عندما أعلن محمود درويش في سرير غريبته نيته اعتلاء البداهة الإنسانية في صورها الأكثر بدائية ، وهي أن "يحب" أياً كانت مضامين دروعه البطولية والشعرية الفلسطينية و العربية التي أُسبغت عليه حصراً و أحيانا كثيرة قيداً، حينها حُملَّ –درويش- هزائمنا وهزائم الآخرين المهدرة، وتناسى الكثيرون ، مرجعية العودة الانسانية لشؤون النفس ، و أن رفع راياتها لا يحتاج إلا "أنا"ها فقط. ولعل النص الدرويشي -هاهنا- يعلنها باديء السرير و الغرابة معاً أنهما –الشاعر وغريبته- على "ذهاب":
"لنذهب كما نحن:
سيدة حرة
وصديقاً وفياً،
لنذهب معاً في طريقين مختلفين
لنذهب كما نحن متحدين
ومنفصلين،
ولاشيء يوجعنا
لا طلاق الحمام ولا البرد بين اليدين
ولا الريح حول الكنيسة توجعنا...
لم يكن كافياً ما تفتح من شجر اللوز
فابتسمي يزهر اللوز أكثر
بين فراشات غمازتين".
ما أن يعتلي درويش مطالع السرير، ويعلن بداهة الحب هناك وطناً، حتى يرحل عنه "حاضرنا" فيُعلن: "كان ينقصنا حاضر". إن موقع الرائي/الشاعر من كامل ذاك النسق هو عودٌ لبطولة الإنسان في إنسانيته ، لذا كانت بطولة درويش في ظلال الفكر العربي بكامل مضامينها الفعلية و المجازية والملموسة و الرمزية و الواقعية و المتخيلة و غيرها ، هي محض "حاضر ناقص" في مواجهة الحب معركة من معارك كثيرة. وتلك طينة الأنبياء التي لا تتآلف مع حواضرها مهما إعتلى "زنارها" من بطولات، لتظل النبوءة محض بشر يتساقطون أمام بطولة الإنسان المجرد:
"فعما قليل ستنتقل الطير من زمن نحو آخر،
هل كان هذا الطريق هباءً
على شكل معنى، وسار بنا
سفراً عابراً بين اسطورتين
فلابد منه، ولابد منا
غريباً يرى نفسه في مرايا غريبته؟
"لا، ليس هذا طريقي إلى جسدي
"لا حلول ثقافية لهموم وجودية
أينما كنت كانت سمائي
حقيقةً."
تلك النبوءات التي شهدناها تحيي سرحان بشارة سرحان وهو "يشرب القهوة في الكافيتيريا" 1972، وكانت كذلك في أبياته لـ"أحمد الزعتر" 1977 ، فحررت ذلك الأخير بصهيل زعتره من فجائع قومه وأنقاضهم، وصولاً إلى "أحد عشر كوكباً على آخر المسهد الأندلسي" 1992، و التي تنبأت بالصاعقة الأخطر التي قصمت وحدة الصف الفلسطيني: إتفاقية أوسلو. تلك النبوءات التي استقرأت طريق سلام كان عليه "أن يريح الهوية الفلسطينية، و أن يريح أسئلة الثقافة الفلسطينية، و أن ينقلنا من وضعنا الأسطوري إلى وضعنا الواقعي ن و أن يدلنا على أن الواقع أغنى من النصّ. وبدأنا فعلاً بطرح أسئلة تتصل بكيفية تحولنا من نص أسطوري فيه الجلاد و الضحية ، إلى أناس عاديين، نبني حياتنا العادية، نعبر عن ضعفنا الإنساني العادي، يلتفت كل منا إلى صوته الشخصي، نشكو المرض و الكسل والضجر. لا نريد أن نكون أبطالاً ولانريد أن نكون ضحايا. بعبارة أخرى، بدأنا في البحث عن الحياة العادية، ولكن يبدو أن البحث عن حياة عادية في ظروف غيرعادية هو بحث عن بطولة أخرى"... ليظل ناقوس الرؤيا فاضحاً: "ليس صحيحاً بأن الصهيونية قد خلقت نقيضها الفلسطيني، لأن هذا النقيض موجود قبل ظهور الصهيونية نفسها، ولكنها تعرقل صيرورته إلى ثبات".
