لم نكن نسمع بكلمة «ثورة» سوى في الكتب والأفلام. الثورة الفرنسية، الثورة البلشفية، الثورة الإسلامية، الثورة الثقافية، الثورة الكوبية، ثورة الطلبة... كل ثورة كانت تزيد مهابة الكلمة، وتجعلها ـــــ بفضل جسامة أحداثها وعظمة أفكارها، ثم ما آلت إليه مصائرها ــ مشحونةً وملتبسة. وشقّت الكلمة حياةً لها في مخيّلاتنا. كانت الثورة تلوح في أذهاننا كاستدعاءات متخيلة للحظات استثنائية «يكافح» الجميع فيها لـ «صنع التاريخ». لحظات تشبه مرجلاً ضخماً يتضاءل حجمنا بجانبه، وينصهر فيه الجميع.
لذلك، كنا في حيرة ونحن نضع الكلمة على ألسنتنا، فكنا نتحسسها شيئاً فشيئاً، نتلعثم في نطقها كأننا نتعلم الكلام لتونا. تارةً تتملّكنا حيادية المنطق، فنفضّل استخدام كلمة انتفاضة، وتارةً أخرى تغلبنا العاطفة فنلجأ إلى كلمة ثورة. الذين سبقونا وشاركوا في معارك تحرير الميدان، وغمسوا أيديهم في مرجله كانوا أكثر حسماً منّا، نحن الذين وصلنا بعدما أصبح مكاناً آمناً، فكانوا يستخدمون كلمة الثورة بثقة. أما نحن، فنعود ونتطلع إلى الميدان، لعلّه يساعدنا على حسم أمرنا ونطق الكلمة بطلاقة. فلا نلمح لدهشتنا أثراً للأيديولوجيا التي دربنا عيوننا على تمييزها لتجنبها، ولا نرى أفكاراً عظيمة ترفرف فوق المجتمعين، ولا نشعر بصهد التاريخ اللافح وهو يغلي في المرجل، بل يهب علينا نسيم خفيف، فنحدس أنّ التاريخ لا يغلي ويزمجر فقط، بل يمكنه أن يتنفس بهدوء. وننتبه إلى أن للكلمة معاني أخرى غير التي قرأناها في الكتب.
أمام مدخل الميدان المُحرّر من ناحية كوبري قصر النيل، تربض دبابتان ضخمتان، تجاورهما ثلاثة أو أربعة موتوسيكلات «توك توك» لنقل الداخلين أو الخارجين. المدرعة التي تخترق خطوط الجبهة تقف بسلام جوار وسيلة النقل التي تدور في الأحياء الشعبية، على مشارف ميدان حداثة المدينة. غرابة المشهد وفانتازيته سترافقان من يدخل إلى الميدان، وستظلان تمزجان بين أماكن وسياقات غير متجانسة حتى يكاد الأمر يختلط عليه. حواجز التفتيش المحصنة المتتالية التي يتعيّن على المرء عبورها حتى يصل إلى ساحة الميدان، تستدعي أطيافاً من بيروت أثناء الحرب الأهلية. ودقة العمل والتنظيم الذاتي في الميدان بعدما تبخرت الدولة يستدعيان ذكرى كومونة باريس.
أما الخيمات المرتجلة من رقائق البلاستيك والعيدان الخشبية، التي يبيت فيها المعتصمون ليلاً، أو يتمدد جوارها صباحاً رجال ونساء على وجوههم أثر السهاد، فتستدعي أجواء موالد الأرياف التي تقام جوار أضرحة الأولياء. أين القاهرة من كل ذلك؟ لقد انزاحت حدود واقعيتها لتنفتح على أماكن أخرى يختلط فيها الواقعي بالمتخيل. القاهرة أصبحت مكاناً شفافاً مملوءاً بكل الاحتمالات. أو لعلها تبخرت، فباتت طبقة البهجة التي تلف الميدان الآن، حيث يبدو الأخير كأنه انبعث حياً من رماد المعارك الضروس التي دارت فوقه رحاها. ويبدو المجتمعون فيه كأنهم على موعد مع الفرح بعد كل ما أريق من دمائهم فوق أرضه. فرح تلمحه في تيار الحياة المتدفق الذي يسري في الأرواح، أو في البساطة والخفّة التي يصوغ بها الناس شعاراتهم الضاحكة.
المُعتصم في ميدان التحرير بعد تحريره يطوف صباحاً حول أرجائه، فيشترك في الهتاف، أو ينضم إلى حلقة زار تدور في الميدان لصرف العفريت الذي لا يريد أن ينصرف، أو يتحلق مع جمع حول رجل تختلط الحكمة بالجنون في ملامحه يرحّب بالحاضرين الثوار الأحرار، ويعلمهم أن تاريخ ميلادهم الحقيقي هو يوم دخولهم الميدان، لا ما هو مكتوب في شهادة ميلادهم. المُعتصم في الميدان قد يندهش من لقاء أحد أصدقاء المراهقة صدفة بين الحاضرين، أو يقف شارداً يتابع ملتحياً يرتدي جلباباً قصيراً يتبادل زجاجة مياه مع فتاة جميلة تدخّن سيجارة، أو يهيم على وجهه لعله يصادف شعاراً لم يره قبلاً. حتى يشعر بالتعب فيخرج ليجلس «على مقهى» قريب ثم يعود. وفي المساء عند اقتراب موعد حظر التجول، يقرر إذا كان سيكمل الاعتصام أم سيذهب إلى منزله ويعود صباحاً. في كل أحواله، هو مشغول بأمر واحد، هو ذلك الحدّ الذي يسعى جميع الموجودين إلى تخطيه.
