[“كتب” هي سلسلة جديدة على صفحات “جدلية” نستضيف فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب. وباكورة السلسلة حوار مع الشاعر والباحث الفلسطيني زكريا محمد.]
“ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الحمس والطلس والحلة”
زكريا محمد
(عمان، الدار الأهلية، ٢٠١٢)
- كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
- الكتاب الجديد متابعة لكتابي السابقين عن ديانة العرب قبل الإسلام: “عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية” و”ذات النحيين: الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة”. الكتاب الأول ركز على أسس هذه الديانة، وعلى علاقتها بديانات المنطقة. الكتاب الثاني كان حفراً في هذه الديانة من مدخل محدد هو: الأمثال الجاهلية. أي دراسة ديانة العرب قبل الإسلام من خلال الأمثال. فالأمثال متحجرات طقسية ميثولوجية. أما هذا الكتاب، فيدرس ديانة مكة من خلال طوائفها الدينية الثلاث: الحُمْس، الطُّلْس، والحِلّة. ولعله بهذا يكون أول كتاب يخصص لهذه الطوائف في المكتبة العربية الحديثة.
وقد جرى الحديث عن ديانة مكة، أو عن ديانة العرب قبل الإسلام، مع تجاهل شبه تام الطوائف الثلاث، أو في أفضل الحالات، مع مسها عرضاً. لكن يمكن القول الآن، وبحسم، إنه لا حديث جدياً عن هذه الديانة من دون أن تكون هذه الطوائف جوهر الحديث. ليس ثمة ديانة جاهلية من دون هذه الطوائف. فهي التجسيد العملي لهذه الديانة. الطوائف الثلاث هي مركز هذه الديانة وتجسيدها. بالتالي، فتجاهلها، أو مسها مساً خفيفا فقط، لن ينشئ وعياً جدياً بديانة العرب قبل الإسلام.
أكثر من ذلك، فنحن لن نتمكن من فهم الإسلام وبداياته من دون فهم هذه الطوائف. فهو قد نشأ بينها، وكانت حياته جدالاً معها، اختلافاً واتفاقاً. كما أنه كان في وسط تنافراتها واختلافاتها. عليه، فما لم نفهم مذهب الرسول في الجاهلية، مثلا، أي ما لم نعرف الطائفة التي انتمى إليها وانتمت إليها عشيرته الأقربون، فلمن نفهم الإسلام كذلك. إذ يفترض أن هذه الطائفة هي التي نبتت نبتة الإسلام على أرضها. وتجمع المصادر العربية على أن هذه الأرض أرض حمسية. أي تجمع على أن الرسول وعشيرته الأقربين كانوا على مذهب الحمس في الجاهلية. لكن الكتاب يتوصل إلى عكس هذا تماماً. أي يتوصل إلى أن الرسول كان حلياً، وكانت عشيرته الأقربون حلية المذهب مثله. وهذا يعني أن الإسلام نشأ في بيئة حِلّية، لا حمسية. وهو ما يعني أيضاً أن لهذا المذهب على وجه الخصوص تعلقات بالإسلام وبهويته.
- ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
- يمكن لي أن أقول إن المشكلة الأكبر التي واجهتني تتعلق بعدم وجود بحوث جدية سابقة عن الطوائف المكية الثلاث لكي أستند إليها. بالتالي، فقد كنت كمن أدخل الغابة لأول مرة. ليس ثمة طرق وممرات فتحها أناس من قبلي كي أبدأ منها. لذا كنت أتحسس طرقي تحسساً. وزاد من صعوبة الأمر انه لم يكن هناك أحد كي أناقشه في ما أتوصل إليه كي أتثبت منه. كنت أعمل وحدي إلى حد مخيف. ولولا صديقي زهير أبو شايب لقلت إنه لم يكن هناك احد كي أبوح له باستنتاجاتي.
بالطبع، علي أن أقول إن المصادر الحديثة، العربية وغير العربية، التي تمر عرضاً على طوائف مكة الثلاث تردد ما تقوله المصادر العربية، التي كثيراً ما تكون خاطئة. بالتالي، فقد كان جدالي ضد مسلمات المصادر العربية غالباً، وضد بعض أفكار بعض الباحثين الغربيين جزئياً.
- ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
- ثمة عدد من الأطروحات التي توصل إليها الكتاب:
أولاً: أن الطوائف الثلاث (الحمس، الطلس، الحلة) هم عبدة الثالوث المكّي (اللات، العزى، مناة) وبالترتيب ذاته. يعني: الحمس هم عبدة اللات، والطلس عبدة العزى، والحلة عبدة مناة.
ثانياً: أن انقسام قريش إلى قريش البطاح وقرش الظواهر هو انقسام ديني. فقريش البطاح هم عبده الإله الذكر في وجهيه الصيفي والشتوي، أي اللات ومناة، أما قريش الظواهر فهم عبدة الإلهة العزى.
ثالثاً: أن رحلة الشتاء والصيف الجاهلية كانت رحلة دينية رمزية بين وجهي الإله الذكر- اللات ومناة- وأنها كانت تنفذ من خلال الطواف بين الصفا والمروة. فالصفا تمثيل للصيف والمروة تمثيل للشتاء.
رابعاً: أن الرسول كان على مذهب الحلة في جاهليته، وأن عشيرته الأقربين كانوا من الحلة أيضاً. وهذا يعاكس القناعة الراسخة عند المصادر العربية التي تقول أن الرسول كان حمسياً. هذه القناعة تنطلق من فرضية تقول أن قريشاً كلها حمس. وهذا غير صحيح بالمرة، فقريش القبيلة ضمت الطوائف الثلاث. أي كان فيها حمس وطلس وحلة. أما بنو عبد المطلب وبنو هاشم فقد كانوا حلة.
خامساً: وهذا يعني أن الإسلام نشأ في بيئة حِلّية، لا حمسية. وهو ما يعني أيضاً أن لهذا المذهب على وجه الخصوص تعلقات بالإسلام وبهويته.
سادساً: أنه كان للجاهلية حجان لا حج واحد. حج صيفي هو حج الحمس، وحج خريفي- شتوي هو حج الحلة، وأن الإسلام وحد الحجين في حج واحد، وخلط شعائر الحجين في هذا الحج. مثلاً كان الحمس يفيضون في حجهم الصفي من المزدلفة التي تعتبر من داخل الحرم المكي، في حين كان الحلة يفيضون في حجهم الشتوي من عرفة الذي يعتبر خارج الحرم. أما الحج الإسلامي، فجمع المفيضين معاً. إذ يفيض المسلمون من عرفة ثم من المزدلفة.
سابعاً: أن جهد الإسلام في السنتين الأخيرتين من حياة الرسول تركز على إتمام المصالحة بين الحمس والحلة، وعلى توحيد شعائرهما، وخاصة شعائر الحج.
ثامناً: أن الإسلام ألغى النسيئة، أي تلك العملية الحسابية التي تتم من خلالها معادلة السنة الشمسية بالقمرية، كي يوحد بين الحمس والحلة.