ومن هنا كانت نبوءات درويش الغزلية عبارة عن تمظهرات لجدلية العلاقة بين الهزيمة و النصر بمنطقها الإنساني، وبالتالي فهي أكثر من مجرد غرض شعري في معمار الشعر الخاص بالشاعر، إنما هو فعل مقاومة ، يحمل عبء إستحضار الجانب الإنساني من فعل المقاومة ، ذلك الجانب الأقرب للبداهة والعفوية و الحياة في سؤال المقاوم عن تمسكه بالموت من فرط ما يريد أن يحيا...حباً.
والبنية الغزلية لدى درويش سارت وتسير عكس أعراف الغزل العربي بعمومه ، وثارت وتثور على صكوك المتجانس فيه و ألفته، فكان السبق فيها لوطأة التاريخ قبل وطأة الوجدان ، وكان فيها من الغربة و النفي والغرباء أكثر مما فيها من الإستيطان و الفيء و اللقاء:
"ليس هذا طريقي إلى أرض حريتي
ليس هذا طريقي إلى جسدي
وأنا، لن أكون "أنا" مرتين
وقد حل أمسِ محل غدي
وانقسمت إلى امرأتين
فلا أنا شرقية
ولا أنا غربية،
ولا أنا زيتونة ظللت آيتين
لنذهب، إذاً.
"لا حلول جماعية لهواجس شخصية
لم يكن كافياً
أن نكون معاً
لنكون معاً...
كان ينقصنا حاضر لنرى
أين نحن. لنذهب كما نحن،
إنسانة حرةوصديقاً قديماً
لنذهب معاً في طريقين مختلفين
لنذهب معاً،
ولنكن طيبين..."
يثور الشاعر/النبي هاهنا على مواريث إدراكنا الشعري للغزل، فلا يحقق -مثلاً- تعريف قدامة بن جعفر لقصيدة الغزل، ذلك التعريف الذي يضم بين مواثيقه صنوف الغزل وخرائطه ، ليمهد لحلول رؤى ابن حزم الأندلسي في (طوق الحمامة) إذ يقول عن الحب: "وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات ، إنما هو الإتصال و الإنفصال، و الشكل دأباً يستدعي شكله، والميل إلى مثله ساكن ، و للمجانسة عملٌ محسوسٌ وتأثير مشاهدٌ، و التنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعّاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل و التوق والانحراف والشهوة و النفار".
وكيف للغزل ألا يكون مقاومة، وخلفيته "المشهد الملحمي" ، الذي يعلن الشاعر –على الدوام وفي غير موضع ومقال- إنتمائه إليه، وللغزل في الملحمة حضور التاريخ شاهداً على عقد بين الألم و الفجيعة في برهة العشق بين ثنايا الهوية وفعل الحياة:
- "لا اسم لنا يا غريبة، عند وقوع الغريب على نفسه في الغريبة"
- "من يقول لي الآن: دعك من الأمس، و احلم بكامل لاوعيك الحر"
- "كنا غريبين في بلدين بعيدين قبل قليل، فماذا أكون غداة غد عندما أصبح إثنين؟
ماذا صنعت بحريتي؟ كلما ازداد خوفي منك اندفعت إليك، ولا فضل لي يا حبيبي الغريب سوى ولعي"
- "قل إننا / طائران غريبان في أرض مصر و الشام. قل إننا طائران غريبان في ريشنا"
- "وماذا سنفعل؟ ماذا / سنفعل / من / دون / منفى؟"
يتحول النص الغزلي الدرويشي في "سرير الغريبة" من فضاء وجداني تتحدد شروطه بالعاطفة متلمسة طريقها بالمكان و الظرف إلى فضاء مقاوم يستدل بالعاطفة على "الكل الضائع" بين شظايا "الراهن الحاضر"، فتصبح الجدلية هاهنا من الوجود/العشق إلى العشق/التحرر ، مؤسساً غزليته على مقاومة "حاضر مفروض" لقاء "حاضر ناقص" بالجمالي أوليس هو القائل "الجمالي حريتك"؟ :
- "هنالك حب يسير على قدميه الحريريتين / سعيداً بغربته في الشوارع"
- "حب يمر بنا / دون أن ننتبه / فلاهو يدري ولا نحن ندري"
- "... لا أحد يستطيع
الرجوع إلى أحد. تصنع الأبدية
أشغالها اليدوية من عمرنا وتعمر... فليكن الحب ضرباً من الغيب، وليكن
الغيب ضرباً من الحب. إني عجبت
لمن يعرف الحب كيف يحب!."
