١٨ يوما من الثورة الشعبية عندما انتفضت الجماهير المصرية لإسقاط الديكتاتور
سقط الديكتاتور مبارك بلا رجعة، وسقطت معه عصابته الحاكمة ومشروعه للتوريث، سقطت ثلاثون عاما من سياسات النهب والفساد والاستغلال والإفقار والإرهاب والتعذيب والقتل والاضطهاد والطائفية. الشعب أراد إسقاط النظام وفعلها، فبعد 18 يوما من الثورة الشعبية استطاع هذا الشعب، الذي كثيرا ما نعته أعداؤه بالجبن والخضوع، أن يسطر ملحمته ويعيد كتابة التاريخ المصري من جديد بدمائه وصموده، لقد شاهدنا في هذه الأيام بطولات أقل ما يمكن لإعطائها حقها أن تدرس كخبرة ثورية عظيمة ستلهم عن حق شعوب المنطقة والعالم كحافز على طريق الثورات الشعبية لإسقاط كل صنوف الاستبداد والديكتاتورية.
ولكن هل يمكن أن نقول أن ثورتنا قد اكتملت بإسقاط نظام مبارك السفاح؟ هل يمكن أن تقف عد هذا الحد لنجني ثمارها دون النظر لمهامنا ما بعد هذه الخطوة الجبارة؟ اعتقد أن الإجابة بـ”لا” ولكي نفكر مليا في هذا الأمر ولنستطيع أن نعيد التجييش مرة أخرى للجولات القادمة علينا أن نعيد قراءة أحداث هذه التجربة لنستخلص الدروس المستفادة لنصل للإجابة على سؤال: “ما العمل؟” بعد معركة إسقاط الديكتاتور.
مقدمات الثورة
لم تكن شرارة يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 “ابنة الحظ” أو الصدفة العمياء، فقد سبقتها مقدمات أدت ليس فقط لاندلاعها ولكن أيضا لاستمرارها واستكمال الطريق حتى توجت بالنصر بعد 18 يوما من النضال الصبور يوم 11 فبراير.
يمكننا أن نعود بالخلف عدد من السنوات لنبحث عن جذور العملية الثورية. فبعد سنوات التسعينيات العجاف انطلقت في مصر حركة قوية للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في نهاية عام 2000، حتى توجت بمظاهرات ضخمة شارك فيها مئات الآلاف في ربيع 2002 عندما حاصرت قوات الاحتلال الصهيوني ياسر عرفات في رام الله. أيضا اندلعت حركة قوية ضد الحرب على العراق المحاصر سرعان ما اشتعلت يوم احتلاله في 20 مارس 2003، وبالرغم من أن الحركة استمرت ليومين وقمعتها قوات الأمن بوحشية إلا أنها شهدت للمرة الأولى ضرورة لبروز شعارات في مواجهة العميل الذي سهل احتلال العراق والذي اكتوت الجماهير بفعل سياساته المعادية لمصالحهم طيلة 23 عاما.
أدت هذه الحركة إلى طرح أسئلة جديدة عن طبيعة النظام المصري وضرورة تغييره، وقبل أن يودع عام 2004 بأيام شهدت مصر أول مظاهرة تعلنها صراحة “لا للتمديد.. لا للتوريث” بعد تدشين حركة كفاية المطالبة بالتغيير الديمقراطي في مصر. لعبت الحركة دورا كبيرا في خلق درجة من الاهتمام بالشأن السياسي وبمعركة التغيير الديمقراطي وتنظيم مبادرات وإعادة توحيد الصفوف للوقوف بجراءة ضد مشروع النظام القائم على الاستبداد واحتكار السلطة على الرغم مما اعتراها من عيوب ونواقص أهمها عدم الارتباط بقضايا الجماهير المطلبية المباشرة، وعدم خلق جذور لها في أوساط الطبقات المتضررة، ومن ثم عدم القدرة على الارتباط بهمومها وتنظيم قطاعات فيها ولعب دور في تسييس حركتها.