تاسعاً: أن الإسلام أحدث تغييراً في أشهر الحج،. فأشهر الحج الجاهلية كانت أربعة؛ واحد يقع في الصيف وهو (رجب مضر)، وثلاثة متتابعة تقع بين الخريف والشتاء، وهي: شوال، ذو القعدة، ذو الحجة، أي الأشهر الثلاثة الخيرة في الأسنة. وقد أزال الإسلام شهر شوال من هذه الأشهر الثلاثة، وأحل محله الشهر الأول من السنة التالية، أي (صفر) الذي صار اسمه (محرم). والسبب أن الحلة كانت تبيح الصيد في شهر شوال (رجب ربيعة). بالتالي، فقد سمح لها بالصيد فيه، لكن بعد أن اخرج من الشهور الحرم.
عاشراً: أن (أولاد نزار) الأربعة (الصريحان: مضر وربيعة، وغير الصريحين: إياد وأنمار) هم ممثلو الفصول الأربعة. فالصريحان هما الصيف والشتاء، أما إياد وأنمار فهما الربيع والخريف. أي أن قصة أولاد نزار تتحدث عن انقسام القبائل العربية بين الآلهة الثلاثة (اللات والعزى ومناة) فاللات والعزى هما الصيف والشتاء، والعزى هي ممثلة الاعتدالين الربيعي والخريفي.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية؟
- أظن أن هذا الكتاب أكمل البرهنة على فرضيتي الرئيسية حول ديانة العرب قبل الإسلام، باعتبارها ديانة منظمة، عقلانية، وذات نسق، وليست فوضى آلهة وأصنام. وفي اعتقادي أنه لن يكون بالإمكان الحديث عن ديانة العرب قبل الإسلام بالطريقة ذاتها بعد هذا الكتاب. ربما ستحتاج أفكار الكتاب إلى زمن كي تستوعب وتنتشر، لكن هذا الكتاب غير المدخل إلى ديانة العرب قبل الإسلام. وحين فعل ذلك، فقد وضع الأساس لفهم مختلف لبدايات الإسلام. يعني: اعتقد أن الكتاب سيؤثر بقوة، مستقبلا، على دراسة الإسلام المبكر.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
- الكتاب موجه إلى جمهور المثقفين والمهتمين بديانة العرب قبل الإسلام. لكنه موجه بالدرجة الأولى نحو الأجيال الجديدة من الباحثين، الذين يأتون من خارج ما يسمى ب “الحقل”. وأقول “ما يسمى بالحقل” لأنه لا يوجد عندنا حقل لدراسة ديانة العرب قبل الإسلام. فهذا الحقل مسرح لتلامذة يكررون ما يقوله الباحثون الغربيون، لا غير.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
- كتابي هذا ليس تاريخاً، رغم أن فيه أحياناً شيء من التاريخ. إنه أقرب إلى أن يكون دراسة ميثولوجية- دينية. أي انه دراسة في عقائد العرب قبل الإسلام، وطقوسهم وأساطيرهم.
- ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
- لدي مشاريع كثيرة. فقد انفتح لي عالم يمكن أن أتجول فيه عمراً آخر. لكن ما بدأت بإنجازه فعلا إنما هو:
أولاً: كتاب يمكن أن أسميه “كتاب الطقوس الثلاثة: طقس الذبيح، طقس سرقة غزال الكعبة وتقطيعه، ولعبة الميسر”. وقد تحدثت في الكتاب السابق عن “طقس الذبيح”، لكنني أنوي التوسع فيه. أما “طقس غزال الكعبة” فهو واحد من أشد طقوس ما قبل الإسلام روعة وإبهاماً. فهو طقس كانت تشارك فيه مكة كلها، وهو يتحدث، في نهاية الأمر، عن انقسام الكون على خبز وخمر، جسد ودم، صيف وشتاء. أما لعبة الميسر فليست مجرد لعبة، بل هي نتاج لطقس الذبيح في ما يبدو. وقد توصلت في أعتقد إلى فك ألغازها. يعني: يمكنني الآن أن اشرح كيف كانت هذه اللعبة الملغزة تجري وتدار.
ثانياً: كتاب عن "برج أريحا". وهو برج من العصر الحجري عثر عليه في تل السلطان- أريحا العصر الحجري. وهو أول برج في التاريخ يعثر عليه حتى الآن. وهناك من يصفه بأنه أول ناطحة سحاب في العالم. الغرض من هذا البرج ما زال موضع جدال. فهو إما جزء من نظام دفاعي، أو أداة لدرء الفيضان، أو منشأة طقسية- دينية. أما فهدفي أن أثبت في هذا الكتاب أنه لم يحصل انقطاع في ديانة المنطقة بين ديانة العصر الحجري حتى ما قبل الإسلام. فكلها ديانات تدور حول الماء العذب وحركته في الكون.
***
فصل من كتاب “ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الحمس والطلس والحلة”:
رحلة الشتاء والصيف
وردت الإشارة، المختصرة بشدة، إلى رحلة الشتاء والصيف سورة واحدة من القرآن هي سورة قريش: (لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (سورة قريش). وهي تسمى رحلة الإيلاف أيضاً. وقد ورد ذكرها بهذا الاسم، وبشكل أشد اختصاراً، في شعر جاهلي سبق الإسلام، منسوب لمطرود الخزاعي، يمدح فيه عبد المطلب وآل عبد مناف:
المنعمين إذا النجوم تغيرت
والظاعنين لرحلة الإيلاف
والتفسير الشائع أن رحلة الإيلاف هذه هي رحلة مكة التجارية شتاء وصيفاً، سواء إلى الشام، أو إلى الشام واليمن (ولإيلاف قريش إلفهم الخروج إلى الشام في تجارتهم، وكانت لهم خرجتان؛ خرجة في الشتاء، وخرجة في الصيف) (سيرة ابن هشام). هنا يفترض ابن كثير أن الرحلتين شاميتان. لكن آخرين يرون غير ذلك: (فألفوا الرحلتين في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق، وفي الصيف إلى الشام) (البلاذري، أنساب الأشراف).
ويفترض أن هذه الرحلة تمأسست منذ أيام هاشم بن عبد مناف. وعند أصحاب هذا التفسير فالإيلاف في السورة هو عهود الأمان وكتبه التي أخذها هاشم، أو هاشم وإخوته، أو هاشم وأولاده، من القبائل والكيانات السياسية التي كانت تمر بها تجارة قريش إلى الشام واليمن: (الإيلاف: كتاب أمان يؤمنهم بغير حلف) (أبو هلال العسكري، الأوائل). يزيد اليعقوبي (وانصرف هاشم، فجعل كلما مر بحي من العرب أخذ من أشرافهم الإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم) (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي). يضيف البلاذري: (وكان هاشم بن عبد مناف صاحب إيلاف قريش الرحلتين، وأول من سنهما. وذلك أنه أخذ لهم عصماً من ملوك الشام، فتجروا آمنين. ثم إن أخاه عبد شمس أخذ لهم عصما من صاحب الحبشة، وإليه كان متجره. وأخذ لهم المطلب بن عبد مناف عصما من ملوك اليمن. وأخذ بهم نوفل بن عبد مناف عصما من ملوك العراق. فألفوا الرحلتين في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق، وفي الصيف إلى الشام) (البلاذري، أنساب الأشراف).
