[ألقيت هذه المداخلة في مؤتمر عقدته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في رام الله حول موضوع: منطقة ج والاغوار - الواقع والمستقبل.]
من المفيد جداً تنظيم مثل هذه الندوات المتخصصة حول مناطق أو قطاعات اقتصادية أو فئات اجتماعية محددة، طالما تمت ضمن رؤية أشمل تضع الهم الوطني والتنموي في المقدمة، قبل الاهتمام العلمي والسياسي والمالي بهذا الموضوع أو ذاك. وأشدد على هذه النقطة في المقدمة حيث أن كثرة المؤتمرات والدراسات والخطط التنموية الصادرة عن جهات خاصة وعامة ودولية، أصبحت بحد ذاتها تحدٍ تنموي، حيث تضيع البوصلة التنموية الوطنية بين تشتت جهود البحث العلمي المجرد والنظري (والاستشراقي أحيانا) من جهة، والمصالح والمقتضيات السياسية والمالية العاجلة من جهة ثانية. مثل ذلك التخبط في النقاش غير مقبول فيما يخص موضوع حيوي مثل منطقة الأغوار و أهلها الصامدين، والتي تمثل في آن واحد إحدى أكبر الكوارث التنموية الفلسطينية المعاصرة، وإحدى أهم المناطق لإطلاق جهود إنمائية استراتيجية، إذا كانت ستطلق فعلاً.
ومع أن هذه المنطقة تجسد كتلة من المصالح القومية الاقتصادية والطبيعية والأمنية، فإن احتمالات تحقيق السيادة اللازمة للاستفادة منها في إطار تنموي شامل شبه معدومة في ظل القبضة الاستيطانية الحديدية وغياب القيادة الوطنية الاقتصادية. لذلك فأننا مضطرون للتعامل مع الأمور في جزئياتها وتفرعاتها، على أمل أن يكون وضع حجرة هنا وأخرى هناك، والبناء من الأسفل إلى الأعلى سيترك أثراً تنموياً في المستقبل ويروج لنهج عملي للتعامل مع الحاضر الأصعب.
وكما أنه لم يعد من الممكن التحدث علمياً أو سياسياً حول الأغوار دون وضع الحديث في سياقه المادي والجغرافي البشري والقانوني الأوسع، فإنه أصبح أيضاً من غير المفيد محاولة تحديد الدور المحتمل للاستثمار الخاص في الأغوار، أو أي مكان آخر (بقية مناطق ج/الضفة المحتلة/الجليل/غزة)، بمعزل عن البرنامج الوطني الذي يؤطر ويوجه مثل هذا "الدور" كجزء من إستراتيجية تضع الأمن القومي، ببعده الاقتصادي، نصب عينيها. كما ستفشل مرة أخرى أية مبادرات اقتصادية جزئية ومشتتة هنا أوهناك في غياب رؤية تنموية أشمل تعكس الاحتياجات الإنسانية الفعلية والواقع التنموي الحقيقي وتتحرر من المعتقدات والنماذج الاقتصادية غير المناسبة للتعامل مع هذه الحالة الفريدة.
وبعد متابعة شخصية لما يزيد عن ثلاثين سنة من البحث في الوضع الاقتصادي الفلسطيني - في جميع مراحل البناء الاقتصادي ثم الصمود ثم البناء ثم التدمير ثم إعادة البناء حتى يومنا هذا- أستطيع أن أؤكد أنه ما دامت الجهود الفلسطينية تفتقد إلى هذه الشمولية التي تنظر إلى فلسطين كوحدة واحدة أرضاً وشعباً وإنمائياً (بغض النظر عن الأطر السياسية / التنظيمية القائمة المتباينة)، فإن هذه الجهود لن تّولد إلا المزيد من التشتت وهدر المواد والانقسام في الرأي، بدل التوجه نحو المزيد من الإجماع والوحدة والتنمية فعلاً.
وأوجه هذا التذكير ليس فقط إلى الزملاء في مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي نأمل منها توخي الحذر على ضوء تجارب غيرها من مراكز التخصص التي باتت تفتقد للاستقلالية والنهج العلمي النقدي المميز بسبب سعيها لتصبح مصدر مشورة علمية لصناع القرار الاقتصادي أو التنموي أو الدولي. وكما هو معروف أيضاً فإن المال العام المتحالف مع التمويل الخاص يتأهب هذه الأيام لاستكشاف "الحدود الأخيرة" الاستثمارية المتوفرة في الأراضي المحتلة في أريحا والأغوار. وعلى هؤلاء مسؤولية كبيرة بأن يستدركوا أن بناء "مول" و إسكان سياحي هنا أو مزرعة دجاج ومصنع حجر هناك لن تعوض عما هدرته عقود من الإهمال السياسي الرسمي والاستثماري الخاص لهذه المناطق، وعليهم التصرف هذه المرة بحزم وجرأة وسخاء وشفافية، لكسب أوسع دائرة من المشاركة الشعبية في برامجهم وجعلها ذات فائدة وطنية مستدامة.
