[A slightly updated and edited English translation of this article is avaiable on Jadaliyya and can be found here.]
كان لافتاً غياب العراق عن خريطة "اليوم مصر، غداً العالم"(١) (نشرت بعد اسبوع من مسيرة ٢٥ كانون الثاني (يناير)) والتي ضمت مواعيد المظاهرات في عدد من البلدان العربية. وهذا الغياب لم يقتصر على التأريخ وإنما على ذكر البلد كذلك. وكأن غياب الأحتجاجات كناية عن غياب البلد برمته، وكأن العراق غير معني بما يحصل في تونس ومصر على الأخص. ويعود هذا الغياب الصارخ الى طبيعة النظام السياسي في العراق في الوقت الراهن، الذي أعتمد خطاباً طائفياً بعد سقوط صدام حسين ومأسسه. فأصبح العراق مثل لبنان وأصيب العمل السياسي بالشلل في ظل المحاصصة الطائفية. فكيف يمكن خلق مبادرة شعبية عامة عندما تكون مصطلحات: كردي، شيعي، سني، مسيحي، الخ هي الدارجة، وليس مصطلح عراقي/عراقية؟
أحد التعليقات على الفيس البوك على هذه الخريطة هو: "أين العراق؟" ورد: "هذا سؤال محزن، ولكن هناك عوامل عدة." وما يجعل هذا السؤال محزناً هو التأريخ السياسي العلماني في العراق حتى استلام صدام حسين السلطة عام ١٩٧٩. وكما هو معروف، فان نظام صدام حسين منع أي عمل سياسي علني، وصار النشاط السياسي أما سرياً (على سبيل المثال، حزب الدعوة والاحزاب الكردية)، أو خارج البلد (في انكلترا وايران وسوريا على الأخص). وكان لعودة المعارضة من المنفى مع الأحتلال الأمريكي عام ٢٠٠٣ تأثير سلبي على الحياة السياسية في العراق بسبب خطابها الطائفي وانشغالها بتوزيع المناصب، فتم تهميش الاصوات المستقلة والمعارضة لهذا التيار. فالقارئ ممكن ان يسأل "متى تحصل مثل هذه الثورة في لبنان؟" نظراً لطبيعة اللعبة السياسية هناك، وليس "أين لبنان؟" ولكن قصة العراق وتأريخه مختلفة وغيابه عن الخارطة حاضر بقوة. وبالفعل، كيف للأنسان إلا تحزن عندما تتذكر تأريخ الأحتجاجات، من ثورة العشرين، الى المظاهرات التي أدت الى إلغاء معاهدة بورتسموث وسقوط الوزارة عام ١٩٤٨، الى الانتفاضة عام ١٩٩١ في الشمال والجنوب، مثلاً؟
وأدى وضع العراق السياسي الى اعتباره خارج حيز الثورة المصرية. فالمظاهرات أخذت تسري الى البحرين، الأردن، اليمن وسوريا. كما أعلن الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، عن عدم نيته للترشح للرئاسة، وأقال الملك الأردني، عبدالله بن الحسين، الحكومة الأردنية. وظل العراق بعيداً عن هذه الأحداث حتى الخامس من شباط (فبراير)، عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي انه لا ينوي الترشح لولاية ثالثة بعد إنتهاء ولايته عام ٢٠١٤، كما وعد انه "سيعيد نصف راتبه السنوي الى خزينة الدولة العراقية، في مبادرة للتضامن مع الفقراء العراقيين."(٢) وأكد المالكي ان خطوته تأتي في سياق دعمه للديمقراطية. وطبعاً لا تصعب قراءة تداعيات الثورة المصرية في تذكر المالكي المفاجئ للديمقراطية. وفي اليوم التالي لهذا الأعلان، خرجت مظاهرات في العديد من المدن العراقية احتجاجاً على البطالة وارتفاع الأسعار والفساد.(٣) ويبدو ان مبادرة المالكي السخية بتقديم نصف راتبه الى الدولة لم تجد صدى عند العراقيين والعراقيات. وبقيت هذه المظاهرات خجولة لا تتعدى بضع مئات من الأشخاص في أحسن الأحوال في بعض المدن العراقية (سبقها مظاهرة في مدينة الديوانية في الثالث من شباط (فبراير) حيث قتل ثلاثة أشخاص برصاص الشرطة)، كما انها لقيت تغطية صحفية مقتضبة حتى في الصحافة العراقية.
