختراقاً اجتماعياً وفكرياً وانتمائياً للمقدسيين، الأمر الذي يمكن استشرافه من مختلف الشواهد الإجرائية التي اتخذتها إسرائيل مؤخراً.
يتكلّل هذا المشروع بالتجنُّس، فلم يعُد خافياً اليوم السهولة التي يتم بها تمرير طلبات التجنُّس، إذ يكفل القانون الإسرائيلي حق طلب الجنسية الإسرائيلية لسكان القدس، ليتحول المقدسي "المقيم الدائم" وفْق القانون الإسرائيلي إلى "مواطن إسرائيلي"، ولكن بالغربلة عبر ميزان الأمن والمخابرات الإسرائيليين. إن "المقيم الدائم"، وهي الوضعية القانونية للمقدسي، تعطى بوجه عام إلى المواطنين الأجانب، الذين يزورون إسرائيل ويطلبون رسمياً حق الإقامة فيها، وبالتالي فإنّ الدولة تمنح هذا الحق "كرماً" منها، بشروط بسيطة، كعدم وجود أية سوابق لأعمال تشكّل مخالفة أمنية، وإجادة متواضعة للّغة العبرية، وأمانة صاحب الطلب "للدولة"، وعليه، ووفق هذا القانون، يتحول المقدسيون إلى مواطنين بمحض الكرم والمنّة الإسرائيليَيْن.
إن كل هذه الدوائر التي تُمعن إسرائيل في رسمها، تؤكد أنها تريد من عملية السلام العملية ذاتها وليس السلام نفسه، فكسب الوقت في ظل مجتمع دولي لا يسعى لفرض القرارات الدولية، ولا لإلزام إسرائيل باحترام ومراعاة القانون الدولي، يمكن أن يفرض وقائع على الأرض تكون ورقة رابحة في أي مشروع تفاوضي قادم، وما يمكن قوله إن رسم معالم الهوية المقدسية والسعي لإفراغها من مضامينها وضخّها بالمضامين الثقافية الإسرائيلية، يعني أن إسرائيل ماضية في فكرتها حول القدس الموحدة. ومما لا شك فيه أن للمقدسيين في تجربة فلسطينيي ال48 خير مثال للحالة التي قد يكونون عليها بعد أعوام، إلا إن حالتهم رغم ذلك تبقى أكثر قسوة نظراً إلى كونهم يعيشون في المدينة المقدسة، لبّ الصراع، وبالتالي فإن الخطوات متسارعة أكثر، كما أن الصراع أكثر حدّة وخطورة، وهو ما يجب على الجميع سواءً السلطة الفلسطينية أو المجتمع الدولي، بما فيها الرباعية الدولية، أن تحرك ساكناً باتجاه تطبيق قراراتها المتعلقة بالقدس، لئلاّ يضيق الوقت بأصحابه فلا يُعرف ما يكون بعدها في ظل مناخ عربي ثوريّ، بات يفرض هواجس الثورة، والقدس ليست ببعيدة عن الخيال الجمعي للشباب العربي.
[نشر هذا المقال بالاتفاق مع "حوليات القدس"، عن المجلد 11 العدد 12، الصادرة عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية". ]