والأمن الذي وفره الإيلاف هو الذي تتحدث عنه السورة: (وآمنهم من خوف). وهو لم يكن متوفراً لغير أهل قريش الذين: (كانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم) (القرطبي، تفسير القرطبي).
هذا، إذن، هو التفسير السائد عن رحلة الشتاء والصيف: ثمة تجارة مكية فصلية، وثم عهود أمان محلية وإقليمية لحمايتها، هي التي حققت الأمن لقريش وتجارتها.
لكن يجب القول إن هذا هو التفسير السائد، لكن ليس الوحيد المطروح قديماً. وسوف نعرض للتفسيرات الأخرى في سياق مبحثنا.
على كل حال، نحن ننوي، وبمساعدة المصادر العربية ذاتها، أن نتحدى هذا السائد، وأن نثبت، أو أن نطرح بقوة على الأقل، أن رحلة الشتاء والصيف القرآنية رحلة دينية رمزية، لا علاقة لها بتجارة مكة مطلقاً. بالطبع، هذا لا يعني أننا نريد نفي وجود رحلات تجارية مكية فصلية إلى الشام أو إلى اليمن. فقد كانت هناك رحلات مثل هذه بالتأكيد. إذ نحن نعلم من سيرة الرسول أنه كانت هناك على الأقل رحلات شامية، شارك في بعضها الرسول ليتجر لخديجة. كما نعلم من سيرة غزواته أنه اعترض، وهو في المدينة، قوافل قريش القادمة من الشام. غير أن ما ننوي أن نقوله هو أن سورة قريش لا تشير إلى هذه الرحلات التجارية، بل إلى رحلة دينية رمزية.
رحلة واحدة لا رحلتان
تتركز التفسيرات المتعددة لرحلة الإيلاف حول كلمتين اثنتين في سورة قريش: الإيلاف، الأمن، يضاف إليهما كلمة (التخطّف) التي لم ترد في السورة، بل وردت في سور أخرى، واعتبر المفسرون أن لها علاقة بالرحلتين، كما رأينا في مقتطف القرطبي أعلاه. وعلى فهم هذه الكلمات الثلاث يتوقف، في ما نعتقد، معنى الرحلة وتحديد طابعها. فنحن أمام نص ديني، وأمام نصوص شارحة له، ولا شيء بين يدينا غير هذه النصوص للحصول على شيء منها لفهم رحلة الشتاء والصيف. لذا فستكون هذه الكلمات الثلاث في مركز جدالنا.
وقبل أن نبدأ بنقاش هذه الكلمات، لا بد من ملاحظة أن التفسير الشائع يتحدث عن رحلتين لا رحلة واحدة؛ رحلة شتوية إلى اليمن ورحلة صيفية إلى الشام. ويفترض أنهما رحلتان تتمان بانفصال. أي أن لكل واحدة موعدها الخاص وترتيباتها الخاصة، في حين أن منطق السورة القرآنية ومنطوقها يتحدثان عن رحلة واحدة لا غير: (رحلة الشتاء والصيف). لا تتحدث السورة عن رحلتي الشتاء والصيف، ولا عن رحلة الشتاء ورحلة الصيف، بل عن رحلة واحدة، بصيغة المفرد، تجمع الصيف والشتاء معاً، هي رحلة الشتاء والصيف. لذا دعيت في المصادر العربية باسم مفرد أيضاً: (رحلة الإيلاف). وقد ورد ذكرها في الشعر الجاهلي بهذا المعنى، كما رأينا عند مطرود بن كعب الخزاعي في مدحه لبني عبد المطلب: المنعمين إذا النجوم تغيرت/ والظاعنين لرحلة الإيلاف. بالتالي، فهي رحلة واحدة، ويظعن إليها كرحلة واحدة، تضم الصيف والشتاء معاً. والحديث عن (رحلة الشتاء والصيف) بصيغة المفرد ليس اختصاراً وإجمالاً كما يرى بعضهم: (فليس من شك أن قريشاً سيرت على الأقل رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف، فأجملهما القرآن الكريم بصيغة المفرد) (سحاب، فيكتور، إيلاف قريش: رحلة الشتاء والصيف، 1991، ص 246-247). بل هو في ما يبدو دليل على أن الأمر يتعلق برحلة واحدة تحوي الصيف والشتاء معاً. والحق أن المرء لا يظعن لرحلتين في العادة، بل لرحلة واحدة. وهذا الاختلاف، بين نص القرآن وبين التفسير الشائع يثير الشكوك حول التفسير السائد منذ اللفتة الأولى.
الإيلاف
أما بخصوص كلمة الإيلاف، فهناك خلاف حول معناها. فهناك من رأى أنها تعني اللزوم والإلفة: (وإيلاف قريش إلفهم الخروج إلى الشام) (ابن هشام، سيرة ابن هشام)، أي اعتيادهم عليه، ولزومهم له. ولو أخذنا بهذا المعنى لأصبحت السورة بلا معنى. فلماذا يكون إلفهم للرحلة، وأنسهم بها، شيئا مهماً يعرض له القرآن؟ ورأى آخرون أن التأليف في الآية هو التجهيز: (يؤلفون: يهيئون ويجهزون) (ابن منظور، لسان العرب). ولو صح أن الكلمة تعني التجهيز بالفعل، فلن يكون هناك مجال لربط الإيلاف- التجهيز بالأمن. إذ كيف يمكن لتجهيز الرحلتين أن يكون سببا للأمن الذي تتحدث عنه السورة؟ أم الرأي الأقوى، والأشد شيوعاً، فهو الرأي الذي يرى أن الكلمة تعني العهود، كما رأينا أعلاه، رغم أنه ليس لهذا المعنى أصل في اللغة كما يبدو. أي أنه وليد محاولة لتفسير السورة في عصر التدوين. لهذا لم يكن هذا الرأي سائداً في البداية: (قال الهروي في الغريبين: الإيلاف عهود بينهم وبين الملوك... قال: ومعنى يؤالف يعاهد ويصالح... وحمل الإيلاف على العهود خلاف ما عليه الجمهور) (تفسير الآلوسي). لكن هذا المعنى أصبح هو المعنى الأشد شيوعاً في وقت لاحق.
أما المعنى الأساسي للجذر (ألف) يعطي في الحقيقة معنى الجمع والضم. يقال: (أَلَّفَه: جمع بعضه إلى بعض) (ابن منظور، لسان العرب). ومن هذا المعنى: ألّف بين قلوبهم، أي جمع. كذلك من هذا المعنى المصطلح الإسلامي (المؤلفة قلوبهم)، أي الذين أعطاهم الرسول عطايا ليجلبهم إلى الإسلام ويربطهم به. لكن الغالبية الساحقة تتجنب المعنى الأساسي هذا، لأنه يتناقض مع فرضية وجود رحلتين منفصلتين تم جمعهما في رحلة واحدة، دعيت باسم رحلة الشتاء والصيف. إذ كيف يمكن جمع رحلتين تجاريتين، صيفية إلى الشام وشتوية إلى اليمن، أو شتوية وصيفية إلى الشام، في رحلة واحدة؟ هذا غير ممكن.