ليعلن في النهاية أن "هناك حب".
II
ولأن "الشعر محض ثورة"، يثور شاعرنا على نبوءته ورسالته بالشعر شعراً ورؤيا، ليعود إلى بدايات الإنسان فيه وفينا –من ضمن بدايات كثيرة تميز البنيان الدرويشي في الشعر- ، فيخاطب الضلع في نفسه ، محاوراً جميل بثينة على لسانه سائلاً إياه عن مثاقيل الحب وطرائقه ومواثيقه :
"هل تشرح الحب لي، ياجميل
لأحفظه فكرة فكرة."
فيرد جميل بثينة:
"أعرف الناس بالحب أكثرهم حيرة
فاحترق، لا لتعرف نفسك
ولكن لتشعل ليل بثينة..."
وكما قالت العرب "العاشقون رفاق"، تلك الرفقة التي تصل بالعشاق إلى حدود الهند و تراثها الايروتيكي في آداب "الإنتظار"، فيرتحل العشاق ، بعد ان يعلن درويش مرآويته لجميل بثينة في "الكبر" و "الموت المنفي" و انتفاء الزمن موتاً وبثينة اسماً و نوناً:
"أعلى من الليل، طار جميل
وكسر عكازتيه . ومال على أذني
هامساً: إن رأيت بثينة في إمرأة
غيرها، فاجعل الموت ، ياصاحبي،
صاحباً، وتلألأ هنالك، في إسم
بثينة، كالنون في القافية!."
III
ومن علوم التقفي على شراشف "سرير الغريبة" ، سوسنةً سوسنةً نثراً شعرياً ، كان لابد من كسر الضرورة اللغوية المفرطة الذكورة ، و التي "ينبغي أن أنوه بأن تركيب اللغة يتطلب مني بصورة عامة، أن أكتب وأتكلم بصيغة المذكر. كما يفرض على الكاتب تذكير موضوعات لا تقبل التذكيروالتأنيث إلا عرضاً ومجازاً". ولايتأتى لنا ذلك من دون الحوار الغزلي المتكافيء على امتداد ذلك السرير مع الأنثى على أن تكون ناصية الكلام لها. وهو ماحدث في سبع قصائد نسير على لسان ضمير المتكلمة المؤنثة ، ضمير العاشقة و ليس العاشق ، لتكشف لنا رؤى المؤنث في الغزل ، في محاولة لكسر الاستحواذ الذكوري لموضوعة الغزل، وهو في ذاته أكثر مواضيع "السرير" ثورة وتحريضاً على الحرية و الإنعتاق من أكثر قيودنا الثقافية و المعرفية و الإدراكية، باعلاء التعددية و الديموقراطية والآخروية في إدراك الذات في أكثر حالاتها ذاتية : "العشق" و "الحب" ، الذي لا يقوم من دون الآخر المكمل و ليس فقط المرادف ولا المضاد: الأنثى.
ولعل هذا الإعلاء من "غريب" التجربة الشعرية في الغزل هو ما يجعل حالة الحوار الغزلية على السرير بجدليتها تصل إلى حدود البداهة العشقية بين غريبين لا يجمعهما حاضر ، أو على الأقل مايجمعهما هو ما يجيء على لسان الأنثى/العاشقة : "لا أقل لا أكثر":
"أنا إمرأة. لا أقل ولا أكثر (...)
أنا من أنا، مثلما
أنت من أنت تسكن في
وأسكن فيك وإليك ولك
أحب الوضوح الضروري في لغزنا المشترك
أنا لك حين أفيض عن الليل
لكنني لست أرضاً
ولا سفراً
أنا إمرأة، لا أقل ولا أكثر."
فيعيد النسق الغزلي المؤنث النصر لمستحقيه، بعيدا عن تجاذبات الخطاب و السرد، "كأن تغزل الصوف لكي تلبسه لا لكي تكمل قصة هوميروس، أو تحن إلى سوسن آخر غير ذاك الذي خلف جبال مؤاب، أوتطلب منه أن يحك ظهرها ويفك على مهل جدائل شعرها ، أو تقتبس يانيس ريتوس فترى" في عروق الرخام حليب الكلام الإباحي يجري ويصرخ بالشعراء اكتبوني" أو تهتف ببساطة: ياليتني لم أحبك.."