مع كل يوم جديد، يهتز شيء ما في الميدان، فيسري تيار يدفع برفق ما يحيط به، ثم يصطدم بحدّ لا يراه أحد فيرتد. والجميع يشعرون بسريان التيار، فيتحرك كل منهم حركة صغيرة في اتجاه ما، ثم يدركهم انكساره وارتداده فينكشف لكل منهم حدّه الشخصي كحقيقة عارية. في كل يوم جديد، ينزاح المرء انزياحاً طفيفاً، كأن يتمتم مع أغنية «صورة» التي تبثها إذاعة الميدان بعدما ظن أنه فرغ من الأغاني الوطنية وما تمثله إلى الأبد. مع كل انزياح طفيف، تتولد تلك الرغبة الخطرة والمستعصية على الفهم بأن يتجاوز المرء حدّه الشخصي ولو مرةً واحدة.
هناك دورة تتكرر كل يوم. عندما يحين على أحدنا الدور فيها، يقول إنه ذاهب لـ «يلتحم»، والباقون يبتسمون، إذ لا تخفى عليهم علامات التنصيص التي يوضع بينها فعل الالتحام عندما يُذكر. فالفعل مضمّخ برائحة حقبة القومية البائدة، يأتي كشاهد لجملة مسكوت عنها وهي «الالتحام بقوى الشعب». بعدها، يختفي «المُلتحم» في الميدان لمدة قد تطول أو تقصر، ثم يعود ـــــ إن فعل ـــــ ويأخذ مكانه بجوارنا مرةً أخرى.
فعل الالتحام فردي يقوم به المرء عادةً وحيداً، أو برفقة شخص واحد على الأكثر. ساعتها يقومان به من دون أن يتبادلا الحديث أثناءه. والملتحم يسير ساكتاً بين الجموع، يتلاعب بقوى الجذب والطرد التي تحرّكه وسطها، يختبر المسافة بين ذاته وبينها، يفصص كتلتها إلى أفراد ثم يضمهم مرةً أخرى ليجعل منهم مجموعات. الملتحم ليس المتسكع الخالي البال، وبالتأكيد ليس الثوري المحرك للجموع، بل مَن يقوم بلعبة تبدأ بتقديم الفشل وتنتهي بمفاجأة النجاح. هو يتقمص فيها دوراً يسخر من سذاجته ليعفي نفسه من أي مسؤولية، أي دور “الملتحم بقوى الشعب”، لكنه يأمل أن آن واحد ـــــ وإلا لما تجشّم عناء التجربة ــــ أن ينفذ من هذا الفشل إلى درجة من درجات الارتباط بالخارج لم يكن يعرفها.
جائزة اللعبة التي يحصل عليها «المُلتحم» إذا حالفه النجاح، لحظة ساحرة يخرج فيها عن نفسه ليلتقي أفراداً تجاوزوا بدورهم أنفسهم وتخطّوا حدودهم، فيشعر لوهلة بأنه أصبح جزءاً من كلٍّ أكبر منه، كلّ أكثر أصالة منه ومن الجموع حوله. لا تستمر هذه الومضة سوى وهلة قصيرة كأنها حلم يقظة، يعود بعدها «المُلتحم» إلى ذاته سعيداً لأنه اختبر الوحدة فعلاً، ولأنه نجا من الذوبان فيها.
في الأيام التي سبقت جمعة التنحي، بدا واضحاً أن الميدان انغلق على نفسه ولم يعد يهتز فيه شيء. غلب عليه الطابع الكرنفالي، وكثرت الموبايلات المصوّبة كاميراتها نحو المجتمعين، وأصبح قبلة لسيّاح محليين بسطاء غير معنيين بمشروع مجاوزة الحدّ، بل هم مدفوعون برغبة الفسحة. هكذا كاد الميدان يتحول إلى مزار سياحي مغلق بإمكان النظام أن يتعايش معه عبر اختزال كل الأفعال الممكنة إلى فعل واحد هو الفرجة. عندها أدركنا أن الميدان نفسه أصبح حدّاً، في طريقه ليُتمّ دورته ويتحول أسطورةً أو “كيتشاً”، فتسرب كثيرون ليلة وراء ليلة من الميدان ليعتصموا أمام مجلس الشعب أو أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون.
وفي ظهيرة جمعة التنحي، خرجنا للمرة الأخيرة من الميدان. قال قائل لم يبقَ سوى الذهاب إلى القصر. فأدركنا في الطريق الطويل للمسيرة الصغيرة أن بهجة التمكن من الخروج من الميدان تعادل بهجة دخوله. فقد أصبح مكاناً مفتوحاً مرةً أخرى على الخارج، يذهب إلى المدينة ويسير فيها ولا ينتظر أن تأتي هي إليه كي تشاهده. فقط عندما خرجنا من الميدان، اعتقدنا أننا تعلّمنا كلمة ثورة.
* عن الأخبار اللبنانية