لقد كان لافتا للنظر وجود حملة شرسة استعملت فيها كل الوسائل المتاحة من إعلام تقليدي وإلكتروني وكذلك الإعلام الفتاك الجديد ألا وهو سلاح الاعلام الإجتماعي للدفاع عن فكرة واحدة ووحيدة وهي الإستثناء المغربي. إذ يجب الاعتراف باختلاف المغرب كبلد وجغرافيا وتنوع ثقافي وتاريخي عن بقية البلاد العربية فإنه في نفس الوقت من الضروري مساءلة هذا الإستثناء في بعديه السياسي والإجتماعي. من الضروري مساءلة هذا الإستثناء على ضوء العوامل التي أدت إلى انفجار الثورات في البلدان العربية الأخرى. فإذا بين لنا التحليل العلمي الدقيق انتفاء هذه الأسباب من البيئة السياسية والإجتماعية المغربية، فإننا سنكون سعداء بالإتفاق مع مروجي فكرة الإستثناء المغربي وسيكون جحوداً بل وكفراً بالوطن وقيمه أن يشارك المرء في التظاهر من أجل التظاهر فقط. لذلك لابد من طرح مجموعة من الأسئلة ستكون الإجابة عنها بمثابة خارطة الطريق التي ستحدد لنا درجة ومدى مصداقية وصحة الإستثناء المغربي. ما الذي يجعل المغرب مختلفًا عن بقية البلدان العربية الأخرى ويجعله في منأى عن الثورة الشعبية والرغبة في التغيير التي عبرت عنها كل الشعوب العربية منذ بداية سنة 2011؟ هل الإستثناء المغربي مستند على تحليل واقعي أم على رغبات عاطفية لمجموعة من النخب الإقتصادية والسياسية المستفيدة من الوضع القائم؟ كيف يمكن للمغرب أن يكون استثناء فعلاً في هذه الصحراء الديكتاتورية العربية ويقدم نموذجاً للتغيير السلس المستجيب لتطلعات الشعب ويقي البلاد من الإنزلاقات الخطيرة لثورة قد تكون نتائجها مختلفة عن بقية البلدان العربية؟
إن الإنتقال السلس للسلطة سنة 1999 من ملك ساد وحكم لمدة ثلاثين سنة إلى ملك آخر شاب بعث الأمل في الشعب وفي المستقبل جعل المغرب بالفعل يشكل استثناء بين الدول العربية التي تعيش مخاض الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، باعتبار أن هذا التغيير سمح بأخذ المبادرة وخلق نوع من الإنفتاح السياسي النسبي كإجراءات لإحداث نوع من المسافة التي لم ترق إلى مستوى القطيعة مع نظام الحكم السائد في عهد الملك الراحل. وحسب قراءتنا للوضع فإن العناصر التالية هي التي يستند عليها دعاة الإستثناء المغربي:
1. محاولة تسوية ملفات سنوات الرصاص عن طريق إحداث لجان مختصة انكبت على دراسة الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، جبر الضرر الجماعي، تنظيم دورات الإستماع لضحايا سنوات الرصاص، التعويض المادي لهم وكذلك التقدم بتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في سبيل منع تكرار الفظاعات والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في البلد. لكن كل هذه الخطوات تمت في إطار مرسوم تجنب إقرار العدالة وتقديم المسؤولين على الإنتهاكات أمام القضاء بما يبعث برسالة إلى الأجهزة على أنها ستبقى في منآى عن المحاسبة إذا أعاد التاريخ نفسه.
2. وجود رغبة في التنمية الإقتصادية والإجتماعية يقودها رئيس الدولة شخصياً في كل مناطق البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. هذه الرغبة في التنمية الإقتصادية والإجتماعية أدت إلى فك العزلة عن كثير من المناطق وتحسين ظروف عيش الساكنة في المناطق الهامشية ولكنها أدت في نفس الوقت إلى بروز طبقة جديدة من المستفيدين يؤدي شرههم وفسادهم إلى عدم ترجمة الكثير من المشاريع على أرض الواقع مما يؤدي إلى محدودية أثرها على الفئات المستهدفة. فعلى سبيل المثال ظهرت في السنوات الأخيرة طبقة يمكن تسميتها بتجار المجتمع المدني الذين تتصل بهم مؤسسات الدولة لتمنحهم مشاريع بمبالغ خيالية قبل كل زيارة رسمية إلى إحدى المدن. هذا أدى إلى بروز هذه الطبقة المحظوظة التي ربما سيأتي الوقت للحديث عنها بالتفصيل.