شهدت حركة التغيير تراجعا حادا في بادية النصف الثاني من عام 2006 بعد تعديلات هزلية في الدستور أتاحت لمبارك فترة رئاسة خامسة في انتخابات أقرت التمديد وفتحت الباب مرة أخرى لمشروع التوريث، وهكذا انتهت تقريبا الحركة وما واكبها من تحرك للقضاة المطالبين باستقلال سلطتهم. ولكن سرعان ما تحولت الحركة النضالية إلى ملعب جديد بعد اعتصام عمال المحلة في نهاية نفس العام. وبدأت موجة جديدة من النضالات المطلبية طالب قطاعات كموظفي الضرائب العقارية والبريد والمعلمين، لتعلن عن تشكيل لجان عليا لإضرابات هذه القطاعات وأول نقابة مستقلة لموظفي العقارية.
في نهاية عام 2009 طلت مرة أخرى حركة التغيير برأسها مع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبالرغم من أن الحركة الأولى كانت ذات طبيعة شبه يسارية، إلا أن الثانية قادتها عناصر تمثل بدرجات متفاوتة الليبرالية السياسية كتعبير عن إخفاق اليسار في لعب دوره كرأس حربة في المعركة وعن تناقضات المشهد السياسي بعد أن توحش النظام وخلق شبه انقسام في الطبقة الحاكمة وممثليها السياسيين بفعل سياسات احتكار الثروة والسلطة والتي دشنها جمال مبارك ورجال الحرس الجديد بالحزب الوطني.
في منتصف 2010 لعب التشهير الكبير وتصاعد الغضب في مواجهة جريمة قتل الشاب السكندري خالد سعيد على أيدي زبانية الداخلية دورا كبيرا في فتح ملفات التعذيب والقتل العمد من قبل سفاحي النظام. وقبل ان يختتم العام شهدت مصر انتخابات تشريعية لا نظير لها في التزوير الفاضح لتأتي ببرلمان ما يزيد عن 90% من عضويته تنتمي للحزب الحاكم وبلا معارضة حقيقية لعبت دورا في فضح سياسات النظام بعد أن كان تحتل ما يزيد عن ربع عضوية المجلس في انتخابات 2005 التي أشرف عليها القضاء، ومن ثم أصبح النظام يدير بشكل علني حربا شعواء ضد الجماهير التي استماتت قطاعات منها لإيصال مرشحيها الحقيقيين. أيضا تصاعدت أحداث الطائفية في مصر التي زرعها النظام على مدار سنوات حكمه مما أدى إلى تصاعد حدة الغضب الشعبي في مواجهة النظام الحاكم الذي لعب دورا قذرا كعادته في محاولة تفريق جموع الفقراء وصرف انتباههم عن جرائمه الموجهة ضدهم بلا تفريق بين مسلم وقبطي. وكان هذه المرة رد فعل الأقباط مختلفا عما سبقه فاندلعت انتفاضة غضب ضد أحداث كنيسة العمرانية بالجيزة وتفجيرات كنيسة القديسين في الإسكندرية خلقت موجة قوية طالبت برحيل حبيب العادلي وزير الداخلية ومحاكمته على كل جرائمه.
وعلى مدار السنوات العشر في الألفية الجديدة شهدت مصر العديد من الاحتجاجات العمالية ضد سياسات الفصل والتشريد وتصفية الشركات بهروب مستثمريها، ولم تخلو منطقة واحدة من احتجاجات شعبية في مواجهة سياسات الإفقار والتهميش والتي كان أبرزها حركة سكان منطقة الدويقة بعد كارثة انهيار منازلهم وتجاهل النظام لمطالبهم وحياتهم. هكذا كان مشهد الصراع الطبقي المتصاعد في مصر بإيجاز سريع والذي لعب دورا في إطلاق ثورة الغضب التي أطاحت بنظام تعفن وزكمت رائحته الأنوف، وبالذات بعد أن أثبتت تجربة دولة صغيرة كتونس أن الثورة ونجاحها عملية ممكنة التحقق.