ثم جاء الأعلان عن "ساحة التحرير ببغداد تستعد لمظاهرات عراقية واسعة" من قبل مواقع إلكترونية عراقية، تدعو العراقيين والعراقيات الى المشاركة في تظاهرات في ٢٥ شباط (فبراير) في ساحة التحرير في بغداد.(٤) ولهذا الأعلان أكثر من مغزى، من حيث مضمونه ومكان إقامته. فشعارات الأعلان تظهر ضيق صدر العراقيين والعراقيات بالوضع القائم والطبقة الحاكمة. ومن هذه الشعارات: "ألا يكفينا صمتاً؟؟/ ألا يكفينا صبراً؟؟/ ألا تعلمون أننا كالبعير الذي يحمل ذهباً ويأكل عاقولاً؟؟.../ الموت لديمقراطية تحول السوء الى أسوأ!!.../الموت لديقراطية الموت وقطع الرؤوس!!.../ الموت لديقراطية تغتال القلم المعارض والكلمة الناطقة بالحق!!/ الموت لديمقراطية الجدار العازل السرطاني الذي مزق جسد حبيبتي بغداد!!!" وينتهي الأعلان بمخاطبة قوات الجيش والشرطة: "وقد وجهت تلك الرسائل النداء لقوات الجيش والشرطة أن يكونوا حماة للوطن والشعب.. وأن يقف الجيش والشرطة كوقفة أخوانهم في تونس ومصر فلسنا في عصر الغوغاء والأسلحة القاتلة بل في عصر القلم والكلمة الناطقة بالحق من أجل الفقراء وأبلغوا الجميع بيوم (ثورة الغضب العراقي) من أجل التغيير والحرية والديمقراطية الصادقة، غيّروا .. غيّروا... غيّروا." ويظهر هذا الأعلان أفلاس خطاب الديمقراطية في ظل الفساد والمحسوبية والطائفية والأغتيالات والقتل والجداران العازلة والدكتاتورية.
ومن الواضح ان التطورات السياسية في تونس ومصر كانت حافزاً لكتابة الأعلان والدعوة الى المظاهرات. كما ان دعوة الجيش والشرطة للوقوف الى جانب الشعب تعكس ما حصل في تونس ويحصل في مصر. وأختيار ساحة التحرير في بغداد ينم عن تماهي كاتبي وكاتبات الأعلان مع مصر. فميدان التحرير في القاهرة صار رمزاً للنضال ووحدة الشعب، بمنأى عن الأختلافات الدينية والطبقية والجندرية والسياسية. ولكن أهمية ساحة التحرير في بغداد تتعدى التماهي مع مصر، وتستحضر تأريخ العراق. فساحة الحرية تضمن نصب الحرية للفنان العراقي جواد سليم. وكان الرئيس العراقي، عبد الكريم قاسم قد كلف سليم لبناء النصب في أعقاب ثورة ١٤ تموز (يوليو) ١٩٥٨ والتي أسقطت النظام الملكي وأنتهت النفوذ البريطاني في العراق. ويتألف نصب الحرية من ١٤ قطعة برونزية وتروي كل قطعة قصة تتعلق بتأريخ العراق. و تدور أحداث هذه القصص خلال ثلاث مراحل: ما قبل الثورة، يوم الثورة، وما بعد الثورة.(٥) فالجزء الأول يصور معاناة الانسان الكادح والظلم في العراق وبزوغ الأمل . ويتضمن الجزء الثاني السجين السياسي الذي يحاول كسر قضبان السجن والقطعة الشهيرة التي ترمز الى الجندي وتمزيقه للقيود، وهذا الجزء يشير الى ثورة ١٤ تموز (يوليو)، فيما يحكي الجزء الثالث قصة ازدهار العراق والحرية والعيش المشترك بين العرب والأكراد. فللنصب دلالات رمزية واضحة، اذ انه يرسم صور لمعاناة الانسان العراقي في سياق تأريخي عام. ولكن هذه المعاناة تنتهي بتغلب ارادة الشعب وبتلاحم الشعب العراقي مع بعضه. فمن خلال الرموز السومرية والآشورية ودجلة والفرات والنخيل والانسان العربي والكردي، يؤكد سليم على التأريخ المشترك بين العراقيين ووحدة العراق.