أما نحن فنرى أن المعنى الأساسي للجذر هو ما يجب حمل الرحلة عليه. أي أن علينا أن نفترض وجود رحلتين اثنتين، تم جمعهما في رحلة واحدة. وهذا ما لا يمكن حدوثه في رحلتين تجاريتين في وقتين مختلفين.
الفيل والإيلاف
ولننتقل الآن إلى جملة (آمنهم من خوف) في السورة. والرأي الشائع أنه الأمن الذي جلبته عهود الإيلاف. غير أن لدى المصادر العربية ما قد يلقي ظلاً قوياً من الشك على هذا. فهناك من يربط سورة قريش ربطا محكما بالسورة التي قبلها في المصحف، وهي سورة الفيل: (قال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معاً... وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى، لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: "لإيلاف قريش" أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش) (القرطبي، تفسير القرطبي). وهذا يعني أن علينا أن نقرأ الآيتين معاً: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وإذا ما قرأنا السورتين معاً، تبعاً لهذا الرأي، فلا بد لتأليف الرحلتين أن يكون عملاً دينياً محضاً لا عملاً تجارياً. فمن غير المنطقي أن يدمر الله أصحاب الفيل لأن قريشاً نجحت في تنظيم رحلات تجارية مربحة، أي بسبب نجاح تجاري ما. بالتالي، يجب أن تكون قريش قد قامت بعمل ذي طابع ديني جدي بتأليفها للرحلتين. عمل ديني محض. هذا العمل الديني أرضى الله، ومكنها من مواجهة أصحاب الفيل وتدميرهم، بإرادة الله، مما وفر لها الأمن عبر تدمير أصحاب الفيل. وهي مطالبة بأن تشكر الله على منّته بتدمير هؤلاء: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). أي أن الأمور سارت هكذا: ألفت قريش الرحلتين، فأدى هذا إلى تدمير أصحاب الفيل بإرادة الله، التي كافأت قريش على تأليف الرحلتين بهذا التدمير. بالتالي، يحل لغز اللام القلقة في (لإيلاف). فهي تصبح لاماً سببية واضحة. فالله دمر أصحاب بسبب تأليف قريش لرحلة الشتاء والصيف. والحق أن بعض القدماء قد توصل إلى هذا: (والقول الثالث أنها متعلقة بالسورة المتقدمة أي جعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش) (النيسابوري، تفسير النيسابوري). من دون تأليف الرحلتين كان خطر أصحاب الفيل سيتحقق.
وكذا الأمر في ما يخص لام الأمر في (فليعبدوا). فهي تظل قلقة جداً حين لا تُربط السورتان معاً. إذ من دون هذا الربط سيبدو وكأن على قريش أن تشكر الله على فعلها هي، أي على تأليفها الرحلتين، لا على فعل الله، أي على منّته بتدمير أصحاب الفيل. فالسورة من دون الربط تقول: لأن قريشاً ألفت الرحلتين، فلتعبد رب البيت. ويبدو من الصعب قبول هذا حقاً.
مصيف ومشتى
أكثر من هذا وأشد قوة أن هناك من ربط بين رحلة الشتاء والصيف وبين مصيف أهل مكة في الطائف. ففي خبر ينتهي إلى ابن عباس أن أهل مكة: (كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف) (المقدسي، أحسن التقاسيم). يزيد القرطبي: (كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجلّ النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف) (القرطبي، تفسير القرطبي).
إذن، فرحلة الشتاء والصيف، حسب هذا الخبر، كانت رحلة مكية مزدوجة لتجنب حر الفصول وقرها. أي أنها لم تكن رحلة تجارية بالمرة. وهي رحلة أنعم الله بها على أهل مكة، لذا فعليهم أن يشكروا رب البيت الذي مكنهم من هذه الرحلة. لكن السؤال هو: لم يشيد القرآن برحلة رفاهية واستجمام لا تديّن فيها ولا تعبّد؟ ولم يدمر الله أعداء قريش لأنهم يرفهون عن أنفسهم في رحلتين استجماميتين؟ والشك الذي يبعثه السؤال يجعل من الصعب قبول أن الآية تشير بالفعل إلى رحلة رفاهية يقوم بها أثرياء قريش.
مع ذلك، لا يستطيع المرء أن يرمي بهذا الخبر من دون ترو، خاصة حين يجد أن ابن الضياء يربط التصيف في الطائف والتشتي بتهامة بالإله الجاهلي لا بأهل مكة. فهذا الإله هو من يصيف بالطائف ويشتو بمكة: (وكانت العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب، وقال لهم عمرو: إن ربكم يصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة) (ابن الضياء، تاريخ مكة المشرفة).
الرب الإله، إذن، هو من يقوم بالرحلتين؛ فهو يصيف بالطائف ويشتو بتهامة، لا أهل مكة وأثرياؤها. وبما أن الأمر يخص إلها لا بشرا، فمن المفترض أنه كان يشتو في معبديه بالمنطقتين، أي معبد اللات في الطائف ومعبد العزى في تهامة. ولم يحدد لنا خبر ابن الضياء أين يقع معبد العزى في تهامة، وهل هو معبد (سقام) في بطن نخلة أو هو معبد مكة، أي الكعبة. لكن الخبر يؤكد لنا أن الطائف مرتبطة بصيف الإله. فالإله يقيم فيها، أي في معبدها، صيفا، لكنه ينتقل إلى معبده في تهامة شتاء. وإذا كان أهل مكة يصيفون بالطائف ويشتون بمكة فعلا، فمن المحتمل أن فعلهم هذا كان على علاقة برحلة إلههم هذه، بل وتقليدا له. أي أنهم كانوا يقلدون فعل إلههم، ويرتحلون رحلته.
المشكلة الوحيدة في خبر ابن الضياء، الشديد الأهمية، هو الحديث عن انتقال الإله إلى معبد العزى في الشتاء. فالإله الذكر لا يمكنه أن ينتقل إلى معبد الإلهة الأنثى. لذا نظن أنه ينتقل بالفعل إلى تهامة، لكن كي يقيم في معبده الشتوي. ولا يمكن لهذا المعبد إلا أن يكون معبد مناة بالمشلل في قديد قرب المدينة. أي أن الإله يقوم برحلته الفصلية بين معبديه، معبد اللات ومعبد مناة، أي يقوم برحلة فصلية بين الطائف والمدينة. فلكل واحدة من المدينتين رحلتها.
بالطبع، يمكن أن نفهم أن نص ابن الضياء يقصد اللات. فاللات يترك الطائف عند نهاية الصيف، ويستقر بمكة- أو في معبد العزى ببطن نخلة- في الخريف. أي أن رحلته صيفية- خريفية بين الطائف ومكة. في حين نفترض، بناء على ذلك، أن مناة يشتو بالمدينة، ثم يعود إلى مكة- أو معبد العزى في بطن نخلة- في الربيع، أي عند اللحظة التي ينهزم فيها الشتاء ويبدأ الصيف في التقدم.