المشهدالسياسي
إحدى مشاكل النظام المخلوع الأساسية والتي سارعت في الإجهاز عليه أنه توحش بالقدر الذي خلق بداخل الطبقة الرأسمالية بمعناها الواسع أجنحة تضاربت مصالحها بأشكال مختلفة، فعناصره المهيمنة كأحمد عز استطاعت في غضون أعوام قليلة أن تحتكر صناعات وأسواق لم تسمح للصغار بالتواجد في سوق المنافسة وبالتالي أصبح الطريق إلى الحزب ونفوذه وترشيحاته للمجالس المحلية والتشريعية للأكثر ثروة. علاوة على زيادة أعداد الفقراء والمهمشين وبؤس حالتهم بسبب الفروق الضخمة بين أجورهم الهزيلة وموجات تسونامي الأسعار. واستمر النظام في سياسته الوحشية عبر عمليات نهب وفساد أدت لتكلفة الاقتصاد حسب أحد التقارير الدولية إلى فقدانه أكثر من 57 مليار دولار ما بين أعوام 2000 و2008 فقط، وأخيرا تم الكشف عن الثروات الطائلة للعصابة الحاكمة حتى وصلت بعض التقديرات أن ثروة عائلة مبارك وحدها تتراوح ما بين 40 و70 مليار دولار في الوقت الذي بلغت ثروة حبيب العادلي (مفترض انه خارج إطار البزينس المتعارف عليه) 12 مليار جنيه مصري. أيضا زاد التوحش على مستوى القمع البوليسي حتى بلغت الجرائم مداها بتزوير فاضح لانتخابات مجلس الشعب الأخيرة وقتل العشرات في مقار الداخلية وتدبير العادلي لتفجير كنيسة القديسين.
وكرد فعل لهذا التوحش شهد العامان المنصرمان بزوغ حركات سياسية ذات طابع شبابي تعبيرا عن غضب جيل لم يشهد منذ ولادته نظاما أو رئيسا غير الجاثم على أنفسنا لثلاثة عقود، وكتعبير عن حالة من الفراغ السياسي بفعل السياسات القمعية لحرية تكوين الأحزاب والمنظمات المدنية من جهة، وخواء أحزاب المعارضة الرسمية وبعدها أو خيانتها لحركة ومصالح الجماهير من جهة أخرى. أيضا كتعبير عن ضعف قوى اليسار في لعب دور الارتباط بقضايا الجماهير وقيادتها، ولا يستثنى من ذلك الفصائل الراديكالية منه والتي لم تتخطى بعد خانة المناضلين بالعشرات رغم تاريخها الطويل نسبيا وما تبذله من جهود لتجاوز ظروف الأحجام الصغيرة وصعوبة الارتباط بالحركة لبنائها وتوسيعها وتسييسها.
استطاعت هذه التكوينات على اختلاف توجهاتها السياسية وانتماءاتها لقضايا الجماهير أن تحلق حولها جمهورا من الشباب الغاضب غير المسيس ومرتكزات في عدد من المحافظات. وبرزت حركات مثل شباب 6 أبريل وشباب العدالة والحرية وشباب الجمعية الوطنية للتغيير، بجانب الشباب الذين انضموا لموجة الغضب بعد مقتل خالد سعيد إلى رؤوس حراب في تعبئة الحركة المناهضة للديكتاتورية والتعذيب، وبالرغم من غياب البعد الطبقي في خطاب هذه الحركات -اللهم إلا قليلا العدالة والحرية- إلا أن طبيعة هذه الحركات المنصب على إنجاز مهمة التغيير الديمقراطي بصرف النظر عن مضمون ومصدر الممارسات الديكتاتورية والقمعية، أي ضرورة توجيه السهام نحو السياسات نفسها وليس الاكتفاء بالنظام، بالرغم من ذلك استطاعت أن تجذب وتعبئ وتحشد قطاعات واسعة من الشباب لعدد من التحركات كانت بمثابة بروفات صغيرة ليوم انطلاق الشرارة.
