قد يكون أبلغ دروس الثورتين المصرية والتونسية أن ثورة شعبية سلمية، يشارك فيها عشرات الألوف أو مئاتها، هي ما يمكن أن تهدم هياكل سلطة باطشة كهذه القائمة في أكثر الدول العربية. لا يعدو هذا «الدرس» أن يكون تسجيلاً لما حصل بالفعل في البلدين. لكن هذا التسجيل لما هو عارض، مبدئيا، معقول وضروري وقابل للتعميم. أو هذا ما ستحاول هذه المقالة قوله.
منذ سبعينيات القرن العشرين، وفي مناخات الحرب الباردة وما بعد هزيمة حزيران المهينة، استقرت في حكم البلدان العربية المركزية نخب سلطة لا قضية لها تسمو على البقاء الأبدي في الحكم. ولهذا الغرض عملت على تحطيم الجيش وتمزيقه، أو تقزيمه، وفي الوقت نفسه بناء وحدات عسكرية وأجهزة أمنية جبارة وموثوقة، مدربة على القسوة، ولا تأبه للحياة البشرية. وواجبها الأوحد حماية النظام من محكوميه، و«إسقاط الشعب» سياسياً. وعلى هذا النحو تم درء خطر الانقلاب العسكري الذي كان طريقة تغيير مألوفة في البلدان العربية حتى ذلك الحين.
وعن طريق تحالفات دولية وإقليمية، حصّنت النظم نفسها حيال أخطار القوى الخارجية القادرة، التي على كل حال لم تكن قوة تغييرية في بعض بلداننا إلا لوقت وجيز، بين عامي 2003 و2006، وفي سياق استعماري جديد. في المحصلة العامة قامت القوى الخارجية، بما فيها إسرائيل، بحماية الأمر الواقع في بلداننا أكثر مما بتهديده.
وإلى ذلك، تمكنت النظم العربية منذ سبعينيات القرن العشرين من تنظيف الحقل السياسي في كل منها من أية قوى سياسية مستقلة أو معارضة. القوى التي تعذرت رشوتها وتدجينها، جرى تحطيمها بقوة ساحقة. وبينما لم يعترف بها أبدا كأطراف سياسية، لم تكتف السياسة الأمنية للسلطات بقمع المعارضين، وإنما مضت إلى عزلهم عن أية قوى اجتماعية حية أيضاً. وتكميلا لخطة «إسقاط الشعب»، اعتمدت أيضاً سياسة «فرّق تسد» الاستعمارية العريقة. لا يكفي أن لا يثق الناس ببعضهم، يلزم أيضاً أن يخافوا من بعضهم، وأن ينعزلوا عن بعضهم. لا ينبغي أن يوجد «الشعب»، جماعة بشرية متقاربة الإرادة ولها مصالح متقاربة. ينبغي أن توجد «شعوب»، قبائل وطوائف وإثنيات متخاوفة. بهذا يطيب المقام للاستعمار الحاكم.
ما الذي يمكن المعارضون عمله في شروط كهذه، تدوم 30 عاما أو 40 عاما؟ الجواب ببساطة لا شيء. أو قريب جدا من لا شيء.
كانت المهمة ناجحة جداً، إلى درجة أن تنظيمات المعارضة أمست أشبه ما تكون بنبتات صحراوية، تبقى على قيد الحياة بفضل عنادها، لكن بثمن فشل نمو دائم. وبفعل دوام التصحير السياسي زمناً طويلاً، ما يقرب من جيلين، فقد انحفرت القزامة في بنيان هذه التنظيمات، إلى درجة أنه حتى لو ارتفع كابوس الاستعمار الحاكم، فليس من المرجح أن تتمكن من النمو السوي.
وحده الموت ظل منغصاً أعظم لمراكز السلطة في بلداننا. هذا لا يُغلب. وقاد الاهتداء إلى توريث الحكم على خط النسب للتغلب على هذا العائق المزعج.
وعلى هذا النحو، بدا أن السلطات نجحت في سد دروب التغيير كلها، وأخذت تعيش في عالم الأحلام السعيد: السلطة كلها طوال الزمن كله، ومعها الثروة كلها دونما حدود من أي نوع، أخلاقية أو وطنية، ومعهما الهيبة والمجد كلهما دونما حدود أيضا، تتكفل بهما أجهزة تمجيد من صنائع المتسلطين. ولم يعد أمام جمهور المحكومين، وقد اجتهدت السلطات على تمزيقهم بكل الصور وتحطيم معنوياتهم وإرهاقهم مادياً عبر استسلام غير مشروط لهذا الاستعمار المنتصر. وطوال نحو ثلاثة عقود على الأقل بدا أن المحكومين مستسلمون بالفعل. لم يعكر صفو هذه السعادة غير مجموعات إسلامية عنيفة، بدا في المحصلة أنها قدمت خدمة عظيمة للسلطات حين لعبت على ملعبها المفضل، ملعب القوة، من جهة؛ وحين تسببت في معظم البلدان المعينة بشروخ عميقة في المجتمعات المحكومة، زادتها ضعفاً أمام مستعمريها الأقوياء، من جهة ثانية.