وانطلاقا من هذا، فمن المفترض أن حمس مكة هم من كانوا، ربما، يقومون برحلة حج صيفي، غير عامة، إلى الطائف. أما حلة مكة فمن المفترض أن يحجوا، إذا رغبوا، إلى مناة، أي إلى المدينة. فالطائف لها رحلة الصيف، والمدينة لها رحلة الشتاء. أما مكة فأرض جمع الرحلتين وتأليفهما في رحلة واحدة. هذه هي مهمتها، وهذه هي ميزتها.
ولا بد أنه كان لهاشم بن عبد مناف وحلفه رحلة الشتاء، في حين كان لعبد الدار وحلفهم رحلة الصيف. ولا يمكن أن يجمع بين اللات ومناة سوى العزى. فهي الحد الوسط بينهما. هي عقدة الميزان. بالتالي، يجب أن تكون الكعبة الجاهلية معبدها. إنه المعبد الذي يوحد وجهي الكون. أما قريش فكانت هي القبيلة التي تتواجد فيها الطوائف الثلاث: الحمس، الطلس، الحلة. أي الآلهة الثلاثة: اللات والعزى ومناة.
على كل حال، فسوف نرى أن الرحلتين رحلتان دينيتان، وأنهما كانتا تتمان رمزيا في مكة، وعبر الحجين الصيفي والشتوي الجاهليين، وعبر السعي بين الصفا والمروة. فحج الصيف هو، رمزيا، رحلة الصيف، وحج الشتاء هو، رمزيا، رحلة الشتاء. والسعي بين الصفا والمروة هو تمثيل لهاتين الرحلتين، حيث الصفا تمثل الصيف، والمروة تمثل الشتاء.
جذام
ثم لنتحدث الآن عن الجملة الخاصة بالأمن: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). التفسير السائد، كما رأينا أعلاه، أن الأمن هو الأمن التجاري الذي تنعّم به أهل مكة عبر عهود الأمان التي أخذت لتجارتهم. غير أن لدينا أخبار تقول أن الأمن المعني مرتبط بمرض الجذام: (قوله: "آمنهم من خوف" يريد خوف العدو وخوف الجذام، فليس في الأرض قرشي مجذوم) (ابن حبيب، المنمق في أخبار قريش). يضيف المقدسي مؤكدا ومركزا على الجذام فقط: (وفي قوله: "وآمنهم من خوف" قال: خوف الجذام) (المقدسي، أحسن التقاسيم).
الأمان الذي يوفره الحرم المكي، إذن، متعلق بالجذام، لا بحماية قوافل مكة الذاهبة شمالا وجنوبا. فتأليف رحلة الشتاء والصيف، أي جمعهما، وفّر، في ما يبدو، الأمن من هذا الجذام. وحين يتعلق الأمر بالجذام، فنحن بصدد أمر ديني لا تجاري. فمن الصعب أن نظن أن تجارة مكة يمكن لها أن تحمى من الجذام. الجذام مرض ديني، مرض ميثولوجي معروف، في عرف القدماء. لذا فالحماية منه تكون حماية دينية.
ولو أردنا أن نوضح أمر الجذام انطلاقا من كتابنا الأسبق (عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية)، لقلنا أن الجذام عموما مرتبط بشمال السماء. ويمكن أن نشير هنا، تدليلا على ذلك، إلى شخصية ميثولوجية عربية شهيرة جدا، هي جذيمة الأبرش الشهير، صاحب الزباء، الأكثر شهرة منه. فجذيمة هذا مرتبط بالسماء الشمالية، إذ أن لقبه هو: (نديم الفرقدين). والفرقدان، كما نعلم جميعا، نجمان في نعش بنات نعش في شمال السماء. ولأن نديميه في السماء الشمالية، فلا بد أن يكون هو أيضا هناك. وهكذا، فهو شمالي من جهة، وعلى علاقة بالجذام والبرص من جهة أخرى. واسمه دليل على جذامه. فهو جذيمة، أي أجذم، وهو أبرش، أي أبرص. وهذا يعني أن شمال السماء مرتبط، بشكل ما، بالجذام والبرص.
ويؤكد هذا أيضا أن الشمالي من ثالوث أولاد نوح مرتبط، بشكل ما، بالبرص: (سام، حام، يافث). فسام هو الشمال، وحام هو الجنوب، أما يافث فنقطة التعادل بينهما. وسام هو شام، أي الشمال. وكلمة شمال مركبة من (شام+ إل)، أي أنها تعني الإله شام، أي إله الشمال. وهذا الإله مرتبط بالعظاية التي تدعى (سام أبرص)، والتي تعني: سام الأبرص.
عليه، فتأليف الرحلتين يحمي من الجذام والبرص في ما يبدو. لكن هناك جذاما، أو برصا، طاهرا وجذاما خبيثا. الأول علامة نبوية إلهية، والثاني علامة معاكسة، أي شيطانية بشكل ما. وفي التوراة مثل هذا التقسيم:
(كلم الرب موسى وهرون قائلاً: إذا كان إنسان في جلد جسده ناتئ أو قوباء أو لمعة تصير في جلد جسده ضربة برص يؤتى به إلى هرون الكاهن أو إلى أحد بنيه الكهنة فان رأى الكاهن الضربة في جلد الجسد وفي الضربة شعر قد ابيض ومنظر الضربة أعمق من جلد جسده فهي ضربة برص فمتى رآه الكاهن يحكم بنجاسته. لكن إن كانت الضربة لمعة بيضاء في جلد جسده ولم يكن منظرها أعمق من الجلد ولم يبيض شعرها يحجز الكاهن المضروب سبعة أيام، فإن رآه الكاهن في اليوم السابع، وإذا في عينه الضربة قد وقفت ولم تمتد الضربة في الجلد يحجزه الكاهن سبعة أيام ثانية. فان رآه الكاهن في اليوم السابع ثانية وإذا الضربة كامدة اللون ولم تمتد الضربة في الجلد يحكم الكاهن بطهارته) (الكتاب المقدس، لاويون 13: 1-5). كما أنه كان بوجه موسى لمعة برص حميد: (فإذا رأى بنو إسرائيل وجه موسى أن جلده يلمع كان موسى يرد البرقع على وجهه) (الكتاب المقدس، خروج 34: 25). أكثر من ذلك، فقد كانت يده برصاء: (ثم قال له الرب أيضا أدخل يدك في عبك. فأدخل يده في عبه. ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج) (الكتاب المقدس، خروج 14: 6). أما في القرآن فبياض يد موسى كان بياضا من غير سوء، أي بياضا حميدا: (أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) (القصص: 32).
ومن الواضح أن أهل مكة كانوا مهددين بالبرص الخبيث لا الحميد. لكن تأليفهم للرحلتين حماهم من خطر الجذام الخبيث والأمراض التي تشبهه. تأليف الرحلتين، في حرمهم وفي بنائهم الاجتماعي- كما سنرى تاليا- صدّ الخطر القادم من السماء الشمالية، في ما يبدو. فللسماء الشمالية وجهها المعاكس السيئ. كما أن للسماء الجنوبية وجهها المعاكس السيئ. وخطر الجذام قادم من السماء الشمالية. أما السماء الجنوبية فتحمل خطر الحميات. وهذا هو الخطر الذي حمله الفيل وأصحابه، كما سنبين لاحقا. بالتالي، فتأليف الرحلتين يحمي من أمراض شمالية وجنوبية معا. إنه مانعة أمراض، على مثال مانعة الصواعق.