أحداث الثورة
اعتبر نشطاء الحركة يوم 25 يناير والذي يتم الاحتفال فيه بعيد الشرطة فرصة للتظاهر ضد ممارسات هذا الجهاز القمعي الذي تحولت مقاره إلى مجرد سلخانات يتم فيها قتل المواطنين بدم بارد بعد تعذيبهم بمنتهى الوحشية.
في الحقيقة لم يكن أيا من النشطاء أنفسهم ولا النظام ولا الجماهير يستطيعون التنبؤ بمظاهرة أكبر من ألفي شخص سيطوقهم الأمن كالعادة ثم يتم فضها بأي طريقة حتى لو سالت الدماء. ولكن واضح أن انتصار الثورة في تونس قبل أيام وخلعها لديكتاتور شبيه، بجانب تأجج الغضب لعبا دورا في تواجد ما يزيد عن عشرة آلاف متظاهر –في أقل التقديرات- بميدان التحرير، ومثلهم في الإسكندرية وربما اقل في مدن قليلة أخرى. وبعد مواجهات مع الأمن قرر العادلي كعادته أن يفض المظاهرة عند منتصف الليل بشكل وحشي كي تعود الحياة صباح اليوم التالي للميدان الذي تم احتلاله للمرة الأولى منذ مظاهرات رفض احتلال العراق في 2003.
في اليومين التاليين ظلت الحركة مستمرة ولكن بشكل أصغر عند نقابتي المحامين والصحفيين بالعاصمة، ولكن كان من الواضح أن هذه المرة اختلفت عما سبقها، فالقمع دفع الشباب للدعوة ليوم أكثر حشدا وقت الخروج من الصلاة فيما سمي “جمعة الغضب” 28 يناير، بالرغم من قطع خدمات الانترنت والتليفونات المحمولة ورسائلها القصيرة تباعا.
فوجئ النظام من كل حدب وصوب بجماهير غفيرة تخرج من كل مدن مصر لتعلن بداية معركة إسقاطه. استخدمت قوات الأمن المرعوبة من حركة الجماهير الغفيرة في كل المناطق نفس السياسة القمعية من ضرب بالهراوات وإلقاء القنابل المسيلة للدموع واستخدام الرصاص المطاطي والحي، ولكن بسالة المتظاهرين استطاعت بعد معارك كبيرة على مدار عشر ساعات إلحاق هزيمة مروعة بالأمن انسحبت بعدها جميع قواته وأفراده من كل مكان، حتى رجال المرور وحراسات المنشآت كالفئران وبداية نزول وحدات ومدرعات من الجيش إلى الشوارع الرئيسية.
في نفس اليوم ظهر الديكتاتور بوجهه القبيح على الجماهير من خلال التلفاز ليلقي علينا بأولى تحفه البغيضة وهي إقالة الحكومة ولم ينس أن يتوعد كل من تسول له نفسه بالإخلال بالأمن. كانت خطبته بمثابة المحفز الأول لمظاهرات مليونية شهدها صباح السبت في مدن مصر وليمتلئ ميدان التحرير عن بكرة أبيه.
بعد خطاب مبارك مباشرة والانسحاب المهين للشرطة، لعبت الداخلية دورها القذر وفق خطة كانت معدة سلفا لترويع المواطنين، فقامت بفتح السجون وإطلاق سراح البلطجية حتى يقوموا بأعمال تخريب وسرقة ونهب وإرهاب للمواطنين، حتى يصل للناس أفكار مفادها أن غياب الشرطة التي كانت تحميهم سيجلب عليهم الخراب، علاوة على أن استمرار المظاهرات سيتسبب في تعطيل أعمالهم وتخريب حياتهم. في نفس الوقت قرر النظام إعطاء الشعب إجازة غير معلنة من العمل وفرض حظر التجوال لخلق حالة شلل أدت لندرة السلع الأساسية وارتفاع أسعارها، وأوقف عمل البنوك لعدم صرف الأجور الشهرية كسيوف يسلطها على رقاب المواطنين غير المشاركين في حركة الاحتجاجات وكمحاولة منه للضغط على ميدان التحرير لوأد الثورة بالضغط على الأهالي, ولكن كان رد الفعل الشعبي والتلقائي في الأحياء مختلفا وإن ظل التردد حيال استمرار المظاهرات واضحا، فتشكلت بشكل عفوي لجانا شعبية في كل حارة وشارع للدفاع عن الأرواح والممتلكات ومحاولة تسيير حياتهم المعيشية.