ومنذ نهاية الحرب الباردة اكتشفت النظم التي لا مبدأ لها على الإطلاق أن مواجهة الإسلاميين سلعة مجزية في السوق السياسية الدولية، فوق كونها كفاحاً ضرورياً من أجل الخلود. وفي سياق المواجهة نفسها طور مركبها الأمني، وبمساعدة تطوعية أو مأجورة من إيديولوجيين محترفين، عقيدة تقول إن البديل الوحيد عن تلك النظم هم الإسلاميون المتشددون العنيفون، المعادون أيضا للغرب. وأن هؤلاء جنس متوحش من البشر، ينبت طبيعياً وتلقائياً في مجتمعاتنا.
على هذا النحو يظهر الاستعمار الحاكم قوة عنصرية، تسوغ حكمها الأبدي بضرب من «رسالة تحضيرية»، اجتهد المثقفون العضويون للمخابرات في تكرارها من دون كلل أو ملل.
ولقد وجدت هذه الرسالة سوقاً دولية واسعة، وسوقاً محلية لا بأس بها. كانت الأنشطة المشهدية للإسلام السلفي الجهادي تبدو برهاناً على صوابها، لكن ما كان لها أن تدوم وترسخ إلا بفضل نضال دؤوب، نهضت به أجهزة ومنابر متنوعة، دولية ومحلية. وميليشيات أيديولوجية باسلة، من هنا ومن هناك. وبهذا بلغ «إسقاط الشعب» أعلى مراحله.
عصفت الثورتان التونسية والمصرية بعالم الأحلام هذا وبأساطيره المتعوب عليها. خرجت كتل بشرية كبيرة جدا، تسمي نفسها «الشعب»، مطالبة بـ«إسقاط النظام». فعلت ذلك في مواجهة الجبابرة الأقوياء من دون أن تطلق رصاصة واحدة، ومن دون أن تهدم أو تخرب أو تنهب. حشود كبيرة، منظمة، غاضبة، لكنها تعرف هدفها، ولا تحيد عنه: رحيل الطاغية. ليس هذا هو «النظام»، لكنه واسطة عقده. مجرد خلعه إنجاز كبير. فضلا عن أنه ربما يمهد لإسقاط المزيد من ركائز النظام.
لم تكن تنظيمات المعارضة في طليعة هذه الحركات، بل بالكاد التحقت بها. مثلها أيضا المثقفون المستقلون. هذا مفهوم جداً. وينبغي أن يُبطِل تلك العادة المستمرة بقوة العطالة، المتمثلة في تقريع تنظيمات المعارضة على قصورها. ما كان في وسعها فعل شيء مهم حيال أوضاع استعمارية كهذه. وإذ هي لم تفعل شيئاً مهماً في أي من البلدان العربية، فلأنها لم تكن شيئاً مهماً أصلاً. وهي لم تكن شيئاً مهماً، لأن سياسة «النظام» كانت موجهة دوماً نحو خنقها وتقزيمها.
سلمية الحركات الاحتجاجية وسعت من قاعدة التماهي الاجتماعي بها. العنف يبعد النساء والأطفال وكبار السن. هنا حركات سلمية واعية بسلميتها وحريصة عليها. تطلب الكرامة والعدالة والحرية، وتصوغ مطالبها بلغة بسيطة وعامة، ليست «قومية» ولا دينية، ولا طبقية ضيقة. ولقد ظهر أن كثيرين جدا تحركهم هذه المطالب، وأن الطابع اللاعنفي للحركة هو بالضبط ما كان يحميها.
ليس حماية مطلقة. فقد قتل في تونس 219 مواطناً، وفي مصر فوق 300مواطن. لكن يبدو عدد الضحايا متواضعاً قياساً لإسقاط حاكمين مؤلهين، ومعهما على الأرجح القطاع الأشد فساداً وحصانة من نخبتي سلطة، بدتا قبل حين مثالين للرسوخ والجبروت. والأكيد أنه لو كانت الحركات الاحتجاجية عنيفة لطردت النساء من المجال العام، ولوحدت قطاعاً أصغر بكثير من المجتمعين التونسي والمصري، ولنالت قدراً أقل من تعاطف عربي بلغ حد التماهي، ومن تعاطف دولي مؤثر، ولكان من الأسهل على السلطات هزيمتها. ولكان عدد الضحايا حينها كبيراً جداً، وثمرة الكفاح صغيرة جداً أو معدومة.
