يقسم بعض علماء الاجتماع والسياسة الثورات إلى ثلاثة أصناف نمطية. الصنف الأول هو الثورات التلقائية (spontaneous revolutions)، وهي ثورات تشتعل غالباً بعد حدث يستنفر عموم الشعب على النظام الحاكم، ثم تتداعى الأحداث بين فعل ورد فعل حتى تنجح الثورة في هدفها (الأول أو الأخير حسب كل حالة) وهو إسقاط الحاكم أو النظام. الصنف الثاني هو الثورات المخطط لها (planned revolutions)، أي الثورات التي يسبقها قدر من التنظيم والتخطيط، ولا يشترط في هذا التنظيم أن يكون على قدر عال من التعقيد والسرية، بل ربما تكون الدعوات العلنية من جماعات أو أفراد لا تثير أنشطتهم أو علاقاتهم ريبة النظام أكبر فرصا في إحداث ثورة. الصنف الثالث هو صنف الثورات التي تقوم على التفاوض (negotiated revolutions). ويكون هذا التفاوض بين النظام والقوى المطالبة بالتغيير من جهة، وفيما بين هذه القوى من جهة أخرى.
والواقع أن هذه الأصناف النمطية المثالية لا توجد عادة في الواقع، بل يمكن اعتبارها مراحل غالباً ما تتداخل في كل الثورات بنسب متفاوتة. فأي ثورة يختلط فيها بعض التنظيم بقدر من التلقائية وغالباً ما تنتهي بنوع من التفاوض. فالثورة التونسية في 2010 على سبيل المثال اشتعلت على إثر حدث معين، وهو انتحار الشاب محمد البوعزيزي حرقاً احتجاجاً على قهر وفساد الدولة التي لم توفر له عيشاً كريماً بل ولم تسمح له بأن يسعي بنفسه إلى هذا العيش الكريم. وبعد هروب بن على (أو ربما قبل هروبه) بدأ التفاوض بين قوى جديدة تمثل الثورة وقوى قديمة تمثل النظام القديم، وهو ما أدى إلى مرحلة انتقالية اتسمت بقدر كبير نسبياً من الاستقرار وإن لم تقتلع النظام القديم من جذوره.
الغياب شبه الكامل للتنظيم والتخطيط في بداية الثورة التونسية يقابله بعض التخطيط في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 المصرية، حيث دعت جماعات بعينها أنصارها للتظاهر ضد الأوضاع السائدة. كانت هذه الدعوات شرارة انطلاق الثورة حيث تداعت الأحداث يوم الخامس والعشرين من يناير وصولاً إلى الثامن والعشرين من الشهر نفسه، وهو البداية الحقيقية للثورة من حيث أعداد المتظاهرين وعفويتهم والأهم تبلور احتجاجهم في مطالب محددة وهي إسقاط رأس الدولة والنظام.
جمعت الثورة المصرية على هذا الأساس بين قدر من التخطيط وقدر من التلقائية الشعبية، ومرت المرحلة الأولى من الثورة بقدر كبير نسبياً من السلاسة والسلم في بلد ذي تعداد سكاني كبير ونظام قمعي يمتلك آلة أمنية جبارة. وعند سقوط رأس النظام، بدأت المرحلة الثالثة من الثورة، وهي مرحلة التفاوض، وهنا، على وجه التحديد، بدأت الثورة المصرية في التعثر.
ولكل عملية تفاوض أركان ثلاثة. الركن الأول هو أطراف التفاوض، والثاني هو موضوع التفاوض، والثالث هو قدرة الأطراف على التفاوض في ظروف معينة وخبرتها بآليات التفاوض وسبل إنجاحه. والواقع هو أن الثورة المصرية فشلت إلى حد ما في كل ركن من أركان مرحلتها التفاوضية.