ظلت الميادين مكتظة بالمتظاهرين خصوصا ميدان التحرير بوسط العاصمة، حتى شهدت مصر يوم الثلاثاء أول فبراير مظاهرات مليونية بجميع محافظاتها، جعلت مبارك يخرج علينا بحيله الغبية مرة أخرى مساء نفس اليوم ليعلن اختياره عمر سليمان مدير المخابرات نائبا له ويعلن عدم نيته للترشح مرة ثانية للرئاسة وإجراء تعديلات دستورية سيقوم هو بالإشراف عليها خلال ما تبقى من ولايته ليتم انتقال السلطة سلميا. خالت حيلته هذه المرة على بعض من الناس اللذين لم يشاركوا في الاحتجاجات ككتل صامتة تراقب المشهد عن بعد بقدر عال من التذبذب والتردد تجاه كلا الفريقين. وبالفعل في نفس اليوم استطاع النظام أن يعبئ عددا قليلا منهم مع بعض المأجورين من البلطجية ومرتزقة الحزب الحاكم في مظاهرات تأييد لمبارك، انطلقت في اليوم التالي صوب ميدان التحرير لتحاول فض الاعتصام بالقوة في معركة دارت رحاها حتى اليوم التالي استخدم فيها المهاجمون قنابل المولوتوف والحجارة وخيول وجمال وأسلحة بيضاء، استطاع خلالها أبطال التحرير أن يلحقوا بفلول الثورة المضادة هزيمة قاسية علاوة على أسر عدد كبير منهم تم اكتشاف أن غالبية عناصرهم تعمل بوزارة الداخلية أو لحسابها.
مرة أخرى انقلب السحر على الساحر، فمبارك الذي حاول أن يستدر عطف الجماهير القابعة في منازلها لم يمهل نفسه جني ثمار ذلك فعبر طرقه الحقيرة، انقلب العالم ضده لتصبح معركة الأربعاء الثاني من فبراير بمثابة فضيحة دولية أدانها العالم أجمع وبالذات بعد أن استبسل مقاومو التحرير واكتشاف يد الأمن القذرة في الهجوم.
لم تكن أي خطة يحيكها النظام لفض الاعتصام أو محاصرته وعزله سوى دفعة جديدة وأكبر في كل مرة لصمودهم وزيادة عددهم، وبناء عليه شهدت ما أطلق عليه “جمعة الرحيل” 4 فبراير مظاهرات مليونية جديدة بعد أن تم دحر كل الخطط العبثية الوضيعة للنظام لاسترجاع هيبته وعدم انفلات الأمور أكثر من ذلك من يده.
رغم كل الضغوط الدولية والمحلية لرحيل مبارك استمر في منصبه مع إعطاء نائبه ضوءا أخضر للتفاوض مع قوى المعارضة كوسيلة جديدة لمحاولة اختطاف قيادة الحركة واستيعابها في طريق آخر غير الثورة. لم تسفر في النهاية هذه المفاوضات عن شيء يذكر بسبب أن معظم من شاركوا كانوا من الأحزاب الكارتونية التي ليس لها أي تأثير يذكر على حركة الشارع، وإصرار الإخوان المسلمين الذين شاركوا في النهاية على أنه لا تفاوض قبل رحيل مبارك.
