ست سنوات سجن وعدم مزاولة الإخراج لعشرين عاماً وعدم الاتصال بالصحفين هي بعض الأحكام الصادرة بحق المخرج الإيراني جعفر بناهي (ت. 1960) ومجموعة من زملاءه عن محكمة إيرانية في العشرين من ديسمبر الماضي. والتهمة المساقة هي تشويه صورة إيران والقيام بدعاية مغرضة ضد النظام. نظام يبدو أنه أفلس إلى هذه الدرجة فأصبح يخاف من أفلام بناهي التي تتناول بالدرجة الاولى قضايا إجتماعية. وكأن هذا النظام يريد أن يطلق رصاصة تغتال أحلام جعفر بناهي، الأحلام المستوحاة من الواقع، كما يقول في الرسالة التي وجهها إلى مهرجان البرليناله السينمائي (إنعقد بين 10-20 فبراير 2011).
بدت إزابيلا روسوليني، رئيسة لجنة التحكيم الرئيسية في مهرجان هذا العام، تغالب دموعها وهي تقرأ رسالة المخرج الايراني جعفر بناهي عضو لجنة التحكيم الغائب في حفل إفتتاح المهرجان في العاشر من الشهر الجاري أمام جمع من السينمائيين الاوربيين والعالميين كالأخوين كوين. فصدع صوت التصفيق في القاعة حالما إنتهت من قراءة رسالته، تلك القاعة التي تتسع لأكثر من الف شخص ووقف الجميع تحية لهذا المخرج الذي بقي كرسيه كعضو في لجنة تحكيم هذا العام خالياً، إلا من اليافطة التي تحمل هذا الإسم. كما خصصت الكثير من الصحف الألمانية تغطية واسعة ضمن صفحاتها لهذا المخرج وأعماله.
في فبراير من عام 2010 أعلن منظمو مهرجان البرليناله عن نيتهم إستضافة بناهي في مهرجان هذا العام كعضو في لجنة التحكيم. بعد فترة وجيزة من هذا الإعلان ألقي القبض عليه وبدأت محاكمته في إيران ليصدر حكم بحقه وبحق مجموعة أخرى من العاملين في مجال السينما كانت تعمل معه. بناهي طوى خمس عقود من حياته. كرس حوالي الثلاث منها للسينما كمنتج ومخرج وحصلت أفلامه على جوائز عالمية.
درس بناهي الذي ينحدر من أصول أذربيجانية الإخراج التلفزيوني والسينمائي في طهران وعمل كمساعد مخرج مع المخرج الإيراني الشهير عباس كيروستامي. في عام 95 كان أول تتويج عالمي لأعماله في مهرجان كان حينما حصل فيلمه ”البالون الأبيض“ على جائزة الكاميرا الذهبية، تلاها حصوله عام 97 على جائزة مهرجان لوكارنو عن فيلمه ”المرآة“ ومن ثم عام 2000 حصوله على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عن فيلمه ”الدائرة“. وفي عام 2006 حصل على جائزة الدب الفضي في مهرجان البرليناله عن فيمله ”اوفسايد“.
يبدو بأن النظام الايراني على حافة الافلاس! وإلا لماذا يعتقل ويوجه تهمة لبناهي بأنه كان يخطط لإعداد فيلم عن الثورة الخضراء التي كان قد دعمها بصراحة؟ كما أيد بناهي موسوي بعد الإنتخابات الأخيرة. هذا السينمائي الذي قبض عليه هو وزوجته وابنته في مارس في العام الماضي وسجن دون أي محاكمة أو تهمة توجه إليه لمدة ثلاث اشهر لم يتوقف عن رفع شعار الحرية. فدخل في إضراب عن الطعام ولم يفرج عنه إلا في شهر يونيو بكفالة تصل قيمتها إلى 200 الف دولار أمريكي وكان قد فقد الكثير من وزنه بعد الإضراب عن الطعام ليبدو كالهيكل العظمي عندما خرج بعد سجنه. كما منع من مغادرة إيران إلى أن تتم محاكمته. فكانت المحاكمة في ديسمبر والحكم بالسجن ومحاولة لإغتيال أحلامه، كما ألمح هو. هذه الأحلام تحدث عنها بناهي في رسالته الموجهة إلى جمهور مهرجان البرليناله مع العلم أن ذلك ربما يكون له عواقب وخيمة إضافية عليه وعلى عائلته.