IV
كل شيء في "سرير الغريبة" يصدح بالموسيقى ويطوقه الإيقاع، صاعدة من ستة سونتات ، تتخلل الجسد السريري الشعري، فينثرها الشاعر بلاعنوان إلا من رقم ، لنقوم بأدوار بعينها:
1. دور وظيفي فاصل واصل بين قسم و آخر لضمان سيولة موسيقية وتناغم جغرافيا الإيقاع.
2.خلق الفضاء الموسيقي الملحمي لبداهة "وقوع الغريب على نفسه في الغريب"، تحت وطأة التاريخ من سردية الفرد/الانسان.
فيلتزم الشاعر بالشرط العضوي للسوناتا في الشعر الغربي ، وهي أن تكون مكونة من أربعة عشر بيتاً (وفي بعض الأدبيات الشعرية "سطراً") شعرياً، مراوحاً في توزيعه لسطوره الشعرية بين تمثلات السوناتا في أنسابها بين بترارك وسبنسر وشكسبير.
السوناتا في هيكلها المقسم إلى مقطع ثماني Octave يطرح وضعية ذات توتر وشحنة عالية عاطفياً، ومقطع سداسي Sestet يعمل على تخفيف الشحنة السابقة عليه ومعادلة توترها العالي ، هي مرآة لذلك المخطط الحسابي لأفلاطون الذي يقرأ العلاقة الهندسية بين "النفس" و "الكون"، وكان أوائل مبتكري السونيتات قد حاولوا محاكاة تلك الهندسة عن طريق تتبع خطى "الأنغام غير المسموعة" من "موسيقى الروح الإنسانية" كما يصفها الناقد جون كيتس. ونرى الكثير من الصحة فيما ذهب إليه بعض النقاد من حدود المحاججة أن ابتكار شكل السونيت كان إيذاناً بفجر الفكر و الأدب الحديثين ، باعتبار السونيت هي أول الأشكال الغنائية التي تخاطب "الوعي الذاتي" أو تتناول "الذات في حالة صراع".
ولعل قراءة تاريخ السونيت كصورة شعرية تعبيرية ، تحيلنا إلى النسق الفكري المميز للمرحلة التاريخية التي شهدت ولادة السونيت، على مطالع القرن الـ13 في إيطاليا حيث كان اضمحلال الامبراطورية الرومانية مفسحاً المجال أمام نقاشين حاسمين في الوعي حينها:
1.التنازل عن نموذج الإله البطل لصالح الإنسان العادي.
2.التنازل عن السلوك البطولي التطهيري القدري لصالح السلوك الفردي الوجداني العاطفي ، و الإنتقال من النشيد الوجداني إلى قصيدة الحب.
ولكن مالداعي لطرق الشاعر باب ذلك الصنف الغربي (؟!) من الشعر؟
فنار السونيت التي انتشرت في هشيم الكثير من الثقافات الانسانية قافزة فوق عديد التفاصيل للزمان و المكان ، من غوته وريكله في ألمانيا ، إلى بودليير وفرلين ورامبو في فرنسا، إلى غارسيا لوركا وأنتونيو فيريرا في إسبانيا ، تعود بشرارتها الأولى باجماع المصادر الأدبية أن أول من نظم ذلك الشكل الشعري كان جياكومو دي لنتينو (1188 – 1240) ، من غير اعتماد على ترانيم ومواثيق غنائية محايثة له (أشعار التروبادور و البروفنسيال)، بل طور شكلاً غنائياً مقتبساً من فلاحي صقلية وموسيقاهم المكانية ذات العلاقة الوثيقة الصلة بالحيزالمكاني من حيث بعده عن سلطة الدولة و أمكنتها الجمعية الممأسسة إلى فضاء الريف الحر ، حيث الزمن الأكثر رخاوة وبطأً، وهو ذلك الفن الذي يدين في أصله إلى شعر الغزل العربي الأندلسي و موشحاته ، وقد تناقله العرب المقيمون في صقلية ، ثم كان من واجل من أتى بعده أن يكمل المشوار : دانتي لأليغييري وفرانسيكو بترارك، وصولا إلى شكسبير وجون ملتون وسبنسر.