***
وتأتي أهمية هذه الملاحظة اليوم في إطار استحضار كل تجارب الكفاح المسلح والانتفاضة والتفاوض والإدارة الذاتية وأخيراً بناء مؤسسات الدولة، حيث لم يسفر كل هذا النضال والاجتهاد إلى إنجاز هدف التحرر الوطني للشعب الفلسطيني وإحقاق حقوقه الأساسية. مقابل ذلك الفشل نشهد النجاح الهائل الذي حققه قرن من الاستيطان الاستعماري الصهيوني من الجليل حتى الأغوار، الذي أدى إلى "محو الحدود" النضالية المستقبلية بين مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني رغم تزايد الحدود والجدران الممتدة بينهم. هكذا ربما كان من الأجدر أن يكون عنوان محور هذا النقاش "دور الرأسمال الاستثماري الخاص في تنمية الأغوار والنقب"، حيث أن التحديات والفرص متشابهة في المنطقتين.
ومن جهة ثانية، حتى إذا تمكنت الجهود الفلسطينية من صياغة استراتيجية شاملة للنضال السياسي والتنمية الاقتصادية قابلة للتنفيذ ضمن الوضع الراهن، يبقى السؤال وارداً: هل من المجدي للاستثمار أن يهتم فعلاً "بالتنمية المحلية الشاملة"؟ وإذا وجد هذا الاهتمام، هل هنالك إمكانية لتحقيق فوائد متبادلة للطرفين؟ وبعد، تبقى المهمة الكبرى في إيجاد ذلك الرأسمال "الشجاع"، المستعد لخوض "معركة الاستثمار" من أجل التنمية، رغم المخاطر الكبيرة، وبتوقعات أرباح ضئيلة، وبالشراكة مع قطاع عام مقيد الصلاحيات ومنقوص السيادة، وخجول أصلاً من تحمل دور قيادي في العمل التنموي، وذلك على ضوء عقدين من تبني مناهج اقتصادية شددت على ضرورة "إطلاق آليات السوق الحر" وانحسار دور الدولة في النشاط الاقتصادي.
من الممكن إعادة صياغة السؤال على الشكل التالي: هل توجد طبقة رأسمالية فلسطينية (بورجوازية) قادرة على المشاركة، بما لديها من مال وعلم وموقع دولي، في تحالف سياسي/اقتصادي واسع بقيادة قطاع عام "وطني" مستثمر، لصالح الطبقات الكادحة الأكثر تضرراً من الاستيطان والاستعمار في مناطق منكوبة مثل الأغوار، حتى إذا تناقض ذلك مع مصالحها المالية والاستثمارية الإقليمية والدولية، بل مع مصالحها الطبقية ذاتها؟
اعتقد أن مثل هذه الشريحة النادرة نسبياً قد توجد فعلا في فلسطين رغم تشكك بعض الزملاء الخبراء بأن البرجوازية لا يمكن أن تكون "وطنية" في أية حالة وحتى في الحالة النضالية الفلسطينية. ومن مواصفات هذه الفئة أنها تلعب دوراً محورياً ليس فقط في الاستثمار في "التنمية"، بل أيضاً في استقطاب كل من الاستثمار العام الضعيف أصلاً، والمعونة الدولية الهادفة، والرأسمال المحلي المتردد. وقد يكون مشروع منطقة أريحا الصناعية نموذجاً جديداً ملموساً لمثل هذه الديمومة، لكن من المبكر التكهن بذلك.
من جهة ثانية، يجب التذكير بأن هذه الشريحة لن تنجح في جذب الاستثمار الفلسطيني "الجبان" المرتبط عضوياً ببنية التكوين المالي العربي والعالمي (وهو ليس بقليل)، إلا مقابل مكاسب اقتصادية كبيرة ومضمونة، بما في ذلك ما يمكن أن تضر المصالح الأساسية لمجتمعات وبيئة المنطقة وحقوق أهلها، الذين من المفترض أن يشكلوا الهدف الرئيسي لأي "استثمار من اجل التنمية". وفي أي حال من الأفضل الابتعاد عن مثل تلك النماذج المسماة بـ"الشراكات العامة الخاصة" في مراحل التحرر الوطني لما تحملها من مخاطر اقتصادية - جراء دورها في تمرير "الخصخصة" - وسياسية - نظراً لارتباطاتها الوثيقة مع مراكز نفوذ أميركية وأوروبية وأحياناً، إسرائيلية، معادية أو غير معنية بالتنمية أصلاً.