التخطُّف
لكن تأليف الرحلتين لم يكن يحمي في ما يبدو من الجذام فقط، بل إنه يمنع أيضا من (التَخطٌف) الذي مر علينا أعلاه في مقتبس القرطبي: (وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يُتَخطفون من حولهم). وقد فهم هذا التخطف في التفسير السائد عموما على أنه يعني غارات القبائل واللصوص على قوافل مكة التجارية.
وقد دخل التخطف إلى مسرح الرحلتين انطلاقاً من آيتين في القرآن تتحدثان عن أمن يوفره الحرم المكي من تخطف ما. وقد افترض المفسرون أن هذا الأمن هو ذاته الأمن الذي وفره الإيلاف. وهذا ربط مهم حقا. فهو قد يفتح لنا باب حل لغز رحلة الشتاء والصيف.
أما الآية الأولى فتقول: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا. أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا، ولكن أكثرهم لا يعلمون) (القصص: 57). وهذه الآية حاسمة لفهم رحلة الشتاء والصيف وأمنها، في ما يبدو لنا. فهي تشير إلى ثلاثة أمور:
الأول: أن التخطف يتعلق بنوع الديانة التي يدعو إليها الرسول. فمشركو قريش، أو بعضهم على الأقل، يتذرعون بأن اتّباعهم لدين النبي محمد سيؤدي إلى تخطّفهم، مهما بدا لنا هذا لنا غريبا وغامضا: (إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا). فاتّباع الهدى، حسب هؤلاء، هو الذي سيؤدي إلى تخطفهم، لا الذهاب في رحلة تجارية من دون مواثيق وعهود. هكذا بكل وضوح، وبشكل لا يمكن دحضه أو إخفاؤه. هذا يعني أننا أمام أمر ديني لا أمام مسألة تجارية.
الثاني: أن خطر التخطف يتهدد الناس في أرض مكة ذاتها، لا في أراضي الآخرين: (إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا). سياق الآية هنا يدل على أن كلمة (أرضنا) تعني أرض مكة، لا أرض الآخرين الذين تمر عبر أراضيهم تجارة مكة. عليه، فخطر التخطف، قائم في مكة ذاتها، لا في أرض غيرها من القبائل.
ثالثا: أن الحماية من هذا الخطر تكمن في حرم مكة، لا في عهود الأمان مع من هم خارج مكة. دليل ذلك أن الآية تتساءل مستنكرة ردا على إدعائهم بالخوف من التخطف: (أو لم نمكن لهم حرماً آمناً؟). أي أنها تؤكد أنهم لن يتعرضوا للتخطف لأن الله أمنهم بالحرم المكي، لا بالعهود والمواثيق التجارية. الحرم المكي، إذن، هو الذي يوفر الأمن من التخطف لا عهود هاشم بن عبد مناف من اجل عبور قوافل قريش. الحرم ذاته لا غيره. عليه، فامتناعهم عن اتّباع الهدى بذريعة التخطف حجة باطلة، فبإمكانهم أن يتبعوا الهدى من دون خشية من التخطف، إذ الحرم يمنعهم ويحميهم.
وتؤيد الآية الأخرى، وهي من سورة العنكبوت، هذا الاستخلاص: (أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) (العنكبوت: 67). الحرم هنا أيضاً هو الذي يوفر الأمان لا غيره، وما عداه من أماكن يتخطف الناس فيها. أي أنه لا علاقة للأمر كله بتجارة مكة.
وقد حاول بعض المفسرين أن يدعي أن الأمن هنا يعني أن مكة آمنة لا تطالها حرب أو قتال، في حين أن أراضي العرب الأخرى تتعرض لمثل ذلك. وقد رد ابن العربي على هذا الزعم بالقول: (وأما الأمن عن القتل والقتال فقول لا يصح، لأنه قد كان فيه {أي الحرم} القتل والقتال بعد ذلك ويكون إلى يوم القيامة) (ابن العربي، أحكام القرآن). وهذا ما يقوي فرض أن الأمن له علاقة بخطر ديني لا حربي، خطر مكون من شعبتين: التخطف والجذام.
الطيور التي تخطف
وبما أن الحرم المكي يحمي من التخطف مثله مثل إيلاف الرحلتين، فإن هذا قد يعني ما يلي:
1- أنه ربما يكون للإيلاف علاقة بحرم مكة. أي أنه إيلاف تم في الحرم ذاته. أي أن جمع الرحلتين ربما تم في مكة ذاتها، وفي حرمها خاصة.
2- أنه من دون جمع الرحلتين معاً، أي من دون إيلافهما وتأليفهما، فإن خطر التخطف يكون داهما على بعض أناس مكة.
لكن من هم هؤلاء الذين تذرعوا بأنهم إن اتبعوا محمداً فقد يتخطفون، ومن أي طائفة هم؟ نعتقد، اعتقادا، أنهم حمس مكة، لا حلتها. إذ يبدو أن خطر التخطف، مثله مثل خطر الجذام، قادم من السماء الشمالية، أي من الوجهة المعاكسة للحمس. فالحمس مرتبطون بالسماء الجنوبية. ومن المحتمل أن يكون للتخطف الذي نحن بصدده علاقة بالآية القرآنية: (ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) (الحج، 31). وإذا صحت هذه العلاقة، فعلينا أن نفترض أن (التخطف) مرتبط بطيور ما، لا بغارات القبائل البدوية على قوافل مكة التجارية. وهذا ما قد يدعم فكرتنا عن أن للأمر كله علاقة بشمال السماء. فالسماء الشمالية، في ما يبدو لنا، على علاقة بالعنقاء، أو عنقاء مغرب، التي تتخطف الناس حتى قيل: (حلّقت به عنقاء مغرب). ومن المحتمل أن تكون العنقاء هذه على علاقة بنجم عناق، وهو الأوسط في ذيل بنات نعش. عليه، فالتوافق اللفظي بين العنقاء وعناق لا يبدو لنا مصادفة. ونجم عناق في ما نعتقد هو الإلهة الشمالية، أي إيزيس السلبية المخيفة. تقول لنا رسائل إخوان الصفا عن العنقاء: (هي أكبر الطير جُثة، وأعظمها خِلقة، وأشدها طيراناً، كبيرة الرأس، عظيمة المنقار، كأنه معول من الحديد، عظيمة الجناحين، إذا نشرتهما كأنهما شِراعان من شِراعات مراكب البحر... وإذا انقضّت من الجو في طيرانها تهتز الجبال من شدة تموج الهواء، من خفقان جناحيها. وهي تخطف الجواميس والفيلة من وجه الأرض في طيرانها، كما تخطف الحدأة والفأرة من وجه الأرض في طيرانها) (رسائل إخوان الصفا). أما المتقي الهندي فيضيف نقلاً عن رواية تنتهي لابن عباس: (إن الله تعالى خلق طائراً في الزمن الأول يقال له العنقاء فكثر نسله في بلاد الحجاز، فكانت تخطف الصبيان فشكوا ذلك لخالد بن سنان وهو نبي ظهر بعد عيسى من بني عبس فدعا عليها أن يقطع نسلها فبقيت صورتها في البسط) (الهندي، المتقي، كنز العمال). في حين أن الجاحظ يؤكد لنا أن (العرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت: حلّقت به في الجو عنقاء مغرب، وفي بعض الحديث: أن بعض الأمم سألوا نبيهم وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا، أو تلقي في فم العنقاء اللِجام) (الجاحظ، الحيوان). وهكذا فالعنقاء كانت تتخطف الناس والدواب، حد أن بعض الأمم طلبت من أنبيائها أن يلجمها وأن يمنعها من تخطفهم. وربما كان الحرم المكي لجاماً للعنقاء وأمثالها عن تخطف الناس. إذا صح كل هذا، يكون الجذام أيضاً على علاقة بالإله الشمالي، السها، أو جذيمة الأبرش، أما التخطف فعلى علاقة بالإلهة الشمالية. وكل هذا قد يشير إلى أنه كان هناك تقليد عند أهل مكة يربط الدين الإسلامي، بشكل ما، بالسماء الشمالية في الأصل. أو قل يربط، على الأقل، تراث عائلة النبي، بشكل ما، بالسماء الشمالية.