3. الإنفتاح النسبي في مجال حقوق الإنسان والإعلام وإشراك المجتمع المدني في تدبير بعض ملفات التنمية المحلية. فالمغرب شهد في السنين الأخيرة تعزيز الثقافة الحقوقية ونشاطاً مكثفاً للحركة الحقوقية المدنية في مختلف المجالات خاصة فيما يتعلق بتنسيقيات محاربة الغلاء. لكن الصحافة والإعلام عانيا كثيراً من التراجعات الخطيرة في السنتين الأخيرتين مما يؤشر إلى وجود مجموعات متصارعة في محيط الحكم لا يمكنها أن تتعايش مع وجود نظام ديمقراطي حداثي متوازن وشفاف يكون تحت رحمة سلطة رابعة حقيقية.
4. تأسيس بعض المجالس والمؤسسات الخاصة أو المختصة والتي يصب عملها في سبيل تحقيق نوع من الدمقرطة لمؤسسات الدولة. فديوان المظالم مثال على هذه الرغبة. المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مثال حي أيضا على الرغبة في إدماج بعض المطالب الحقوقية والإجتماعية في إطار مؤسساتي يسمح بالإشتغال عليها وتنضيج الظروف لتبنيها بشكل سلس. هذه المقاربة التي يمكن أن نطلق عليها الإنفتاح في إطار الضبط بينت محدوديتها في الكثير من الحالات باعتبار أن هذه المؤسسات تفتقد إلى القدرة على التأثير في صانع القرار نظراً لمهمتها الإستشارية وكذلك نظراً لوجود أجنحة مختلفة داخل السلطة تنطلق من مقاربات مختلفة في تعاملها مع هذه المؤسسات خاصة وأن الإحترام لا يشكل عنصراً من عناصرها.
5. محاولة خلق تناوب سياسي بإسناد الوزارة الأولى للحزب الفائز بالإنتخابات بعد القفز على هذه المرجعية الديمقراطية وتعيين تكنوقراطي كرئيس للحكومة سنة 2002 رغم فوز حزب الإتحاد الإشتراكي بأغلبية ولو ضئيلة بالإنتخابات. خطاب التناوب والإشراك في السلطة كان شعاراً—كما بينت الأيام فيما بعد—لخلق نخب جديدة تلتحق بالنخب القديمة التي شكلت على مر الزمن الشحم الذي يتغذى منه المخزن. لقد لاحظنا النهاية المأساوية لمناضلين كباراً من اليسار المغربي كانوا يزلزلون البلاد بخطبهم في البرلمان فتحولوا إلى انتهازيين كرهوا الشعب في السياسية وفي الحياة الحزبية. لقد رأينا كيف يتسابق رجال حزب وطني كبير في خدمة أجندة المخزن ضاربين بعرض الحائط أربعين سنة من المعارضة والصراع مع الحكم في سبيل الحصول على مناصب وزارية أو منافع شخصية ضيقة.