ولنبدأ بأطراف التفاوض. في الظروف المثالية لأي ثورة يكون هناك طرفان أساسيان للتفاوض. الأول يمثل النظام القديم والثاني يمثل الثورة (وسنتكلم عن تعريفها لاحقاً). الآن، وبعد عام ونصف من تنحى مبارك، فإنه يمكن القول بأن الطرف الأول، وهو النظام القديم، قد تبلور في المؤسسة العسكرية، أو المجلس الأعلى، الذي يمثل الآن ما اصطلح على تسميته بـ "الدولة العميقة"، أو شبكة المصالح المتداخلة والمعقدة التي كونت النظام القديم وسمحت بتمدده وتوغله في كل أطراف الدولة. ولكن إشكالية وضع المجلس العسكري تكمن إما في التغير الحقيقي لدروه في عملية التفاوض أو في إدراك هذا الدور من قبل الأطراف الأخرى. ففي بداية بروز المجلس العسكري إلى المشهد السياسي، قدم نفسه على أنه أحد " القوى الثورية " التي أطاحت برأس النظام وحمت الثورة، وهو ما قبله وروج له بعض التيارات المحسوبة على الثورة ولقى ارتياحاً كبيراً من الشعب. تدريجياً بدأ هذا التصنيف لدور المجلس العسكري في التغير، وانتقل المجلس العسكري من طرف الثورة إلى المنطقة الرمادية ثم أخيراً إلى ممثل النظام القديم. هذا التغير التدريجي في دور المجلس العسكري أو إدراك القوى المختلفة لهذا الدور لا يعني بالضرورة سذاجة من صنفه ضمن الطرف الثوري في بداية الأمر أو الفهم الثاقب وبعد النظر لمن صنفه كقوى مضادة للثورة منذ البداية (وهم الأقلية القليلة). فحتى وإن سلمنا بأن التصنيف المبدئي للمجلس العسكري شابه قدر كبير من التسرع ، فإننا لا يمكن أن نغفل احتمالية أن يكون إدراك المجلس العسكري نفسه للثورة ولدوره فيها قد طرأ عليه قدر كبير من التغير مع طول الفترة الإنتقالية وتصارع القوى الممثلة للثورة وعدم وجود تعريف واحد لها يتفق عليه الجميع.
وبناء على هذا فإن النظام القديم لم يوجد له ممثل في عملية التفاوض في الشهور الأولى لتنحي مبارك، بل وإن الإصرار على الإطاحة الكاملة بكل رموز هذا النظام عنت غياب أي رغبة في التفاوض (أو " عقد الصفقات " كما أطلق على التفاوض على سبيل الاستهجان ) والتي من شأنها إهانة وإهدار دم الشهداء. (وربما تكون هذه الحساسية من التفاوض ناتجة عن محاولة النظام ممثلاً في عمر سليمان نائب مبارك في الأيام الأولى للثورة تقديم بعض التنازلات في مقابل التخلي عن مطلب تنحي مبارك، وهو ما يعتقد أنه هدف إلى زرع الفتنة بين الثوار وبالتالي وأد الثورة في مهدها). ولكن مشكلة أطراف التفاوض لم تكمن فقط في غياب ممثل واضح للنظام القديم وإنما أيضا في عدم وجود ممثل واضح للثورة. فمنذ البداية تم تقسيم القوى التي قدمت نفسها على أنها ممثلة للثورة لقوى دينية إسلامية وأخرى مدنية، وهي تضم القوى الليبرالية والإشتراكية والعلمانية عموماً. هذا التقسيم استند بلا شك على دعاية النظام القديم نفسه وإن كان لا يخلو من أسس واقعية اجتماعية وثقافية واقتصادية. فأعلام التيار المدني بما فيها الأحزاب التي يفترض أن تكون على قدر كبير من التواصل مع الشارع والمجتمع (كحزب التجمع مثلاً)، افتقدت بصورة مثيرة للدهشة أي قدرة على الحشد الجماهيري المؤثر، بخلاف القوى الإسلامية صاحبة الشرعية الشعبية الأولى إما بسبب تواصلها مع الجماهير أو قدرتها التنظيمية على الحشد أو لقدرة أيديولجيتهم الدينية على الجذب الجماهيري. وبالرغم من هذا الضعف الشعبي المزري للقوى المدنية، فإنها تقدم نفسها على أنها الأجدر والأصلح لقيادة البلاد. فكثير من أعلام هذا التيار أتوا من أسر تنتمي غالباً إلى الطبقات المتوسطة والعليا وتلقوا تعليماً عالياً وتبوأوا مناصب أكاديمية مرموقة ويتمتعون بعلاقات واسعة وقوية مع العالم الغربي وقدرة على فهمه والتعامل معه. ولا تخفي بعض رموز هذا التيار إزدرائها للقيم التي تعبر عنها القوى الإسلامية وإنتماء هذه القيم إلى القرون الوسطى أو المجتمعات المتخلفة. بل ويمكن استشفاف قدر من الاستعلاء الطبقي في أحاديث وكتابات رموز هذا التيار. وعلى الجانب الآخر، فإن التيار الإسلامي ينظر لنفسه على أنه صاحب الأصالة الثقافية والفكرية والقادر على وصل الماضي بالحاضر بما لا يسمح للثاني بالطغيان على الأول أو إقصائه. ومن الطبيعي أن يصرح بعض رموز هذا التيار أو نستشف من أحاديثهم وكتاباتهم إزدرائهم للقوى المدنية والنظر لها كقوى دخيلة ، منهزمة حضارياً ، وساعية للقضاء على الهوية الإسلامية للدولة المصرية.
