في تاريخ الثورات المنتصرة لا يقف النظام القديم في موضع المعترف بالهزيمة، وما يقوم به لمحاولة استعادة وضعه السابق، يشير إلى حدود وآفاق الثورة المضادة التي تعتمل للإجهاز على الثورة الجديدة أو لإستيعابها وتحويلها لمجرد أيقونة مفرغة من مضمونها ومكاسبها. والتي تعبد الطريق لعودة أساليب الحكم البائد في ثوب جديد ولا مانع وقتها من التشدق بشعارات الثورة ومبادئها.
ومنذ بداية ثورتنا المصرية وبعد انتصارها التاريخي بإسقاط الديكتاتور مبارك، وحتى وقتنا الراهن لم تصمت تلك الدعاية الرخيصة التي تحاول النيل منها ومن مكتسباتها. الهدف واضح تماما فذيول النظام السابق تحاول الالتفاف والتحايل لإجهاض العمل الثوري وإيقاف مظاهرات الميادين والاحتجاجات الاجتماعية تحت أقاويل من عينة “فلنتوقف عند هذا الحد ولنجن ثمار الثورة”، “فلنبن بلدنا بإعطاء الفرصة للحكومات الجديدة”، “فلنكف عن الاحتجاجات فالوقت لا يسمح بمزيد من الخراب وتعطيل المصالح” وأخيرا وليس أخرا المطالبة بـ”عودة أجهزة الأمن للعب دورها في حماية المواطنين”. فماذا يريد أصحاب تلك الدعوات ومن يرددونها عن وعي أو بدون؟
منذ لحظة البداية وحتى انسحاب أجهزة القمع المتمثلة في وزارة الداخلية وقوات أمنها في 28 يناير الماضي، بدأت الثورة المضادة تطل برأسها. فبعد أن ألقى الديكتاتور المخلوع خطابه الأول في نفس اليوم والذي أعلن فيه إقالته للحكومة بدأت تسري الإشاعات عن أعمال بلطجة ونهب وترويع للمواطنين في منازلهم. كانت الخطة معدة سلفا تهريب أصحاب السوابق من السجون ليعيثوا فسادا في الشوارع كمحاولة للضغط على الأهالي لسحب أبنائهم المتظاهرين من الميادين لحماية البيوت والأملاك والأرواح. وبعد أن ألقى رئيس العصابة خطابه الثاني في الأول من فبراير ليعلن فيه نيته عدم الترشح مرة ثانية للرئاسة وتعيين نائبا له ليخلق حالة محدودة من التعاطف معه، انتشرت في نفس اليوم وفي صباح اليوم الثاني مظاهرات مأجورة من البلطجية وعناصر الحزب الوطني تطالب بفض الاحتجاجات واسعة النطاق والأعداد وبقاء مبارك في السلطة حماية للوطن، وبالفعل ذهب هؤلاء مسنودين من عناصر أمنية وبدفع من قيادات النظام للانقضاض على متظاهري ميدان التحرير في معركة دارت رحاها على مدار يومين كتب فيها الثوار بدمائهم ملحمة انتصارهم.
امتزجت هذه الأعمال العدوانية بدعاية قذرة حول وجبات كنتاكي وعشرات اليوروهات التي يتقاضاها الثوار نظير استمرارهم في التظاهر. ولكن في كل مرة كان النظام يحاول النيل من المتظاهرين كان السحر ينقلب على الساحر وتصبح النتيجة مزيد من الصلابة والصمود وزيادة عددية مذهلة في المصممين على استكمال ثورتهم وإنجاحها.
ولكن، وللأسف، ظلت هذه الدعاية تجد لها صدى عند من يسمعونها ولم يشاركوا قط في أي من أعمال الثورة، فإغلاق البنوك وتوقفها عن صرف الرواتب وانتشار أعمال البلطجة وغياب الشرطة لأسابيع وارتفاع أسعار السلع الأساسية بسبب حظر التجول وغلق مؤسسات التعليم والأزمات المرورية وتوقف البورصة تم ردها عبر حيل وادعاءات بالثوار وتظاهراتهم.
وبعد التنحي بدأت أصوات تتعالى في المطالبة بالعودة للمنازل وفض الاعتصامات، ومنها انطلقت الدعاية بوصف الاحتجاجات الاجتماعية بأنها أتت في غير وقتها، بل وصلت إلى حد القول بأن عناصر النظام السابق هي التي تحركها لإحراج الجيش والعمل على هز الاستقرار.
كانت الأيام الأخيرة لاعتصامات ميدان التحرير وميادين مصر المليونية، قد شهدت دخول الطبقة العاملة لحلبة الصراع، وهو ما سرع من وتيرة سيناريو التنحي والذي حدث بالفعل في 11 من فبراير ليعلن نجاح أول مطلب للثورة وهو إسقاط الديكتاتور. ارتبطت هذه الاحتجاجات بأجواء الثورة ومطالبها للتخلص من النظام برمته واجتثاث عناصره الفاسدة التي كانت تنخر في المؤسسات والشركات، لذلك ارتبطت المطالب الاجتماعية بالسياسية، فزيادة الأجور وتثبيت العمالة المؤقتة وتحسين مجمل شروط العمل مرهون بالقضاء على سياسات النهب والفساد في الإدارات التابعة للنظام وحكومته وحزبه الحاكم مما يعني وقف نزيف الإنتاج وإعادة توزيع عادل في بند الأجور.