إن هذه المنجزات الكبيرة—رغم العلل التي شابتها—لا يمكن التنكر لها أو شطبها بجرة قلم ولكنها ليست كافية لكي نتحدث عن انتفاء الأسباب السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي دعت الناس للتظاهر في كل الأقطار العربية. فكما أننا قمنا بجرد المنجزات التي تحققت في البلد في السنوات الأخيرة فلابد من التفكير في الأسباب التي يمكنها أن تجعل المغرب عرضة للإحتقان الإجتماعي والسياسي. إذن ما هي المظاهر التي تجعل المغرب لا يختلف عن بقية الديكتاتوريات العربية؟
يمكن تلخيص أهم مظاهر غياب الديمقراطية في المغرب تحت العناوين التالية:
• سلطات رئيس الدولة تفوق سلطات البرلمان الذي يعتبر في كل الأعراف الديمقراطية مصدر السلطة والشرعية. طبقاً للدستور المغربي الحالي فإن المؤسسة الملكية تختار الوزير الأول ويمكنها أن تعين من تشاء دون الرجوع إلى نتائج الإنتخابات. الملك، باعتباره رئيساً للمؤسسة الملكية، رئيس مجلس الوزراء وله حق نقض كل القرارات التي تتخذها الحكومة. كما أن المؤسسة الملكية تعين كل الموظفين السامين من ولاة وعمال وكتاب عامين للوزارات. هذه المناصب تستمد شرعيتها من المؤسسة الملكية وبالتالي تصبح محاسبة من يحتلونها ضرباً من الخيال. لقد أصبح المعينون بظهير ملكي ملوكاً صغاراً في مكاتبهم لا يجرؤ أحد على محاسبتهم. إن هذا التركيز الكبير للسلطات هو نفس المشكل الذي عانت منه تونس وليبيا ومصر وبقية البلدان العربية الأخرى. لقد آن الأوان لصاحب القرار السياسي أن يتفهم أن هذه السلطات المطلقة تشكل خطراً أكبر على حكمه من وجود معارضة قوية ومتمرسة. فالمعارضة الحقيقية تشكل جزءاً لا يتجزأ من مكونات النظام الديمقراطي. المعارضة الحقيقية والوطنية متراس من متاريس الدفاع عن المؤسسات. فالمغرب أصبح ناضجاً ليتحول إلى ملكية دستورية تستند إلى الخصوصية المغربية. فالملكية ليست موضع نقاش وإنما شكلها وسلطاتها وسلطات من يشتغلون معها.
• فساد الطبقة السياسية. النخب السياسية المغربية التي شاركت في "تبذير" الشأن العام أبانت عن انتهازية وفساد عضوي في كل مكوناتها. فالسياسة في المغرب تحولت من مجال للعمل في سبيل خدمة الصالح العام إلى مجال للإتجار والإغتناء السريع. إن كل من يتوق إلى الإلتحاق بالأغنياء يمتهن السياسة فتحولت بذلك من ممارسة نبيلة يمارسها خيرة أبناء الشعوب إلى ممارسة مافيوية لمن يريد نهب المال العام. لقد أدى هذا الفساد العضوي إلى ظهور طبقة سياسية خالدة في مناصبها وكذلك استشراء ظاهرة الأسر السياسية. فجيلنا لا يعرف إلا خمسة أو ستة رؤساء للأحزاب. لكثرة ما شاهدنا نفس الوجوه نتساءل إن كانت النساء المغربيات لا ينجبن سياسيين أو أن بعض الأسر فقط هي التي تجود أرحامها برجال الدولة. بطبيعة الحال الرحم المغربي ولود من طنجة إلى الكويرة وأنجب خيرة الرجال والنساء ولكن فساد الحياة السياسية يجعل المواطنين الحقيقين يهاجرون السياسة وأهلها. ورأينا أن هذه القراءة خاطئة لأن الشرفاء تركوا الساحة وملأها المنتفعون والإنتهازيون. فعبر التاريخ عندما تفسد الطبقة السياسية "يتخرب العمران" لأن الحياة في أصلها مبنية على الخير وعندما يغيب الخير ينتشر الشر والشر يستجلب كل أنواع المحظورات.
• فساد النخب. فالنخبة هي قاطرة التطور في المجتمع، هي الرأس المفكر والمنتج للأفكار والتوجهات، كما أن مواقفها هي التي تحدد معالم الطريق لبقية أفراد المجتمع. ماذا يحدث إذن عندما تكون النخبة فاسدة أو لا تقوم بدورها التوعوي أو عندما تتحول إلى طبقة انتهازية تشغل لتحقيق أهدافها؟ الجواب بطبيعة الحال واضح في وضع كثير من النخب المغربية—سيكون ظلماً أن نقول كل النخبة لأن فيها ناس شرفاء من أكبرهم المهدي المنجرة—أنها تخلت عن لعب دورها وتحولت إلى أداة طيعة في يد المخزن الثقافي. الحصول على منصب مستشار في وزارة، ظهور في التلفزيون، دعوة إلى مهرجانات أو الحصول على منح من الوزارات المعنية أقصى ما يطمح إليه المثقف فتخلى عن دوره العضوي حسب تعبير غرامشي. هذه الحالة الشاذة للنخب المغربية بطبيعة الحال تستفيد منها نخب أخرى تنشر الشعوذة والجهل المقدس—كما يحلو للراحل محمد أركون أن يسميه—فنتجت عنها نتائج كارثية بالنسبة للمجتمع. فعندما يتحول الشاعر إلى مربي للخيول والشيوعي إلى ملاك عقاري والأستاذ الجامعي إلى "مقاول" تصبح النخبة متآمرة على المجتمع وعلى النظام السياسي الذي تظن أنها تخدمه من حيث لا تدري. فالنخب لها دور جوهري في تنبيه السياسي إلى ضرورة الإصلاح السياسي والإقتصادي و الإجتماعي لأنها المجس الذي يجس نبض المجتمع لكنها للأسف تخلت عن لعب هذا الدور في سبيل تحقيق منافع مادية أو الإرتزاق الثقافي.
