لقد أدى سقوط النظام الديكتاتوري الذي بناه الرئيس التونسي السابق إلى حالة من النشوة في العالم العربي، ليس فقط لسقوط رئيس من أحسن تلاميذ الرأسمالية الدولية ومن أكثرهم شمولية واستبدادا ولكن أيضا لأن الشعب العربي وجد أخيرا المقولة السحرية التي ستحرره من الديكتاتورية ألا وهي: "الشعب هو الحل". هذه النشوة، التي عاشها العالم العربي، قابلها موقف موحد وغريب في تناغمه بين الحكومات الغربية والأنظمة العربية. فإذا كانت الشعوب الغربية وخاصة المتعاطفين مع الحركات اليسارية مبتهجة بهذا الإنجاز فإن الأنظمة السياسية الغربية عموما عبرت عن نفاق واضح وتساوق لا مثيل له مع الجلاد في البداية ، ثم تنكرت له عندما أدركت أنه ساقط لا محالة. هذا النفاق الذي يأخذ شكل مواقف سياسية معلنة هو نتيجة تصورات وصور نمطية حول العرب والمسلمين تأسست وانغرست في المخيال الغربي مع مرور السنين. ومن حسنات الثورة التونسية أنها زلزلت هذه الأفكار والمقاربات وأثبتت زيفها وعدم صحتها كمدخل لفهم العالم العربي.
فالمتتبع الحاذق للشؤون العربية والإسلامية واعي تمام الوعي بوجود الكثير من المسلمات والأسس الفكرية التي أسستها المعاهد البحثية في الغرب—عبر صيرورة تاريخية مركبة ومعقدة—يتم خلالها تفريخ الأفكار التي يتم توظيفها فيما بعد لاتخاذ القرارات السياسية والإستراتجية المتعلقة بالعالم العربي. المتتبع للشأن الأكاديمي الغربي سيلاحظ بلا شك أن الثورة التونسية أسقطت الكثير من هده المسلمات الغربية النابعة من قلب التقاليد الإستشراقية التي حللها بل فضحها، المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد. إن سقوط نظام بن علي وهروبه إلى السعودية لا يعني فقط سقوط نظام حكم دكتاتوري مستبد حكم بالحديد والنار طيلة عقدين من الزمن، بل شكل هذا السقوط سقوطا مدويا للكثير من البحوث الأكاديمية والمقاربات السياسية الخاطئة للدول الغربية في تعاملها مع الشعوب العربية وتأييدها المطلق للديكتاتورية كوسيلة للحفاظ على مصالحها.
و يمكننا إجمال المفاهيم الجاهزةوالمسبقة التي سقطت بسقوط نظام بن علي فيما يلي:
سقط مفهوم كون العرب ظاهرة صوتية تفتقد إلى الفعل. فثورة تونس الكرامة بينت أن الشعوب العربية ليست ميتة ولا تنفعل فقط لأنها تستطيع أن تأخذ زمام المبادرة وتنظيم نفسها في مواجهة الظلم. إن القول بأن الشعوب العربية ظاهرة صوتية كان نابعا من عدم فاعلية المسيرات المليونية التي تسيرها الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية العربية في بلدانها كلما تعرض العرب للظلم. إلا أن أصحاب هذا القول من العرب، و من يشاطرهم هذا النوع من التفكير، لم يستوعبوا أبدا الإختلافات الموجودة بين التفاعل مع قضايا قومية فوق-وطنية وبين التفاعل مع قضايا داخلية لها تأثير مباشر على حياة المواطنين. الدرس التونسي أسقط هذه الفكرة وبين أن العرب فاعلون وأحياء ويستطيعون التغيير و أكثر من ذلك قادرين على المبادرة. فالشباب العربي تغير وارتفعت نسبة المتعلمين فيه كما أن هذه الفئات الشابة باتت تطرح الأسئلة المحرجة التي لم يكن مسموحا لها بطرحها في السابق أبدا. فهناك تغيير فكري جذري حدث في البلدان العربية كانت من نتائجه سقوط فكرة المحرم سياسيا و فكرة الحق الإلهي في السلطة. فالشعب التونسي بين أنه هو من يمتلك الحق الإلهي في تفويض من يشاء والثورة على من يشاء بعد إخلال الممسك بالسلطة بالعقد الإجتماعي.