ولعل بناهي يجد عزاء في حصول مخرج إيراني آخر وهو أصغر فرهادي على جائزة الدب الذهبي هذا العام عن فيلمه ”طلاق نادروسيمين“. حاول فرهادي توجيه كلمة حذرة تحية لجعفر بناهي ربما لأنه يعرف أنه بعد ساعات قليله سيكون هو الآخر بين مخالب النظام الإيراني.
لعل المخرج الإيراني لن يحتاج عشرين عاماً أخرى من الإنتظار كي يسمح له بعمل فيلم أخر. ألم نقل بعد الثورة التونسية أن ما حدث في تونس لا يمكن أن يحدث في مصر! فلنقل إذا أن ما حدث في مصر لا يمكن، إلا أن يحدث في إيران وكل على طريقته.
هنا كلمة جعفر بناهي التي قرأتها إزابيلا روسليني في إفتتاحية مهرجان برلين السينمائي البرليناله مترجمة إلى العربية نقلاً عن الألمانية عن موقع البرليناله:
”في عالم صانع السينما يتمازج الحلم والواقع ببعضهما البعض. ويستغل صانع السينما الواقع كينبوع للإلهام، فيرسم الواقع بألوان من نسج خياله. وبهذا ينتج فيلماً يحمل آماله وأحلامه بين طياته ويجعلها مرئية للعالم.
الواقع هو أنني منعت من مزاولة مهنتي كمخرج دون أي محاكمة وذلك منذ خمس سنوات. والآن تمت محاكمتي بشكل رسمي ومنعت للعشرين سنة القادمة من مزاولة هذه المهنة. وعلى الرغم من ذلك سأستمر بخيالي في تحقيق أحلامي وصنع أفلام بهذا الخيال مستوحاة من هذه الأحلام. كصانع أفلام تتناول بالدرجة الأولى قضايا إجتماعية، علي أن اتعامل مع الوضع الجديد، الذي يفرض علي ألا اصور مشاكل وهموم الحياة اليومية لأبناء شعبي. إلا أنني لن أتوقف عن الحلم بأن جميع هذه المشاكل بعد عشرين عاماً ستختفي وأنني سأتمكن عندئذ، من إخراج أفلام عن السلام والرفاه الإجتماعي في بلدي.
الحقيقة أنهم يمنعونني ولمدة عشرين عاماً من التفكير والكتابة. لكنهم لن يتمكنوا من منعي من الحلم وستحل الحرية والتفكير الحر مكان الملاحقات. ولعشرين عاماً سيمنعونني من أن أطل على العالم ولكن أتمنى بعد أن أخرج من السجن أن أسافر عبر عالم، تكون قد سقطت فيه الحدود الجغرافية والعرقية والايديولوجية. عالم يعيش فيه الناس سواسية وبسلام دون الإلتفات إلى عقائدهم ومعتقداتهم.
حكم علي بالسكوت لمدة عشرين عاماً ولكن في أحلامي أصرخ باحثاً عن زمن نكون فيه متسامحين مع بعضنا البعض، زمن نحترم فيه آراءنا المختلفة ونعيش واحداً من أجل الأخر. في نهاية الأمر يقضي الحكم علي بأن أقضي ست سنوات وراء القضبان. في السنوات الست القادمة سأعيش مع الأمل، بأن تتحقق أحلامي. أتمنى أن يقوم زملائي المخرجين في كل زاوية من العالم، بإخراج أفلام عظيمة بهذه الفترة بحيث أشعر بالحماس والرغبة في العيش في هذا العالم الذي حلموا به بأعمالهم.
من الآن فصاعداً وللعشرين عاماً القادمة حكم علي بالسكوت. وأجبر بأن لا أرى وأجبر على ألا أفكر. وأجبر على ألا أصنع أفلاماً. ساواجه الواقع والسجن وأتمنى بعد تحريري أن أشاهد أحلامي في أفلامكم : على أمل أن أجد هناك ما سلب مني.“
جعفر بناهي