السحلية السوداء
الأشياء هنا لا تتكرر بسهولة
على مدار يومين
كل من قابلتهم كان لمرة واحدة:
سائق المترو، صاحبة البيت،
مندوبة مكتب تأجير السيارات،
إلا تلك السحلية السوداء.
فى حديقة البيت
أنزوي بركن بعيد كي أدخن
فحرائق كاليفورنيا تنتظر أي شرارة قادمة من الشرق
أقف فى تلك المنطقة المهجورة من الحديقة
أرى تلك السحلية تنسحب بهدوء لتترك لي مكانها المفضل
فى المرة الثانية رأيتها تطل من إناء خزفي
كنت أخزن به رماد سجائري
يبدو أنني قد استعرت بيتها
في صباح يوم آخر وجدت نسيج عنكبوت يغطي سطح الإناء
وذرات من الرماد عالقة به
أصبح لي صديق مقدس فى هذا البيت
بينما أنا مطارد فى هجرة داخلية
ربما فى المرة القادمة
سأوطد علاقتي بهذه السحلية
ونجلس لندخن سوية داخل هذا الكهف الآمن.
وفى نهاية فترة إقامتي
سأغادر وأنا ممتن بأن هناك من تعلم منى شيئا.
نصب تذكاري
فى شارع هوليوود
مئات السائحين يأخذون صورا
مع التمثال الشمعي لمارلين مونرو
يميلون برؤوسهم من كتفيها العاريين
ثم يمضون لنجم آخر
مئات العدسات مفتوحة على هذا الرصيف المزدحم بالنجوم
حتما سأكون موجودا فى عشرات الصور
عندما يعودون لبلادهم
ويستعيدون ذكريات الرحلة
ربما لن يلفت وجهي نظرهم وسط عشرات الوجوه الأخرى
ولكن أمام كل عدسة مفتوحة
كنت أفكر بأن صورتي
سترحل إلى أماكن أخرى عديدة
بلا اسم أو صفات أو حتى إشارة بسيطة للبلد التى جئت منها
كنصب تذكاري لجندي مجهول.
مدفأة هاينريش بول
فى كل بيت من بيوت القرية
هناك رصيد وافر من أخشاب المدافىء
يصفونها بعيدا فى أطراف الحديقة على شكل دائرة
كابن منبوذ
كي لا يجعلوا ثلوج العام القادم
تمر من تحت أبصارهم فى الرواح والمجىء.
الدفء الذى يكدسونه لشتاءات قادمة
كخيمة من الحكايات.
ستظل هذه الدوائر
تذكرني بالثلج الذى لن أكون حاضرا فى شرف استقباله
أمام كل كومة من الخشب كومة بيضاء من الثلج،
من الذكريات التي تعيش تحت جليد البحيرات
فى كل بيت من بيوت القرية ذكرى لشتاء غائب.
القرية التى عاش فيها الروائي الألمانى هاينريش بول سنواته الأخيرة.
فى بيته الريفي،
وبجوار مدفأته الحجرية،
التى حدق في نيرانها كثيرا وهو يترجل بين الحروب ويكتب؛
جلست منكمشا بين دفتى إحدى رواياته،
كانت هناك عين دامعة تطاردني
كسحابة تبحث عن أرض شقيقة.
منتجع مرهف للموت
في بداية علاقتنا
كنا نختلس بعض الأحضان والقبلات الحارة
أثناء زيارتنا الأسبوعية للمقابر الرومانية.
فى طريقنا، نطوى بأطراف أعيننا
بعض المشاهد الحزينة لسكان الحي.
بيوت الصفيح، الأطفال العراة،
والدجاج الذى ينبش بلا طائل فى التراب.
كنت أحضنها حضنا فى صلابة هذا الموت الروماني،
كأننا نحضن بعضنا، فرحين،
بعد البعث فى الآخرة.
واحدا، واحدا،
نقيس أجسامنا بحجم تابوت فارغ.
نطوي الحواف حتى نتطابق مع مقاس قديم للموت.
يلتحم جسمانا
كمقبرة مكشوفة للسماء.
كنا بعيدين عن سطح الأرض،
مائة درجة من الرخام المصقول.
نستريح على نفس المصاطب الحجرية
التى كان يجلس عليها أهل الميت، فى الأعياد،
يأكلون البصل،
وينتظرون لقاءه.
كانت المقبرة عبارة عن منتجع مرهف للموت.
تجاويف مربعة فى الحائط
كمربع الكلمات المتقاطعة فى جريدة يومية
كل مربع يسكنه الظلام
بعد أن غادرته التوابيت
فى دورة جديدة للبعث.
كوسادة مريحة، كانت المقبرة،
للقاء الحب والموت
فى حلم واحد.
أتذكر غرفة الدفن البعيدة
المهملة عن زيارات السائحين
والتى خصصناها لاختلاس تلك اللحظات من المتعة الدنيوية
أتذكر كرة من الأسمنت،
استقرت فوق سطح من المياه الجوفية
وانعكست داخله
" كقمر على مستنقع"،
كقمر يحرس ليلا أبديا
ومن حولنا دوائر من البيوت
يظللها قمر شعبى
لا يحرس شيئا
سوى أحبال الغسيل.