لذا فـ"سرير الغريبة" في سونتاته هو استرداد لبضاعة عربية ثمينة ضلت طريقها ضمن الكثير مما ضل طريقه منا إلينا، فأكلمت طريقاً حراً من مواريث الهوان و الغربة و الاستلاب في إرث غرناطة ، إلى فضاء أكمل وأكثر غنىً و فتنةً.
وحتى مع ذلك ، فإن شاعرنا هاهنا لا يقوم بنسخ بنيوي ميكانيكي للسونتات ، وإلا فهو لا يجدد في استخدام فضاء السوناتا لاحتواء جدلية "المعنى" و "الدلالة" ، إنما هو يوظف تجديداً موسيقياً لايخفى على ذائقة المتخصص و المتذوق ظله الموسيقي في جسد البنية الشعرية الدرويشية كاملة ، إذ أن التجديد الموسيقي في السوناتا الدرويشية لا يكون ضمن لمسة الشاعر التركيبية المجددة في السوناتا ، من دون الإخلال بعضوية تعريف السوناتا من حيث أبياتها الأربعة عشر، ولكن بالتحديث و التجديد في شرط عضوي آخر للسوناتا وهو "إنهاء السطر الشعري بقافية منضوية في التصميم الثابت لهندسة القافية للسوناتا".
فبينما أسقط درويش القافية في سوناتاته الأولى، حيث كاد أن "يبعثر روحية الهندسة بأسرها" ، عوض ذلك بتواتر "الأصوات الواحدة" أو التقفية الثنائية. أما في السوناتا الثالثة فقد اعتمد بنية تقفية مختلفة ، وإن كانت متسقة صوتياً وحرفياً في هندستها . وهكذا يداعب الشاعر البنية الموسيقية و التركيبية للسوناتا فيعيد موضعتها بشكل مميز مؤكدا على القاعدة النقدية التي تقول أن الشعر محض ثورة:
"حريركما ساخن، وعلى الناي أن يتأنى قليلا
ويصقل سوناتة، عندما تقعان علي غموضا جميلا
كمعنى على أهبة العري، لا يستطيع الوصولا
ولا الانتظار الطويل أمام الكلام، فيختارني عتبة
أحب من الشعر عفوية النثر و الصورة الحافية
بلا قمر للبلاغة: حين تسيرين حافية تترك القافية
جماع الكلام، وينكسر الوزن في ذروة التجربة"
معيداً للعروض في الشعر و اللغة و الإدراك أبهتها وثرائها في عصر يكاد يكون الفكر العربي أقرب ما يكون للإدراك المادي للفن في صورته المادية الاستهلاكية.
V
يرى غير قليل من النقاد ان انتقال بعض الآداب "من مرحلة السمعية إلى مرحلة البصرية –مثل الشعر العربي- له أثره البالغ في تكييف بنيته، إذ أن الانشاد كان يجعل القيم الموسيقية في الشعر القديم هي الحاسمة في تحديد قيمته، أما القراءة التي تجعله كتابياً فهي تبرز في تكوينه عناصر تشكيلية مكانية مختلفة عن العنصر الزمني الأول نسبياً "، في إشارة للتأثير التخيلي للأداب ودلالتها بين الموقفية و التجريد.
وقد يصح ذلك على ما يمتد إليه ظله في الكثير من – مايمكننا تسميته- شعر الحداثة، ولكن للمعمار الدرويشي هيكل موسيقي شفاهي يأبى طاعة ذلك الظل ، معيدا التذكرة بأن المعاصر يمكن أن يقارب الماضوي في موسيقية الشفاهى، من حيث "أن الثقافات الشفاهية الخالصة يمكن أن تولد أشكالا فنية للقول ذات حذق ومهارة"، تلك الموسيقى الشفاهية التي أسست لها أول ما أسست النصوص اللاهوتية و الدينية ، التي اعتمدت "الاعجاز" و "الابهام" و "الموسيقى" و "الإيقاع" كعوامل "تكثيف" و"تفكيك" ، لإحداث التأثير المناسب في المتلقي ،العقل الباطن و الإدراك.