لم يبق أمام النظام شيئا يقدمه للحركة حتى يتم إخماد نارها التي تزداد يوما عن يوم اشتعالا، خصوصا بعد أن زادت واتسعت بدخول المهنيين (أطباء، محامون، أدباء وفنانون) للميدان بالآلاف معلنين تضامنهم ومشاركتهم في الثورة، وجاءت التعزيزات من قلب العمال بعد أن عادوا لأعمالهم بدخول العديد من الشركات في إضرابات واعتصامات مفتوحة ولجوء البعض منهم للتظاهر وقطع الطرق للتعبير عن احتجاجهم على أوضاعهم كعمال بمطالب فئوية وكمواطنين بأخرى مطالبة بإسقاط النظام.
ظهر مبارك للمرة الثالثة والأخيرة في خطاب ظهر أنه مسجل بعد أن تم تسريب محتواه بالنص قبل إلقائه بوقت قليل، ليعلن بنبرة مختلفة منكسرة أكثر من سابقتها العاطفية انه سيحاسب كل من تسبب في الأحداث الأخيرة واعتذر بمكر الثعلب للشهداء وذويهم، وفي جملة تشبه التنحي بشكل مستتر أعلن تفويض نائبة للقيام بمهامه. لم تكن تلك الكلمات سوى فتيل جديد أشعل ثورة اليوم الأخير والتي بدأ فيها متظاهرون في اليوم التالي (“جمعة الزحف”، “جمعة التحدي”. “جمعة السقوط”) 11 فبراير التوجه لقصر العروبة الرئاسي، ومحاصرة التلفزيون، واستمرار محاصرة مجالس الوزراء والشعب والشوري والذي كان قد بدأ قبل يومين.
استقال مبارك غير مأسوف عليه مساء الجمعة الأخيرة ليترك رقبتنا في يد المؤسسة العسكرية ولينهي عهدا يجب محوه من ذاكرتنا بما فيه صوره واسمه من المدارس والمصالح الحكومية واللافتات والمشروعات.
أدوات النضال الثوري
لعبت وسائل الإعلام غير الرسمية وعلى رأسها قناة الجزيرة –رغم المضايقات والمصادرات والملاحقات- دورا رئيسيا في نقل الصورة الحقيقية التي كان يحاول مرارا وتكرارا النظام تزييفها عن المظاهرات والمشاركين فيها وأعدادهم وأحوال معيشتهم وصمودهم، والإعلان عن التحركات ومواعيدها وأماكنها.
وكأي ثورة كانت أدواتها التنظيمية من وحي إبداع اللحظة، فعلى مستوى الحشد والتعبئة نجح الشباب في خلق شبكات للاتصال وتجميع النشطاء وعقد الاجتماعات باستخدام الهواتف الأرضية وتنظيم أنفسهم في مجموعات بعد أن تم قطع شبكة الانترنت التي كان يتم استخدامها في إدارة شئون الحركة واتصالاتها، وتعطيل شبكة المحمول تارة والتشويش عليها في الميدان معظم الوقت.
ومن داخل الاعتصام نجحت المجموعات المشاركة المسيسة كتفا بكتف مع الأغلبية المشاركة في تشكيل مجموعات لتنظيم شئون المعيشة من مأكولات ومشروبات ونصب الخيام وتوفير أغطية للمبيت، بالإضافة لعمل متاريس على رؤوس الشوارع الرئيسية عليها نوبات حراسة بأعداد غفيرة من المشاركين تقوم بتفتيش الدخول والتأكد من أنهم من غير المندسين، خصوصا بعد هجوم البلطجية وعناصر الأمن المتخفية في زي مدني، علاوة على القيام الدوري بتنظيف الميدان وتنظيم حركة المرور خارج حدود الكردونات، بالإضافة لانتشار فرق المتطوعين من الأطباء وأطقم التمريض لتقديم الإسعافات الضرورية للمصابين.