وبغض النظر عن مدى الدقة في هذا التصنيف فإنه قد أثر تأثيراً كارثياً على وجود ممثل للثورة. فعندما اكتسبت القوى الإسلامية الشرعية الإنتخابية، استكبرت بعض القوى المدنية عن تسليم القيادة لها وتمادت قوى أخرى في التخويف من مخططات القوى الإسلامية أو من شعاراتها الجوفاء. وقد انحاز الإعلام الخاص في مجمله للقوى المدنية وفشل في تقديم خدمة إعلامية موضوعية أو متوازنة. وكان أثر هذا الاستقطاب هو عزوف قطاعات شعبية عن المشاركة في العملية السياسية وعدم قدرة القوى السياسية بإنتماءاتها المختلفة من تمثيل الثورة كطرف متحد، خاصة مع وجود انقسامات داخل القوى المنتمية لنفس التيار- الإسلامي أو المدني.
لم توجد إذن أطراف واضحة المعالم لأطراف التفاوض، فعندما كان هناك طرف واضح ممثل للثورة بعد تنحى مبارك (وهو مجموع القوى السياسية التي استطاعت تنحية اختلافاتها الأيديولوجية والطبقية أثناء المرحلة الأولى من الثورة)، لم يكن هناك طرف يمثل النظام القديم. وعندما تبلور هذا الطرف الأخير، كان الطرف الأول قد تفكك. ولكن تفكك الطرف الثاني لم يرجع فقط للإختلافات الأيديولوجية والطبقية، ولكن يرجع أيضاً وأساساً إلى الإختلاف حول موضوع التفاوض، وهو بالأساس أهداف الثورة، بمعنى : ماذا يجب أن يحدث حتى يمكن اعتبار أن الثورة قد نجحت؟ وهذا السؤال يرتبط بتعريف الثورة وتحديد أعدائها أيضاً. فبالنسبة للبعض، فإن العدو كان مبارك نفسه وأسرته وهدف الثورة كان الإطاحة به على وجه الخصوص. وبناء على هذا فإن الثورة قد حققت أهدافها بتنحى مبارك. ربما اتضح الآن أن هذا كان فهم المجلس العسكري للثورة، ولكن لا يمكن إغفال أنه وجدت قطاعات شعبية ربما تكون عريضة قد تكون أيضاً قد اختزلت الثورة في معركة مع أسرة أو عصابة بعينها. وبالنسبة للبعض الآخر، فإن الثورة تعني وتهدف لاستبدال النظام القديم بآخر جديد، ولكن انقسم أصحاب هذا الرأي إلى فريقيين، الأول يهدف إلي ترميم النظام القديم بإجراء بعض الإصلاحات الهيكلية والقيادية، بينما هدف الثاني إلى اجتثات النظام القديم من جذوره وإرساء دعائم نظام جديد كلية. هذا الاختلاف حول كيفية التعامل مع النظام القديم كان له تأثير كبير على وسائل تحقيق الأهداف، حيث مال المؤيدون للترميم (كالإخوان المسلمون) وللحفاظ على أسس الدولة القائمة والشرعية الدستورية القائمة (مع بعض التغييرات الضرورية) إلى تجنب الآليات الصدامية والانفتاح على إمكانية عقد الصفقات مع أركان النظام القديم، بينما انتهج المؤيدون لخلع النظام القديم من جذوره نهائيا (كالاشتراكيين الثوريين وحركة 6 أبريل إلى مرحلة قريبة) إلى الوسائل التصادمية باعتبار أنها ضرورة حتمية للتخلص التام منه والتأسيس لشرعية ثورية جديدة.
بيد أنه يوجد اختلاف آخر حول فهم طبيعة الثورة وأهدافها. فهناك من يسعى لتأسيس نظام جديد تماماً في فلسفته وأفكاره وهياكله وآلياته، ومنهم من يسعى إلى استعادة نظام سابق ينظر إليه على أنه نظام مثالي تم تشويهه مع مرور الزمن. الفهم الأول ينظر للثورة على أنها عملية تقدمية، بينما ينظر الفهم الثاني لها على أنها مشروع "سلفي". وربما تكون القوى الناصرية ومؤيدو المرشح حمدين صباحي هم أهم ممثلي هذا الفهم. فدولة عبد الناصر هي الدولة الصالحة التي أفسدها نظاما السادات ومبارك، وعلى هذا يكون هدف الثورة هو إستعادة هذا النموذج المثالي الماضوي. والمثير للدهشة هو أن إستخدام مصطلح الثورة بهذا الفهم السلفي هو أقرب إلى المعنى اللغوي للمصطلح في الإنجليزية (revolution)، والذي أشار أصلاً للحركة الدائرية للأجرام السماوية في انتقالها من النقطة أ إلى النقطة ب ثم العودة إلى النقطة أ مرة أخرى. أما الفهم الأول والأكثر شيوعاً لمصطلح الثورة، فينظر إلى تطور المجتمع والدولة في خط أفقي، وهو ما يعبر عنه مصطلح "الدولة" في اللغة العربية، أي التغير من حال إلى حال جديدة.