• إفساد الحياة الإقتصادية. فلكي ينتعش الإقتصاد لابد له من الشفافية وبيئة سليمة تساعد الرأسمال على الإستثمار والنمو. الفساد الذي يعشش في البنية الاقتصادية للمغرب يجعل الإستثمار خائفاً—لان الرأسمال جبان بطبعه على كل حال—من الوقوع بين كماشات لوبيات اقتصادية يتحدث مسيروها عن علاقتها بصاحب القرار السياسي. هذا الفساد الإقتصادي والعلاقة العضوية بين العائلات السياسية والمتنفذين في دواليب الحكم يحرم الإقتصاد المغربي من فرص كثيرة. نفس الحالة كانت موجودة في تونس ومصر. فوجود طبقة من رجال الأعمال الفاسدين يسيطرون على مناحي الإقتصاد بتواطؤ مع أصحاب القرار السياسي (crony capitalism) يجعل المغرب لا يختلف عن بقية البلدان الأخرى التي تشهد حراكاً سياسياً هذه الأيام.
• غياب العدالة الإجتماعية ووجود فوارق صارخة بين الأغنياء والفقراء. هناك فرق شاسع بين الفئة القليلة المستفيدة من الوضع السياسي الحالي وبين الفئات الأخرى غير المستفيدة والتي تحلم بالإستفادة من خير بلد تعتبره ملكاً لها كما هو ملك لغيرها.
• عدم وجود معارضة حقيقية في البلد. فالكل يلعب في إطار مرسوم ولا أحد يجرؤ على انتقاد الممارسات السيئة الآنفة الذكر. فالمعارضة ليست شبهة. المعارضة شرف وطني تسعى لتحقيق التوازن بين السلطات ومراقبة الحاكم أو مساعديه لتقويم الإساءات المحتملة لاستعمال السلطة. ففي المغرب تحولت كلمة معارضة إلى مرادف لشق الصف الوطني، الخروج عن الإجماع الوطني وكلها في الحقيقة تعبيرات تصب في اتجاه واحد: التخلي عن المواطن وفعل أقصى ما يمكن للظفر برضى المخزن والإستيزار. لقد سمعنا "الأحزاب" تشهر ورقة المعارضة عند كل حديث عن تعديل حكومي أو تغيير في توزيع الحقائب.
• ختاماً نقول إنه لا يمكننا أن نتنكر للمكاسب الكبيرة التي تحققت للمواطنين المغاربة في العشرية الأخيرة، لكن رغم ذلك لا يمكننا الحديث عن استثناء مغربي يجعله محصناً ضد الحراك السياسي في بقية البلدان العربية. فحتى لو سلمنا بصحة الإستثناء فإن الفارق بين الأجيال المسيرة للمغرب وبين الشباب المغربي بين للغاية. فإذا كان يخطط للتوريث في المناصب الرئاسية في مصر وتونس واليمن فإن هذا التوريث حدث ويحدث بالفعل في الحكومات والأحزاب المغربية. فالحكومة المغربية حالة فريدة في العالم من حيث تركيبتها الأسرية، الأحزاب المغربية تتوارث. ناهيك عن الفوارق الطبقية الصارخة جداً، الرشوة والزبونية المنتشرة بشكل وبائي، الفساد الإنتخابي والسياسي اللذين أصبحا عملة رائجة، والزواج الكاثوليكي بين السياسة والإقتصاد، في البلاد، والتي تحولت كلها إلى عوامل تجعل فكرة الإستثناء المغربي أضغاث أحلام لا يساندها الواقع. أما السؤال الأخير فستتم الإجابة عنه في مقال مستقل.