فمثلا ماضمن للأوديسا والالياذة وهما البنيتان الشعريتان الموسيقيتان في الأدب الغربي الأهم –من الأهم- هو ما وصفه جان جاك روسو مستشهدا برموز لاهوتية أن "هوميروس ومعاصريه من الاغريق كانوا في أغلب الظن لايعرفون الكتابة" وذلك فيما عرف بـ"المسألة الهومرية" في الأدب، والتي انبثقت في حد ذاتها في القرن التاسع عشر من النقد الهومري الذي تزامن نضجه مع النقد العالي للكتاب المقدس. ففي "الثقافات الشفاهية الأولية، حيث لاوجود للكلمة إلا في الصوت، دون إشارة من أي نوع إلى أي نص يدرك إدراكاً بصرياً، بل دون وعي بإمكان وجوده، تدخل ظاهراتية النغمة/الصوت ومن ثم الموسيقى إلى شعور الكائنات البشرية بالوجود ، كما تنتجه الكلمة المنطوقة" كذلك تؤثر في "حس الانسان بالكون ، و الكون بالنسبة للثقافات الشفاهية (كالشعر) حدث مستمر يقع الانسان في المركز منه. فالانسان سره العالم ، ولم يحدث أن أخذ البشر عندما كانوا يفكرون بالكون أو الدنيا أو العالم في التفكير أساساً في شيء مبسوط أمام عيونهم كما في الأطالس الحديثة (المكتوبة و المُبصرة)" فالفكر و الوعي والتعبير "القائمين على الشفاهية، يرتبطون ارتباطاً حميماً بالنظام الصوتي الذي يدركه البشر (بمجموعاتهم) ، وهو نظام يفضي إلى الاتجاه نحو المركز ونحو الداخل (...) متفقاً مع الميول التجميعية –المساعدة على الائتلاف- أكثر من الميول التحليلية التجزيئية"، وهو ماينطبق –بنظرنا- على المعمار الصوتي و الموسيقي لشعر محمود درويش.
فدرويش لدى تحليل سرير غريبته الشعري موسيقيا وصوتيا –وهو ما نراه ينطبق في الكثير من مواضع البنيان الدرويشي الشعري- نراه يختارتفاعيل البحر المتقارب وحدها وحدة دنيا وعليا ، كما اختار تفاعيل المتقارب اللينة الخافتة الجرس وسيطاً بين أوزان موسيقية ونثرية، خالقا ما اسماه بعض النقاد "التفعيلة المنثورة" و/أو "النثر التفعيلي".
لعل ذلك الفعل الثوري شعريا هو الذي دفع بدرويش للاشتغال على شؤون التقفية وتصانيفها وترانيمها وموسيقاها في "سرير الغريبة" ، وما لتلك الغربة من دلالات ودوافع ، دونما اخلال بدور التقفية التشكيلي في الموسيقى و المعنى ، فهو يقترح في ديوانه – "سرير الغريبة" فقط – ست صيغ مختلفة من التقفية الشعرية ، تراوحت – من دون ذكرها تفصيلياً بما يدفع القاريء للملل بدافع الإفراط في التخصص أو لضيق المتن الحالي – بين "التقفية المتباعدة" و "المقطعية" و "المتناوبة" و "الخفية" و "المفتوحة" و "استخدام مفردة واحدة لتوؤدي وظائف إيقاعية في التكرار وتلعب دور القافية ايضاً"
VI
يختم درويش مطالع "سرير الغريبة" – غريبته وغريبتنا وغربتنا- برائعته "طوق الحمامة الدمشقي"، و التي يستحضر فيها بعداً ثالثاً للزمان و المكان الدمشقيين ، فيحيل به دمشقاً حمامة غواية وتأمل ، تلك هي اللغة حرفاً حرفاً ، تاركاً لها وحدها عبء تأويل "الغربة" التي تجتاح الديوان ، محققاً مقولة هايدجر "عملية الفهم دائرية لا محالة" وغدامر إذ يقول: "نحن لايمكن أن نفهم إلا غذا كنا نريد أن نفهم ، أي لا يمكن أن نفهم دون أن نتيح لشيء ما أن يقال" أي أن يكون ، و الكينونة الإدراكية الأولى للأشياء هي الشعر و الموسيقى، لذا فإن كانت "كتابة القصيدة قراءة للعالم ، فإن قراءة هذه القصيدة هي كتابة للعالم".
إليك أرحنا عازب الشعر بعدما تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها من المجد، فهي الآن غير غرائب
أبو تمام