***
من النواحي النظرية والمفاهيمية هذا كله جيد ومشجع، لكن إذا نظرنا إلى الخريطة الرأسمالية المحلية على أرض الواقع، لن نكتشف مشاريع اقتصادية غير مألوفة أو جهود رائدة من قبل الاستثمار الفلسطيني، خاصة وأن هذه المناطق بقيت هامشية في ذهن المخطط الحكومي أو الاستثماري منذ زمن بعيد. للأسف، بعد مضي تقريباً عشرين سنة من إطلاق حملة غزة-أريحا أولاً وحلم سنغافورة الشرق وغيرها من الوعود غير المحققة للشرق الأوسط الجديد - رغم بعض الاستثناءات، فإننا لا نجد خارج مناطق (أ و ب) سوى زراعة عطشة وسياحة نائمة وصناعة متأخرة وتجارة مختنقة ومجتمعات محلية معزولة.
لا بد من التوقف هنا لحظة لاستدراك الأهمية التنموية الاستراتيجية الكبيرة لمنطقة الأغوار خاصة ومناطق ج عموماً، والتي لا تنحصر في إمكاناتها الزراعية الهائلة (والتي تستغلها المستوطنات إلى أبعد حدود) وحصة فلسطين من ثروات البحر الميت، بل تمتد إلى موقعها الحدودي وكونها بوابة فلسطين التجارية والبشرية التاريخية إلى العمق العربي، بالإضافة إلى احتمالات التطوير السياحي (التاريخي والطبيعي) والصناعي المرتبط بالزراعة والموارد الطبيعية. كل هذه العناصر مجتمعة تشكل حافزاً كبيراً للاستثمار العام والخاص، لكنه واجب علينا التساؤل: لماذا أغفلت هذه الاحتمالات طوال هذه الفترة وترك الشعب الفلسطيني في هذه المناطق ليواجه الاستيطان الزاحف وحيداً، دون من يساند صمودهم أو من يهتم بالاستثمار بمستقبلهم وبتأمين معيشة كريمة وعمل حسن؟ هل هناك تغيير في المناخ أو في الرؤية يجعل مثل هذا الاهتمام مجدياً أكثر أو مبرراً اليوم؟ أما أن جدوى الاستثمار في مناطق (أ و ب) بلغت ذروتها وبالتالي البحث جارٍ عن مناطق جديدة للتوسع الاستثماري؟ في أية حال من الضروري أن لا يتحول أي اهتمام استثماري جديد في مناطق جديدة إلى شكل من أشكال التعامل الفلسطيني مع سلام اقتصادي في مناطق ج بعد 3 سنوات من سريانه في مناطق (أ و ب).
عند البحث عن قطاعات استثمارية محتملة في المناطق البعيدة حالياً عن نفوذ السلطة والمفتوحة مبدئياً أمام رأس المال، قد نحدد عدداً لا بأس من القطاعات "الواعدة" من زراعية وتصنيع زراعي وخدمات مترافقة، وصناعات معتمدة على المصادر الطبيعية، ناهيك عن السياحة والطاقة البديلة. لم تخلُ فلسطين يوماً من احتمالات تنموية حقيقية وموارد متنوعة كانت وما زالت، كفيلة بتوليد نمو اقتصادي إذا أحسن توظيفها ورعايتها وطنياً بدلاً من مجرد "استغلالها" مالياً. وإذا افترضنا توفر الرؤية والإرادة التنموية الوطنية حقاً، وإذا أقررنا بأن هناك مجالات محتملة لاستثمارات عامة-خاصة مجدية (أو على الأقل غير خاسرة)، فمَن هم هؤلاء المستثمرين الشجعان الذين سيخوضون مثل هذه المغامرة؟ وكيف يجب التعامل معهم في إطار الإستراتيجية التنموية الوطنية العتيدة؟
إن القطاع الخاص الفلسطيني ليس جسماً متجانساً، بل يتكون من عناصر مختلفة الحجم والقوة والانتشار ويمكن تحديد أهم شرائحه كالتالي: غالبية القطاع الخاص مكونة من منشآت صغيرة أو متناهية الصغر في كافة المناطق، وليست من الحجم الاقتصادي الكافي للتحدث عن دور استثماري لها لا في الأغوار، ولا حتى في مصانعها المستهلكة والمفتقدة للتكنولوجية اللازمة لتوليد دورة من الإنتاجية المرتفعة وإعادة استثمار الأرباح في المزيد من التقدم. ومن الأهمية البالغة ألا تمحى من بنية الاقتصاد المحلي أو تهمش تلك الشريحة الرأسمالية المحلية الواسعة والصامدة، في إطار المشاريع الضخمة المفروضة من الأعلى تحت شعار "التنمية المجتمعية". بل يفترض أن تصبح هذه الحلقة الأدنى في سلم الرأسمال الفلسطيني، الهدف لأي استثمار كبير مستقبلي.