المكون الثالث لعملية التفاوض هو قدرة الأطراف المختلفة على إدارة عملية التفاوض. وهذه القدرة تعني إدراك هذه الأطراف لآليات التفاوض وأساليبه، ومنها أن التفاوض هو عملية تهدف إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب وليس الحصول على كل شيء. ولكن ربما بسبب عدم الجدية أو الإقتناع بأهمية أو بجدوى الخيار التفاوضي أو لعدم الخبرة بآليات التفاوض وعدم وضوح الأطراف المفاوضة، فإننا لا يمكن أن نتحدث عن وجود عملية تفاوضية حقيقية على المستوى الاستراتيجي وليس التكتيكي في مصر بعد الثورة. ولكن يبقى هناك عامل آخر لابد وأن يكون قد لعب دوراً حاسماً في رغبة وقدرة الأطراف على التفاوض، والعجيب أن هذا العامل قد غاب بشكل شبه كامل عن أدبيات الثورة المصرية، أعني، العلاقات الخارجية ومصالح الدول الكبرى.
الإشارات الخفيفة للعلاقات الدولية في أدبيات الثورة ركزت بالأساس على دور مزعوم لدول خليجية في دعم إما مؤسسات النظام القديم أو لبعض القوى الإسلامية، وهدفت هذه الإشارات بالأساس إلى التشكيك في الإنتماء والولاء الوطنيين لهذه القوى. أما علاقات النظام القديم بالقوى الغربية وكون مصر جزء من منظومة مصالح وتوازنات قوى عالمية، فقد نالت قدراً مدهشاً من التجاهل أو التعمية. فالولايات المتحدة والتي كانت حاضرة بقوة في المشهد السياسي المصري، قد يبدو للمرء من متابعة أدبيات الثورة أنها إما أن تكون فقدت كل اهتمامها بمصر أو باتت غير قادرة تماماً على التأثير في المشهد السياسي. وبلاشك سوف يكشف المستقبل عن الدور الذي لعبه هذا العامل في التأثير على عملية التفاوض أو توجيه الأطراف المفاوضة أو حتى في تحديد أجندة التفاوض وأهدافه.
والخلاصة هي أنه بينما نجحت المرحلة التخطيطية للثورة والتي اتسمت بالرغم من بساطتها بقدر عال من الجدة والإبداع الذين فشلت الأجهزة الأمنية تقليدية التفكير في التعامل معها بالاهتمام والجدية اللازمين، ونجحت كذلك المرحلة التلقائية للثورة عندما انحازت جموع الشعب للخيار الثوري وتجاوبت معه، ونجحت القوات المسلحة في رفض التحالف مع رأس النظام القديم ضد الشعب، فإن فشل النخبة والقوى السياسية في التعاطي مع متطلبات المرحلة التفاوضية للثورة قد أدى إلى تعثرها وانكفائها. وبالرغم من أننا لا نستطيع في هذه المرحلة الحديث عن فشل الثورة المصرية، فإن نجاحها أو فشلها سيعتمد بالأساس على نجاح أو فشل المرحلة التفاوضية.
قد يكون من السهل والمريح أن يلقي باللوم على الشعب المصري وطبيعته المحافظة وانحيازه السريع لمن يعده بتحقيق الأمن ولو على حساب الحريات والكرامة الوطنية، أو على الدولة العميقة والمجلس العسكري وعدائهما للثورة، أو على قوى إقليمية ودولية استفادت من النظام القديم بالرغم من عدم كفائته وفساده، ولكن إذا كان من حق الشعوب أن توازن بين الخسائر والمكاسب وأن تحدد أهدافها والسبل المثلى للوصول إليها، وإذا كان من الطبيعي أن تسعى مؤسسات الدولة العميقة للحفاظ على إمتيازاتها وكذلك القوى الإقليمية والدولية للحفاظ على مصالحها، فإنه من المؤسف أن تفشل نخبة الدولة المصرية العريقة في التعامل مع استحقاقات المرحلة الإنتقالية بصورة تعظم مكاسبها وتحجم خسائرها.