سقطت نظرية المستبد العادل الذي يحقق التنمية الإقتصادية. هذا النوع من التفكير الذي ينطوي على احتقار وازدراء كبيرين لكرامة الإنسان كان شعارا للكثير من أصدقاء بن علي الغربيين. فالإنسان العربي حسب هذا التيار لا يحتاج إلى حرية الرأي والتعبير والديمقراطية وتكافؤ الفرص مادامت الحكومة توفر له الأكل والتطبيب والشغل. فهذا القول يفترض أن الإنسان العربي بدائي أو ربما لا يعرف ما يفعل بهذه الحقوق إذا منحت له. الأدهى والأمر أن هؤلاء ذهبوا بعيدا حينما اعتبروا هذه الواجبات الطبيعية ،المفروض أن توفرها الدولة العصرية لكل مواطنيها بدون تمييز باعتبارها جزء من واجبات الدولة تجاه المجتمع، نوعا من الترف يقايضون به حقهم في الحرية والتعبير الحر والعدالة الإجتماعية وبناء المؤسسات. الثورة التونسية أسقطت هذه المقولات وبينت أن الإنسان العربي يحتاج إلى البيئة الديمقراطية كما يحتاجها أي مواطن في الغرب. فالإنسان يعشق الحرية سواء كان في الغرب أو الشرق. ولاشك أن هذه الثورة وضعت على المحك اليوم مصداقية الكثير من المؤسسات الدولية المتخصصة، خاصة فيما يتعلق بتلك التي تقوم بإصدارالتقارير الدولية التي تضع تونس على قائمة الدول النامية في مجالات التنمية الإقتصادية والإجتماعية. هذا التناقض بين واقع الشعب التونسي وخلاصات هذه التقارير كفيل بأن يؤشر إلى علاقات المصلحة المتبادلة بين هذه المؤسسات والأنظمة الفاسدة في كل بقاع العالم. هذه التقارير كانت دائما وسيلة أخرى لتنفيذ سياسات الإستعمار الجديد ومنح عذرية سياسية لأنظمة تعرف قبل غيرها أنها عفنة حتى النخاع. ثورة تونس الكرامة أسقطت نزاهة بعض هذه المؤسسات وبينت بهتانها وعدم تناغم معاييرها مع واقع الشعوب. لقد كان كل هم هذه المؤسسات الدولية هو تزويق وجه الاستبداد بمساحيق تجميل التنمية الاقتصادية التي لم تتحقق، وحتى لو تحققت فإن الشعب آخر من يستفيد منها.
سقطت نظرية أن العرب لا يستطيعون القيادة بل يقادون (they cannot lead, they need to be led) هذه النظرية العنصرية التي تقسم الشعوب إلى قسم يمتلك الإرادة والقدرة على القيادة، وقسم يفتقر إلى هذه الإرادة ويحتاج إلى الشعوب الناضجة—الغرب طبعا—لقيادته. فالشعب التونسي لم تأطره النقابات ولا الأحزاب السياسية لأنه قام بثورة شعبية انطلقت من الشعب وأطرها الشعب. فهذه الحالة الفريدة التي سقطت فيها كل مسلمات الثورات في العالم—على اعتبار أن لكل ثورة رأس حربة—بينت أن الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج تستطيع أن تسير نفسها وتحمي كيانها دون الإنجرار إلى الحرب الأهلية أو الفوضى العارمة التي يخشاها الغرب. وجدير بالذكر أن أحزاب المعارضة فقدت مصداقيتها في الكثير من البلاد العربية نظرا لخلود الزعماء على رؤوسها أو لدخولها في لعبة الشراكة، أو التناوب على السلطة، وكل هذه مسميات بينت في الأخير أن بعض الأحزاب العربية ما هي إلا امتداد للنظام الإستبدادي مشكلة من طفيليات مستعدة للإنقضاض على جثة عفنة اسمها السلطة. هده النخب الحزبية الإنتهازية لقنتها الثورة التونسية درسا بليغا إذ بينت أن القيادة تأتي من الشعب وأن قيادة المناسبات لا يحصل لها شرف قيادة ثورة.