ثم هناك رأسمال محلي كبير نسبياً، أكثره في إطار شركات عائلية ناجحة وبعضها تطورت إلى شركات مساهمة عامة، كونت أصولها أساساً من خلال الوساطة التجارية والعقارية والخدماتية منذ التسعينيات، وبرز خلال العقد الماضي في وسطها شريحة "تصنيعية" مميزة توجه مبادراتها الاقتصادية والاستثمارية إلى الأسواق المحلية وجزئياً إلى أسواق التصدير القريبة أو البعيدة. وهذا المال المحلي المتراكم حذر جداً من المغامرة في استثمارات غير مضمونة خارج نطاق إقامتها المحلية المباشرة (الخليل ورام الله ونابلس خاصة) والقطاعات الاقتصادية التي اعتاد التعامل معها. ورغم حجمه المتواضع نسبياً، فإنه ليس جباناً أو تقليدياً، بل على العكس، فإنه مال جريء ومبدع ومرن ومربح، ويجب أن يشكل العامود الفقري للاستثمار الفلسطيني الخاص في إطار إعادة رسم الخريطة الاقتصادية الوطنية، حيث يعرف زقازيق "الشارع" الاستثماري والاقتصادي المحلي أفضل من غيره، وحاسته الفطرية بشأن المخاطر الاقتصادية بمثابة البوصلة في مرحلة "الاستثمار من أجل الصمود" القادمة.
وأخيراً هناك نموذج المستثمر الفلسطيني الكبير (والمتناهي الكبر) الذي راكم رأسماله في الشتات وخاصة في دول الخليج منذ عقود وأعاد جزء منه إلى الوطن (وعاد قلة من هؤلاء للإقامة في الوطن). وأسس شركات استثمارية في مختلف القطاعات، وأقام صفقات أحيانا لتقاسم "الريوع" مع السلطة وبادر أحياناً إلى المغامرة، لكن دون التخلي عن هدف الربح المعلن والفعلي. وبعض هذه الاستثمارات مجدية وأخرى غير مربحة وبعضها قد تعتبر "فاسدة"، لكن جميعها تدل على حافز ثنائي أمام مثل هؤلاء المستثمرين: إمكانية توظيف فائض رأسمالهم في فرص استثمارية "عذراء" (ما يسمى باستثمارات "الحقول الخضراء") بمخاطر متوسطة، ثم إمكانية الاستفادة من هويتهم وانتمائهم الفلسطيني كونهم "مستثمرين وطنيين" يتوقعون بعض الميز والحوافز والإعانات أمام المستثمر الأجنبي العادي، غير المعني بالتنمية.
ومن المؤكد أن لهذه الشريحة الأخيرة الدور الريادي والقيادي في تعبئة الموارد اللازمة، لكنها غير مرتاحة من السياسة الاقتصادية المتبعة تجاهها من قبل السلطة التي باتت تتقلب ولم تعد تحترم "العقد الوطني" بمحاباة السلطة السياسية للقطاع الخاص وحماية مصالحه. كما وأن هذه النواة الصلبة للقاعدة الرأسمالية الفلسطينية غير مستعدة لخوض المعركة الاستثمارية وحيدة. وطالما لم يتم ربط نشاط هذه الطبقة بالرأسمال العام والاستثمار المحلي الخاص والقاعدة الإنتاجية والتجارية المحلية لتعزيز عناصر الطلب المحلي الكلي، فإن مخاطر لجوئها إلى البحث عن الربح السريع والصفقات السرية بعيدة عن الهم التنموي، أمر وارد بسبب علاقة هذا الرأسمال الفلسطيني بالشركات الخليجية والعالمية القابضة العملاقة التي ليست مجرد تعبير عن النمط الطبيعي لحركة المال في اقتصاد عالمي "معولم" و"مأمول"، بل هي علاقة حيوية وعضوية يجب عدم التقليل من شأنها ومن آثارها المحتملة على عملية دراسة الخيارات واتخاذ القرار الاستثماري، حيث أن مصالح هذا النوع من الرأسمال لا تلتقي عادة بمصالح اقتصاد منكوب ومقيد ومقزم كالاقتصاد الفلسطيني.