الحرم الآمن
عليه، فالأمن في سورة قريش (آمنهم من خوف) والأمن في سورة القصص (أو لم نمكن لهم حرما آمنا؟)، والأمن في سورة العنكبوت (جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم) على علاقة مباشرة بالحرم المكي، أولاً وأخيراً. فهو وحده، كحرم، ما يحمي من خطر التخطف، ومن خطر الجذام. لذلك فلن تجد قرشياً مجذوماً حسب مقتبس أوردناه أعلاه.
وبما أن سورة قريش تربط بوضوح ومباشرة بين الأمن الذي يوفره الحرم المكي وبين تأليف رحلتي الشتاء والصيف في رحلة واحدة، فلا بد أن نستنتج أمرين اثنين:
الأول: أن رحلة الشتاء والصيف ذاتها على علاقة بالحماية من التخطف. فوجود هذه الرحلة، وتأليفها، هو الذي يحمي أهل الحرم ويؤمنهم. وهذا يعني أن الحرم يؤمن الحماية عبر ارتباط محدد بتأليف الرحلة.
الثاني: وما دام الأمن في الحرم، ويخص الحرم، فلا بد أن رحلة الشتاء والصيف ذاتها كانت تتم في إطار الحرم ذاته. وهذا ما يعني أن الناس كانوا يرتحلون هذه الرحلة، رحلة الشتاء والصيف، داخل مكة وداخل الحرم المكي ذاته. إنها رحلة داخل مكة وحرمها لا خارجهما.
رحلة السعي بين الصفا والمروة
استنتاج غريب، أليس كذلك؟
فأي رحلة شتاء وصيف يمكن تنفيذها على أرض مكة وفي حرمها؟
الإجابة بوضوح: أن قريش المكية هي وحدها من بين القبائل هي من جمع بين رحلتي الإله في صيفه وشتائه في مكان واحد. فالقبائل الحمسية، مثل ثقيف في الطائف، لها اللات، أي رحلة الصيف. وقبائل الحلة، كالأوس والخزرج في المدينة، لها مناة، أي رحلة الشتاء. أما قريش فلها رحلة الشتاء والصيف معا. حمسها وحلتها لهم مكة وكعبتها، التي هي حد وسط بين الطائف والمدينة، بين اللات ومناة. وهؤلاء، أي حمس مكة وحلتها معا، هم قريش البطاح، الذين سكنوا بين أخشبي مكة: أبي قبيس والجبل الأحمر (هناك من يقول قعيقعان بدل الأحمر). هذا الجبلان هما جبل الصيف وجبل الشتاء. للحمس أبو قبيس، وللحلة الجبل الأحمر. أبو قبيس يمثل الصيف، والجبل الأحمر يمثل الشتاء. وهذا هو السبب الذي ربط بين بني عبد المطلب وهاشم وبين يثرب. فبنو هاشم حلة، أي أنهم القسم الشتوي من رحلة الشتاء والصيف. وهم بذلك سيلتقون مع الأوس والخزرج أصحاب رحلة الشتاء. ولهذا تحالفوا مع الإسلام حين انبثق من مكة. فقد عدوه دينا حليا. أما الطائف فقد كانت الأشد عداء حتى من مكة للرسول والإسلام. ذلك أنها تمثل رحلة الصيف وحدها، أي الرحلة المعاكسة تماماً لرحلة الشتاء.
على كل حال، فتأليف مكة للرحلتين ظهر في عدة أمور:
أولاً: إقامة الطرفين معا بين الأخشبين، أي جبلي الشتاء والصيف.
ثانياً: تقاسم الكعبة الجاهلية بين الحمس والحلة، على عكس الطائف ويثرب.
ثالثاً: السعي بين الصفا والمروة، الذي هو التنفيذ الرمزي لرحلة الشتاء والصيف.
نعم، السعي بين الصفا والمروة هو تمثيل رمزي لرحلة الإله- الكون في صيفه وشتائه. السعي بين الصفا والمروة كان عند الجاهليين تمثيل لرحلة الكون بين مظهريه، بين صيفه وشتائه، أي رحلة الانقلابات الفصلية. فالكون عند الجاهليين يترنح دوما بين مظهريه هذين، ويرتحل بينهما. أي بين الصيف الجنوبي، والشتاء الشمالي. بين برج الجوزاء الجنوبي، ممثل الصيف الفيضي، وبنات نعش الشمالية، ممثلة اللافيض والشتاء. وهذان يتمثلان على الأرض رمزياً بجبلين هما أخشبا مكة، أي جبل أبي قبيس والجبل الحمر. هذا الجبلان الأخشبان يتم تصغيرهما في الصفا والمروة. الصفا تمثيل لأبي قبيس، والمروة تمثيل للجبل الأحمر. الصفا والمروة نموذج مصغر للأخشبين، اللذين هما رمز للكون في فيضه ولا- فيضه. بالتالي فالكون يتمثل بتلتين يسعى المؤمن بينهما لتمثيل رحلة الكون- الإله بين مظهريه: تلة الصفا وتلة المروة. تلة الصفا تمثل الصيف، لذا فهي جنوبية، وتلة المروة تمثل الشتاء، لذا فموقعها شمالي. هذه الرحلة بين الشتاء والصيف في الأصل رحلتان، رحلة الصيف ورحلة الشتاء، ثم ألفت رمزياً، أي جمعت، في مكان واحد في مكة، وسميت برحلة الإيلاف بسبب هذا الجمع. بالتالي، فقد كان المؤمن الجاهلي المكي يستطيع أن يقلد رحلة إلهه بين الصيف والشتاء، بعد أن ألف بينهما في مكان واجد، فالإيلاف في اللغة هو الجمع. لقد جمعت الرحلتان معاً في الحرم المكي. وجمعهما هو سبب أمن الحرم، هو سبب الحماية من التخطف والجذام.