سقطت مقاربة أن الإسلام هو الذي سيحل محل الأنظمة الفاسدة. فالشعب التونسي بين أن الشعب هو الحل وأن إرادته هي التي تحدد طبيعة نظام الحكم. فالشعب التونسي لم يطالب بحكم حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، كما أنه لم يرفع أية شعارات إسلامية إدراكا منه أن النظام الذي يريد بناءه نظام ديمقراطي مدني وحداثي قائم على احترام قيم المواطنة والتعددية الحزبية والمشاركة السياسية الحقة التي تضمن للجميع المشاركة تحت سقف الدستور. الشعب التونسي أسقط بوعي مقولة أن الديكتاتورية هي الحصن الحصين ضد المد الإسلامي أو ضد مقولة "الإسلام هو الحل" وبدلا من ذلك بين أن الشعب هو الحل. الشعب أخذ زمام المبادرة وأسقط الديكتاتورية بحناجره المدوية. الثورة التونسية بنجاحها المدني اللافت لقنت درسا بليغا لكل أولئك الذين يعتقدون—عن وعي أو عن جهل—أن إزالة متراس الشمولية والنظام البوليسي سيؤدي إلى العنف والتقتيل والرعب وصعود الملتحين إلى سدة الحكم. هذا السيناريو لم يتحقق لأن الحركة المسماة إسلامية واعية بمخاطره على وجودها، ثم لكون الشعب عبر عن رغبته في الديمقراطية منذ لحظة استرجاعه التفويض الذي اغتصبته الديكتاتورية لمدة 23 سنة. ولذلك نرى أن هذه الثورة تشكل لحظة مفصلية في تاريخ الشعوب العربية في سعيها إلى الإنغراس في الحداثة وتمثل القيم الكونية التي لا تلغي الخصوصيات الدينية والثقافية، الثورة التونسية لم تأت بالإسلاميين بل جاءت بالشعب ورغبة الشعب في وجود نظام يخدمه وليس العكس. نتمنى أن تفطن الحكومات الغربية الراعية للدكتاتوريات العربية إلى أن هذه الأخيرة هي الخطر الأكبر على مستقبل الإستقرار والإزدهار في العالم العربي.
الثورة التونسية عبرت وبشكل جلي عن الطابع المتجاوز للكثير من المقاربات الأكاديمية و المقولات الرائجة في الغرب حول كل ما يتصل بالعالم العربي والإسلامي.عندما فر بن علي من تونس فإن زلزال فراره لم يصب الحكام العرب وحدهم بالذعر بل امتدت أثاره الجانبية إلى كل المشتغلين في حقل دراسات الشرق الأوسط خاصة في الجانب المتعلق منها بالسياسة والديمقراطية.
لقد آن الأوان لبناء مفاهيم جديدة تأخذ بعين الإعتبار نضج المجتمعات العربية وتطور نظرتها إلى العلامة بين السلطة والمجتمع، وكذلك وجود رصيد خام من الشباب والشابات لم يعد الأكل والشرب والمتعة الجنسية همه الأوحد. لقد وصل الشعب العربي إلى مرحلة ما بعد الدولة الدينية، فحتى لو أرادت الحركات الدينية أن تستولي على السلطة فإن الشعوب لن تقبل نظرا لترسخ فكرة المشاركة وعدم إلغاء الآخر في المجتمعات العربية الحديثة. الثورة التونسية بينت أن الدين لم يعد طوق النجاة الذي يلجأ إليه الشبان والشابات العرب لحل مشاكلهم مع السلطة، لقد رأيناها مكتوبة بالفرنسية والإنجليزية وبكل لغات العال، إنها المفتاح السحري الذي تفهمه كل شعوب العالم، إسمها الديمقراطية. هذا ماتريده الشعوب العربية. الديمقراطية المؤسسة على تكافوء الفرص، العدالة الإجتماعية، التداول السلمي للسلطة، التوزيع العادل للخيرات الإقتصادية وأنظمة سياسية ذات تمثيلية غير مغشوشة. ديمقراطية يكون للشعب فيها الكلام الأول والأخير.
خلاصة القول: لقد مضى زمن إغلاق البلدان والإحتفاظ بالمفاتيح في الأقبية المظلمة. فنور الحرية سطع على كل الدهاليز المظلمة للديكتاتورية والإستبداد وأسقط جدار الخوف وبين وجوه الجلادين وفضح أفعالهم في "يوتوب". فالإعلام الإجتماعي حد من قدرة الديكتاتورية على المناورة ولم يعد لها من بديل سوى أن تسمع صوت الشعب أو تسقط. أما الأكاديمية الغربية فيجب أن تتجاوز نظرياتها المتهرئة في تحليلها للشعوب العربية التي شيعها الشعب التونسي، بثورته السلمية، إلى مثواها الأخير.