ولعل بساطة الثورتين وشعبيتهما وإنسانيتهما هي ما سهلت أن يقتدي بهما الليبيون واليمنيون والبحرانيون، وبدرجة ما الجزائريون والأردنيون والعراقيون. وهي منبع قابليتها للتعميم. يسهّل هذه القابلية الشبه «الأخوي» لنظمنا ببعضها. وكذلك طبعاً التماهي الميسور بين شعوب بلداننا، لا بفعل الرابطة العربية وحدها، وإنما كذلك بفضل الطابع السلمي والإنساني للثورتين. وإنما لذلك شجعتا احتجاجات اجتماعية في كردستان العراق، ووُجهت كما في بلدان عربية بالقوة، وسقط عدد من الضحايا.
في المجمل، تبطل الانتفاضتان نهج القوة الماحقة الخاص بالسلطات المطلقة، وتُحيِّد أسلحتها الفتاكة، فتردّها خردة من حديد. لا ننافس القوي الجبار على قوته، ولا نلعب في ملعبه. ورغم تمرس السلطات في القتل، يُحتمل أن من شأن إطلاقها العنان لغريزتها هذه والفتك بمحكوميها المسالمين العُزّل أن يؤدي إلى انشقاق محتمل لائتلافها الذي يتفاوت ولاء مكوناته لنواة النظام الصلبة (هنا الأصل على الأرجح في «حياد» الجيش المصري أثناء الثورة)، وأن يفضي إلى ضغوط دولية يسهل من أمرها ثورة الاتصالات. لم يعد يمكن اليوم قتل عشرات الألوف من دون أن يسمع بهم أحد، ربما إلا نخب سلطة أخرى، لها مصلحة بالتواطؤ مع مشابهاتها، بما فيها «الديموقراطيات» الغربية. لكن يبدو أن عتبة الضحايا تتفاوت. يحتمل أن يقتل الطاغية الليبي الألوف من شعبه كي يصون عرشه. مثله ربما ملك البحرين. للأمر صلة، فيما يبدو، بمستوى تطور المجتمعات المعنية ونخبها، ومدى استقلال الدولة عن «النظام» فيها، أي عن الحاكم وأعوانه. مصر وتونس أكثر البلدان العربية اندماجاً، والدولة فيهما أعصى نسبياً على الاستعمار «النظامي».
ولعل ما يصح على مواجهة الاستعمار هذا يصح بالقدر نفسه على الاستعمار الاحتلالي، الإسرائيلي. هذا حصن من القوة المسلحة الفتاكة، المتطلعة إلى التأبيد مثل مستعمرينا تماماً («إسرائيل وجدت لتبقى»)، والرافضة جوهرياً للمساواة مع غيرها مثل مستعمرينا أيضاً. وهي واعية جداً أن حصنها هو «جيش الدفاع» على ما قال نتنياهو مؤخراً، و«جيش الدفاع» هذا مفرزة قتل متمرسة، لا نظير لها في الإجرام. ولعله لا شيء يضاهي نهج «إسقاط الشعب» المجرّب في بلداننا غير مثابرة إسرائيل على الإبادة السياسية للفلسطينيين وتحطيم مجتمعهم. الجميع سواء في اللاعدالة الجوهرية، وفي اللاإنسانية الجوهرية، وفي الإيمان المطلق بنجوع القوة المادية الساحقة، وفي العنصرية. نستذكر هنا أن الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، كانت التمرين الكبير الأول على مواجهة الاختلال الهائل لموازين القوة لصالح المستعمرين. وأنها كانت فعالة وديموقراطية ووطنية وناجحة جداً، أكثر بكثير من المقاومة المسلحة قبلها، وأكثر بكثير جداً من المقاومة المسلحة بعدها.
ولما كان الاستعمار أخا الاستعمار، فإن نهج الانتفاضة الأولى، وقد شرّفته مجدداً الثورات المتفجرة اليوم ضد الاستعمار الاستبدادي، هو الأصلح لمواجهة الاستعمار الإسرائيلي.
يبدو الأمر بديهياً. فالضعيف إنما يغرر بنفسه ويستدرج نفسه إلى الهزيمة إذا لعب لعبة القوة. كأن مريضاً واهنا ينازل بطل العالم في الملاكمة. أما إذا لعب في ملعبه هو، جاعلاً من إنسانيته سلاحاً للدفاع عن إنسانيته، فإنه يجر المستعمر إلى معركة يصعب أن ينجح فيها. هذا لا يمر للأسف من دون تضحيات. لكن التضحيات جسيمة اليوم، ومن دون مقابل، وفي حرب استنزاف مستمرة يخوضها الاستعمار الاستبدادي ضد الشعب.
«الشعب» الذي أسقط «النظام» في مصر وتونس هو الذي يمكن أن يسقط «النظام» في بلدان عربية أخرى. وهو الذي يمكن أن يسقط «النظام» الإسرائيلي المشابه. أسلحته الأقوى وحدته وعدالته وسلمية كفاحه.
عن جريدة السفير