مظلة
من اختار هذا النوع من القماش
ليكون رداء للموتى،
وهم فى طريقهم لاعتلاء منصة الآخرة؛
ربما ربط بحدس فني
بين هذه النقوش المتناهية فى الصغر وبين عالم البعث
بين لون الكفن الرمادي الداكن وصمت فناءات القبور
مازلت أشعر بجزع عميق عند رؤيتها
فى أى محل لبيع الأكفان
أو فى عربات تكريم الإنسان
نقوش صغيرة لها شكل الطيور
يوما ما ستغادر أكفان الموتى
لتحلق بعيدا
كمظلة من ملايين الأسراب المجنحة.
حزن الحدائق العامة
الحدائق العامة فى برلين مصيدة للوحدة
يمر جامعو الزجاجات الفارغة
يلتقطونها بأصابع سارق خجول
من جوف الصناديق المعدنية
العشرات من كبار السن يسيرون على النهج الدائري للحديقة،
يرسمون خطوط التماس مع أعداء يوميين
كل منهم يحدق فى صندوق مظلم
وآخرون أصغر سنا يسلون وحدتهم بجرعات متتالية من زجاجة بيرة
كادت أن تختنق فى أيديهم
من قوة إحكام القبض على عنقها،
كزوجة خائنة،
كقشة خلاص.
ثلاث سيدات محجبات اتخذن ركنا قصيا
يجلسن صفا واحدا
كأنهن فى عزاء
أو جمعتهن صدفة مقعد مشترك فى مترو ليلي
لايتبادلن إلا كلمات قليلة من القاموس العاطل
يعبر المترو حاجز الصمت لفضاء مرتبك
أسراب من الحمام تحط على عقارب ساعة الكنيسة
الحمام يسرع هذا الزمن الرملي
الذى يتسرب من بين أيدينا
كعملات صغيرة تتدحرج فى صحراء.
المطر سهل فى برلين
ربما أسهل من حزن الحدائق العامة.
خريطة للعالم
أثناء بنائه لحياته
نسي وبنى متاهة.
يقف أمام الخرائط ولهانا،
أمام تلك الباقة اليانعة من المسارات المتشابكة.
يريد أن يرى جسده وأفكاره
كبلد مستقل،
له حدود يتوقف عندها الألم،
أن يضع سبابته عند نقطة مضيئة
على خريطة حياته ويقول:
" هنا نهاية رحلتي".
بدون أن يركب طائرة،
أو يقتفى أثرا ضائعا فى الصحراء،
صادفته فى رحلته حدود شائكة،
ونبتت على جسده قطعان من الصبارات.
مسارات تتوالد من الفكر الشقي
وتتمدد فى صحراء أخوية
تتنقل معه من البيت، للشارع، للمقهى
لحانوت الصور والخرائط القديمة،
حيث يقضي جل ليله يلمس بأنامل صراف
هذا الضوء الخافت المنبعث من تلك الوجوه الناحلة
والمسارات المتعرجة.
من البيت، للشارع،
لحانوت الصور والخرائط القديمة،
لكرسي المقهى فى الزاوية المعتمة؛
المسار الحزين لسنوات تطايرت بدون جلبة
ككومة من هشيم.
أصبح جسده باقة من المسارات الحزينة
التي تسكن عينيه
فتختلط عليه الشوارع
عندها يصبح البيت بلدا بعيدا
يصعب الوصول إليه.
استبدل بخريطة العالم الحب والعائلة،
العالم الذى لم يره إلا على شاشات التليفزيون.
قربان
محبتكِ لي
كرغيف ساخن
على طاولة العشاء
كمساء صاف بلا أضرحة
كليل طويل
يقتسمه الناس بعدل
كوردة ضالة تتفتح فى البرد.
طابور شرف الأخطاء
أصبحت إخصائيا فى تتبع عاداتي.
أحب الفاكهة النيئة ذات القشرة الصلدة،
القميص بعد أن يُغسل عدة مرات حتى يتعتق كزجاجة نبيذ،
الزوايا الخجولة،
الخبز الناشف،
وجبة الجبنة والبطيخ.
أخجل من الحذاء الجديد،
من الفاكهة الناضجة التى تذوب فى الفم بحياء مصطنع،
من صالات الإفطار المكتظة فى فنادق الخمس نجوم،
من الليل الذى أخلفه ورائي وأنا فى طريقى إلى النوم.
أحب المقاعد الخشبية
فى عربات الدرجة الثانية فى ترام طفولتي
الترام الأخير الذى ينعس فيه العمال
الليل الذى يسبقني فى الخطى
وأنا من ورائه أعد حبات العنب.
ربما فى النهاية
تتجمع كل الأشياء التى أخطأتها
يصطفون جميعا
فى طابور شرف طويل
وأنا أمر بينهم
وفى عينى نظرة اعتذار.
[تنشر جدلية هذه المجموعة من القصائد بالاتفاق مع الشاعر وهي من ديوان "تحت شمس ذاكرة أخرى" لعلاء خالد الصادر عن دار شرقيات،2012.]