ولم يكن ممكنا فعل هذا في الطائف أو المدينة. فللطائف القسم الصيفي من الرحلة فقط. كما لم يكن من الممكن عمله في المدينة. فللمدينة القسم الشتوي من الرحلة فقط. مكة وحدها كانت قادرة على ذلك، لأنه في مكة يكمن الحد الأوسط في الثالوث، ثالوث بنات الله (اللات والعزى ومناة)، أي تكمن العزى. وهذا يعني أن المعبد المكي كان في الجاهلية معبداً للعزى. فهي وحدها التي تستطيع أن تجمع بين وجهي الإله الذكر في بيتها ومعبدها. وهي في الربيع تنضم إلى اللات، وفي الخريف إلى مناة.
ولعل اسم قريش ذاته على علاقة بهذا بتجميع الرحلتين وتأليفهما. فجذر قرش يعطي معنى الجمع. يقول اللسان: (القَرش: الجمع والكسب والضم من ههنا وههنا يضم بعضه إِلى بعض. ابن سيده: قَرش قَرشاً جمع وضمّ من هنا وهنا، وقَرش يقرِش ويقرُش قَرشاً، وبه سميت قريش. وتقرش القوم: تجمعوا) (ابن منظور، لسان العرب). وبذا فاسم قريش قد يعني المتقرشة، أي المجمعة التي جمعت الرحلتين معا.
بالتالي فمكة كانت المكان الذي تجد فيه الحمس والحلة والطلس معاً. إنها أرض التعدد الديني. أما المدينة فقد كانت أرضاً حلية، إذا استثنينا اليهود. في حين الطائف أرض حمسية. ويؤكد لنا ابن حبيب أن الأنصار، أي الأوس والخزرج، كانوا حلة: (قبائل الحلة من العرب: تميم بن مر كلها غير يربوع، ومازن، وضبة، وحميس، وظاعنة، والغوث بن مر، وقيس عيلان بأسرها ما خلا ثقيفاً، وعدوان وعامر بن صعصعة، وربيعة بن نزار كلها، وقضاعة كلها ما خلا علافاً وجناباً، والأنصار، وخثعم، وبَجيلة، وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وهذيل بن مدركة، وأسد، وطيء، وبارق) (المحبر، ابن حبيب). وكلام ابن حبيب يوحي أن ثقيفاً كانت حمساً. ذلك أنه يؤكد أن قيس بن عيلان كلها حليه، ما عدا ثقيفاً. وهذا ما يشي أن ثقيفاً كانت حمسية. وهو أمر منطقي لأن ثقيفاً كانت تعبد اللات، واللات إله الحمس، في النهاية.
ويؤكد لنا خبر آخر أن الأنصار، أي المسلمين من الأوس والخزرج، كانوا يرفضون السعي بين الصفا والمروة قبل أن تنزل آية (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) (البقرة: 158). جاء في الخبر: (قال عروة: قلت لعائشة رضي الله عنها: أرأيت قول الله تعالى إن الصفا والمروة ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما؟ قالت: بئسما قلت يا ابن أختي، لأنها لو كانت على ما أولتها عليه لكانت أن لا يطوف بهما، ولكنما أنزلت هذه الآية أن هذا الحي من الأنصار كانوا، قبل أن أسلموا يتحرجون، أن يطوفوا بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى هذه الآية) (الأصفهاني، الراغب، محاضرات الأدباء). وهكذا، فقد ظن عروة أن السعي بين الصفا والمروة ليس إلزامياً بناء على قراءته للآية، لكن عائشة أفهمته أن الآية نزلت (في هذا الحي من الأنصار) الذين كانوا يتحرجون من السعي بينهما، لأن مثل هذا السعي يخالف شريعتهم، كما هو واضح من الخبر والآية. أي أن الآية جاءت لتبيح لهم السعي بين الصفا والمروة، ولتحلهم من الحظر الذي تفرضه عليهم هذه الشريعة، التي هي شريعة الحلة في ما نفترض.
وقد بينت لنا توضيحات لهذا الخبر سبب امتناع الأوس والخزرج عن السعي بين الصفا والمرة، وأوضحت إن الأمر يعم الأوس والخزرج، ويصل إلى أبعد منهم:
(وأما مناة، وكانت صخرة لهذيل وخزاعة، فأول من نصبها عمرو بن لحي على ساحل البحر مما يلي قديد. وكانت الأوس والخزرج وغسان من الأزد ومن دان دينها من أهل يثرب وأهل الشام... يحجونها ويعظمونها، فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى لم يحلقوا رؤوسهم إلا عند مناة. وكان يهلون لها، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة مكان الصنمين اللذين عليهما، وهما نهيك مجاور الريح ومطعم الطير. وكان هذا الحي من الأنصار يهلون بمناة، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لم يظل أحد منهم سقف بيته حتى يفرغ من حجه أو عمرته) (ابن الضياء، تاريخ مكة المشرفة). وهو تقريبا نفس الخبر الذي ينقله الطبري عن خبر ينتهي لعائشة: (عن عائشة قالت: كان رجال من الأنصار ممن يهلّ لمناة في الجاهلية... قالوا: يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة، فهل علينا حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (الطبري، تفسير الطبري).
عليه، فقد كان الأوس والخزرج وغسان، ومن دان بدينهم، لا يسعون بين الصفا والمروة. وهم لا يفعلون ذلك لأنهم يتعبدون لمناة، أي لجزء من رحلة الشتاء والصيف. بالتالي، فعقيدة مناة لا تلزمهم بالسعي بين الصفا والمروة. وهذا ما يدل على أنه ليس على أتباع مناة من خارج مكة أن يسعوا بين الصيف والشتاء، فهم شتويون. ونفترض أنه لم يكن على أتباع اللات خارج مكة، وخاصة أهل الطائف وغيرهم، أن يسعوا بينهما أيضا، فهم صيفيون. أي أن المكيين من أتباع المذهبين هم وحدهم ربما من كانوا يسعون بين الجبلين، الصفا والمروة، وبين الصنمين عليهما: أي مجاوز الرياح ومطعم الطير.
وإذا كان ما نقول صحيحاً، فهو يعني أن مناة مرتبط بمطعم الطير. ومطعم الطير هو صنم الإله الذبيح، الذي يصلب فتأكل الطير من رأسه. وهذا يعني أن الأوس والخزرج يتبعون ديانة الإله الذبيح، ديانة إبراهيم وإسماعيل الذبيح. بالتالي، ليس غريباً أن يتبعوا ملة الأحناف، أي ملة إبراهيم. وهذا يفسر لنا لم فتحت يثرب، عموماً، ذراعيها للرسول ودينه، ولم رفضته مكة وحاربته. أي أن جذر الاحتضان أو الرفض جذر ديني أساساً، أضيفت إليه الأسباب الأخرى.