وعلى المستوى السياسي استطاعت الحركات الشبابية (6 ابريل، عدالة وحرية، الجمعية الوطنية للتغيير، شباب الإخوان، حزب الجبهة) تشكيل ما أطلق عليه “ائتلاف شباب ثورة الغضب”، والذي لعب دورا وسط الشباب في شحذ هممهم عبر البيانات السياسية والكلمات الحماسية والأشعار والأغاني والهتافات والتحدث عبر الفضائيات معلنين تمسكهم بمطالب الثورة وعلى رأسها رحيل مبارك، علاوة على نشر أخبار الثورة وأصدائها في كل مكان عبر تجهيز إذاعة بمكبرات صوت كانت بجانب أخريين في الميدان مترامي الأطراف. أيضا ظهرت محاولات لم تكلل بالنجاح التام في تشكيل ائتلافات أخرى على مستوى القوى السياسية المشاركة في الأحداث من جانب، وعلى مستوى قوى اليسار المناضل من جانب آخر.
بالتأكيد لم تفلح 18 يوما من الثورة في تذويب الفروق بين القوى المشاركة والتي تنتمي لكافة ألوان الطيف السياسي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فإتباع سياسة الجبهة الموحدة بين قوى مشاركة في حدث جلل بهذا الشأن، للأسف لم يسفر عن نجاح عظيم بسبب فروق الأحجام بين القوى ودرجة تواجدها ومشاركتها، علاوة على عصبوية أطراف منها طلبت أن تتقلد أدوارا لا تليق بحجمها المحدود للغاية في الأحداث أو الواقع السياسي.
ماذا بعد؟
بالتأكيد يجب أن نعي أن رحيل مبارك لم يكن بالأمر السهل، نحن لم نكن في حرب ضد نظام قوي فحسب، بل في حرب ضروس ضد نفوذ ومصالح أكبر تبدأ بالحفاظ على أمن إسرائيل وضمان حركة رؤوس الأموال وتنتهي عند مصالح الإمبريالية في المنطقة والعالم. يمكننا هنا أن نفهم ضرورة تسليم الحكم للجيش قبل أن تتحول الثورة إلى حرب أهلية ربما كانت ستذهب بها لأبعاد أكثر من مجرد حكومة مدنية في إطار جمهورية برلمانية. لقد أثرت المصالح على التضحية بمبارك دون التضحية بالطبقة الحاكمة والحفاظ على نظام يحمي أمن ومصالح الإمبريالية والصهيونية.
رحل مبارك واستلم الجيش السلطة “بشكل مؤقت” حتى يتم تعديل الدستور وإجراء انتخابات نيابية جديدة. وبالرغم من أنه لم يتم الاستجابة بعد لباقي مطالب الثورة وإعلان الجيش في بيانه الرابع انه لا مساس بالاتفاقيات الدولية والإقليمية (المقصود التطبيع مع إسرائيل) واستمرار حكومة أحمد شفيق التي شكلها مبارك لتسيير الأعمال خلال ما تبقى من العام، والتأكيد على أن الجيش سيعمل على إجراء تغييرات تلبي مصالح الشعب، إلا أن الوضع ينبئ بتفجرات جديدة ستشهدها الفترة القادمة.
لقد قرر المعتصمون فض ميدان التحرير كفرصة لالتقاط الأنفاس وإعطاء الجيش مهلة لإثبات حسن نواياه وتنفيذه أجندة الشعب، وبالذات أن معظم المشاركين يعولون عليه كـ”طرف محايد” في الصراع الدائر. ربما سنحتاج في الأيام والأسابيع القليلة القادمة إلى استحضار سيناريو الثورة التونسية بعد رحيل زين العابدين بن علي، فالشعب التونسي رفض أن تكون الحكومة الجديدة بها أي عناصر من النظام القديم أو من حزب الرئيس المخلوع، والوضع عندنا أسوأ فالحكومة الجديدة لم يتم تشكيلها بعد الثورة وفرضت عليها بل شكلها الرئيس المخلوع بنفسه وكل عناصرها تنتمي بشكل أو بأخر للنظام وحزبه الحاكم علاوة على استمرار عدد لا بأس به من رموز الحكومات السابقة والمشهورين بالفساد والنهب.