لذا فأختيار ساحة التحرير يحمل رسالة ذات أبعاد متعددة لا تقصر على الاسم المشابه لميدان التحرير في القاهرة. فنصب الحرية يؤكد انتماء جميع العراقيين الى العراق بغض النظر عن الاختلافات الدينية والعرقية والسياسية. كما ان موضوع النصب - انتصار ارادة الشعب وسقوط الملكية وانهاء الوجود البريطاني - يحمل دلالات مباشرة للوضع الراهن. فالعراق يرزح تحت الأحتلال الأمريكي منذ ثماني سنوات تقريباً (على الرغم من ان الانسحاب الصوري للقوات الأميركية المقاتلة)، والحكومة القائمة تتلقى اوامرها من الولايات المتحدة، والطائفية السياسية أدت الى شبه استحالة اي عمل سياسي مستقل عن الطوائف والى تشذرمه. لذا، لن تغيب مفارقة التظاهر عند نصب الحرية عن بال العراقيين والعراقيات. فبينما اُشيد النصب كتذكار لاستقلال العراق وزوال الاستعمار في الخمسينات، فالتظاهر في تلك الساحة في ذلك اليوم سيكون في ظل عراق محتل وممزق، في عراق يسوده الفساد والفقر ومستقبل مظلم. ومع ذلك، فان هذه الدعوة تشف عن رغبة في خلق حيز سياسي عراقي عام، مكرس للعراق ولشعبه، كما حصل في تونس ومصر.
وخلال اليومين الماضيين، بدأ العراق يظهر على خريطة المظاهرات، وخصوصاَّ في أعقاب الغضب الشعبي العارم في مصر بعد رفض حسني مبارك التخلي عن السلطة في خطابه يوم العاشر من شباط (فبراير). اذ شهدت بغداد مظاهرة في شارع المتنبي، وهو شارع المكتبات العريق، شارك فيها مثقون وطلاب وأساتذة جامعة ضد الفساد وسوء الخدمات العامة. ويبدو ان الخوف من حماس الجماهير بدأ يدب في السلطات العراقية، التي قامت بأغلاق أحد الجسور المؤدي الى ساحة التحرير لمنع المتظاهرين من الوصول الى الساحة من جانب الرصافة لنهر دجلة. ولكن الساحة شهدت مظاهرة، من جانب الكرخ، للمطالبة بأحترام حقوق الأنسان واطلاق سراح المعتقلين.(٦)
ولا بد ان خبر استقالة حسني مبارك اليوم قد أوقد الأمل عند العراقيين، اذ بدأت الدعوات لمظاهرات حاشدة في العراق يوم الجمعة المقبل، بدلاً من يوم ٢٥ شباط (فبراير).
فلننتظر ونرى ما الذي تخبئه ساحة تحرير العراق في الأيام القادمة!
(١): http://www.crimethinc.com/blog/2011/02/02/egypt-today-tomorrow-the-world/#map
(٢): http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast 2011/02/110205_iraq_nouri.shtml
(٣): http://www.elaph.com/Web/news/2011/2/630015.html
(٤): http://irq4all.com/ShowNews.php?id=36932
(٥) http://www.aregy.com/forums/showthread.php?t=29860
(٦): http://www.elaph.com/Web/news/2011/2/631131.html