***
توجه الرئيس الشهيد ياسر عرفات ذات يوم إلى نخبة من رجال المال الفلسطينيين، متسائلاً: أين روثشيلد فلسطين؟ وكان أبو عمار على حق بمطالبة الرأسمال الفلسطيني بالارتقاء إلى دوره الوطني التاريخي الطبيعي مثل ما حدث في جميع تجارب التنمية بما في ذلك أثناء مراحل التحرر الوطني. وكان محقاً بتوقعه بأنه دون المال الموظف وطنياً لا يمكن إقامة الوطن. وكان يعلم جيداً أن النموذج الاقتصادي الاشتراكي الموجه الذي امتازت الحركة الصهيونية ببنائه بتمويل البرجوازية اليهودية العالمية لصالح الطبقات الكادحة اليهودية المستوطنة، كان كفيلاً بوضع الأسس الصلبة لبناء دولة عصرية قوية.
وفي إجابتهم الشجاعة (والأسطورية) كان هؤلاء الرأسماليين على حق أيضاً عندما ردوا على القائد: نعم، لكن أين بن غوريون فلسطين؟ للمال أيضاً الحق بالمعاملة الحسنة والشفافة وبصفته شريكاً رئيسياً في مشروع بناء وطني يضم، ويجب أن يفيد، جميع الشركاء والفئات الاجتماعية والشرائح الاقتصادية المعنية. كما أنه صحيح أنه دون قيادة سياسية تتمتع بالشرعية والمصداقية والمهنية والاستقلالية، فإن مائة روتشيلد لن يكونوا كافين لإنقاذ الاقتصاد الفلسطيني وموارده الطبيعية الغالية (المعدنية والمائية والنفطية والطاقة والبشرية) من المزيد من النهب والاستنزاف والهدر.
إذا اعتبرنا أننا في هذه المداخلة اكتشفنا مجدداً "برجوازيتنا الوطنية" وأعدنا لها بعض هيبتها التي فقدتها في خضم التجارب الصعبة في الميدان، من صفقة الاتصالات لمشاكل تقلبات سوق الأوراق المالية، للجدل الدائر حول مشاريع الإسكان النموذجية وغيرها من المطبات التي اعترضت الكثير من نشاط الرأسمال الكبير في الرأي العام والسياسي، فهذا لا يعفيه عن الالتزام "بالمصلحة الوطنية" وعن السعي ليس فقط لتحقيق "المسؤولية الاجتماعية للشركات"، بل لخلق مفهوم جديد، إن لم نقل جبهة مقاومة جديدة، يمكن أن يسمى بالاستثمار من أجل الصمود والبناء.
ومثل هذه الجبهة يجب ألا تنحصر في مناطق محددة بل يمكن أن تشمل نشاطات استثمارية متكاملة، ومكملة بين دور القطاعين العام والخاص (بشرائحه الثلاثة المذكورة أعلاه)، بإشراك مستثمرين فلسطينيين من الداخل حينما يمكن ذلك، تستهدف فيما بين ما تستهدفها:
1) تقوية القاعدة الإنتاجية المحلية الزراعية والصناعية والخدمية
2) توسيع رقعة الأسواق العربية المحلية
3) توفير البنية التحتية والمرافق العامة اللازمة للإنتاج والتجارة،
4) تقوية عناصر التشبيك الاقتصادي الذاتية وتقليل الارتهان للاحتلال وللاقتصاد الإسرائيلي من خلال تقوية الروابط المالية والاستثمارية والتجارية مع العمق العربي والإقليمي.
5) أخيراً وليس آخراً، يجب أن يصب كل ذلك في تثبيت الإنسان الفلسطيني على الأرض وتعزيز مقومات صموده "المقاوم."
[والمقال الوارد هنا يعبر عن رأي الكاتب الخاص وليس بالضرورة عن آراء الأمم المتحدة التي يعمل الكاتب ضمن صفوفها. للمزيد عن رجا الخالدي اضغط هنا.]