أيضا لم يأت أي ذكر لإعادة تشكيل جهاز الشرطة الذي لم يكن يمارس في السابق أي أدوار سوى القمع الوحشي وسرقة المواطنين بالإكراه. فالمنتفضين الذين دحروا هذا الجهاز وهزموه في معارك راح ضحيتها المئات من القتلى والآلاف من المصابين، هل سيرتضون العودة لمعاملات الأمس من بطش وقمع، أم أنهم سيطالبون بإعادة هيكلة هذا الجهاز بحيث يلعب دوره في حماية أمن المواطنين وليس في تهديده والعصف به؟.
وعلى الرغم من أن اللجنة التي ستنظر في التعديلات الدستورية سيكون من بينها عسكري والباقي من الشخصيات المدنية “المشهود لها بالكفاءة” فعلى أي أساس سيتم اختيارهم، هل عبر حوار مع القوى التي قادت حركة الشارع أم عبر طرق النظام البائد؟.
وماذا عن مستقبل المجالس التي جاءت عبر تزوير لإرادة الشعب، هل هي التي ستقر التعديلات الدستورية الجديدة، وماذا عن قانون الطورائ والمحاكم الاستثنائية ومحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ماذا عن حق تكوين الأحزاب والمنظمات المدنية والنقابات المستقلة، من سيقرر إنهاء هذا الوضع الإرهابي للمعارضين، ومتى؟.
لقد دخلنا العملية الثورة بمعناها الكبير بدءا من يوم 25 يناير، ولكن المعركة ما زالت مستمرة فباقي قائمة المطالب لم تنفذ بعد، وسندخل معارك أخرى على مستوى المطالب الاجتماعية والاقتصادية المباشرة، ففي النهاية -ورغم أهميته القصوى- التغيير الديمقراطي وحده غير كاف.. فهو لا يرفع أجورا ويخفض أسعارا، لا يؤمن مسكن وملبس ومأكل وعلاج آدميين. باب الثورة فتح على مصراعيه والناس عرفت طريق التغيير وستتعلم من خبرتها وتطورها، وستزل مرة أخرى للشارع إذا اقتضى الأمر ذلك. بالتأكيد سيكون الجمهور مختلفا تقريبا في معظم المرات، فالنضال من أجل حد أدنى للأجور أو عقود عمل تضمن استقرارا للعامل سيكون الجمهور المتقدم بها من عمال الشركات والمصانع، ولتعديل قانون النقابات المهنية سيكون الجمهور من المحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين، وسيشارك الجياع في مظاهرات ضد ارتفاع الأسعار والبطالة.. وهكذا في كل معركة.
لقد انتصرت الثورة، هذا صحيح، ولكن في جولتها الأولى فقط، كانت الأهم بالتأكيد، ولكن الجولات القادمة لا تقل أهمية من حيث اكتمال عملية التغيير وإلا فسوف يتم اختطاف الثورة وتفريغها من مضمونها وأهدافها التي قامت من أجلها، وهي إنهاء حكم العسكر واستبداد السلطة واحتكار الثروة لصالح أقلية محدودة في مواجهة جماهير غفيرة محرومة من كل شيء وتدفع الثمن في كل مرة، وبالتالي على القوى السياسية التي لعبت أدوارا قيادية في الثورة والأشكال الجبهوية التي خلقتها ضرورة المعركة أن تعي الدرس جيدا وتلعب دورها القيادي المنوط بها في فضح أي التفافات حول مطالب الثورة المشروعة وإعادة حشد جمهرة الغاضبين مرات أخرى لخوض جولات جديدة لاستكمال تنفيذ باقي المطالب. لا يمكننا التراجع بعد قدر المكاسب الكبير الذي حققناه وإلا فسوف نكون مجرد خونة لمصالح شعب صنع بنفسه ثورة أقل ما توصف به أنها ملهمة وتاريخية.