الدعاية المفضوحة التي حاول بقايا النظام السابق، والتي ما زالت موجودة تدير الحكم والثروة، عبر المطالبة بالوقف الفوري لهذه الاحتجاجات لتعود عجلة الإنتاج للدوران تعويضا عما لحق بها في أيام الثورة، دون الالتفات للمطالب العمالية واكبها زيادة هزيلة في الأجور بواقع 15% من الأجر الأساسي في نفس الوقت الذي تمت الموافقة فيه على 100% حوافز لعناصر الشرطة كتعويض عن عدم قدرتهم في المستقبل لممارسة ما كانوا يفرضونه من إتاوات إجبارية على المواطنين في الأقسام وإدارات المرور وتنفيذ الأحكام وخلافه من الهيئات القائمة على الفساد والرشوة، ومن ثم كافئ المجلس الأعلى للقوات المسلحة عناصر الشرطة التي قتلت المتظاهرين في الشوارع ومن قبلهم المئات في المعتقلات والأقسام ومقار أمن الدولة بزيادة كبيرة في رواتبهم دون محاسبتهم على جرائمهم، في نفس الوقت الذي طالب فيه العمال بالكف عن الصراخ نظير زيادة أفضل ما توصف به أنها شديدة التفاهة بدعوى حماية الوطن وإعادة بنائه.
في نفس الوقت وعلى الجانب الآخر، ورغم محاولة التشهير بالثورة ومظاهرات الثوار واحتجاجات العمال والموظفين، استطاعت الأعمال الثورية في حصد عدد من المكاسب منها تغيير عناصر من حكومة أحمد شفيق التي شكلها مبارك قبل تنحيه وبعدها إقالة الحكومة بأكملها، وحل مجلسي الشعب والشورى وإجراء تعديلات دستورية وتحديد مواعيد للاستفتاء على تلك التعديلات وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، علاوة على بعض الحقوق العمالية. وعلى الرغم من الالتفافات حول مطالب الثوريين وعدم الرضاء من جانبهم عن الطريقة التي تمت بها هذه الإجراءات إلا أن استمرار هذه الاحتجاجات أثبتت المرة تلو الأخرى أنها الطريق الوحيد للضغط والحصول على مكاسب لم يكن من الممكن الحصول عليها لو تم التراجع.
يبدو الجيش في عيون الغالبية العظمى هو المدافع عن الوطن وفي أسوأ الأحوال يلعب دورا على الحياد. منشأ هذه الفكرة هو الخوف من التشكيك في المؤسسة صاحبة القدرة على صد الخطر الخارجي، وبُعد الجيش عن الاحتكاك بالمواطنين كدور تلعبه فقط أجهزة الشرطة، والأسرار التي يغلف الجيش بها عمله وميزانيته ومشروعاته، علاوة على الدور الذي لعبه في الثورة من إدعاء انتمائه لمطالب الثورة والشعب كممثل وطني لهما.
لكن لا يمكن لكل ذي عينين أن يتجاهل أن دور الجيش في حماية النظام، فمبارك هو الذي قام بتعيين وزير الدفاع حسين طنطاوي وكل قيادات الجيش وشكل منهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليس بصفته فقط رئيسا للجمهورية ولكن لكونه الرئيس الأعلى للقوات المسلحة، ومن ثم لا يمكن أن يكون ولاء الجيش لأحد غيره خصوصا أن لديه أجهزة استخبارات عسكرية تسمح له بتغيير أي قيادة فيه عندما يستشعر أي خطر للانقلاب عليه.
أما عن الأكثر أهمية هو أن قيادات الجيش بوصفهم على رأس أكبر مؤسسة عسكرية في الدولة لا يمكن فصلهم عن الطبقة التي تهيمن على هذه الدولة وتدير الحكم فيها والثروة لصالحها، وما يجعلنا نؤكد هنا على عدم الفصل هو التوسع الذي حدث بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل في 1978 في أنشطة الجيش ودخوله كطرف في الإنتاج المدني، بعد إحجامه عن الدخول في أي حروب سوى المشاركة تحت لواء الإمبريالية في الحرب ضد العراق 1990 ووأده لانتفاضة الأمن المركزي 1986، في الوقت الذي لا زال الغموض يحيط بميزانية تلك المشروعات وأرباحها والإعفاءات التي تحصل عليها.
لذلك لا يمكن فهم ظهور الجيش كبديل للحفاظ على الحكم ومصالح الاستثمار والمستثمرين إلا في هذا السياق. فلم يكن ممكنا بالنسبة للإمبريالية والصهيونية والطبقة الرأسمالية ولا لمبارك نفسه تسليم السلطة لحكومة مدنية من أول وهلة، حتى تتعرض مصالح الطبقة ككل بما فيها مصالح الجيش الإنتاجية لخطر، علاوة على توريطه في مواجهة مع إسرائيل حال قطع العلاقات معها. ظهر الجيش كبديل لخلق الاستقرار من وجهة نظر مصالح الحكام ولأخذ مساحة من الوقت لإعادة ترتيب الأوضاع بدلا من انفلات الأمر برمته.
استخدام تكتيك مسك العصا من الوسط هو الذي اتبعه الجيش منذ نزوله للشارع بعد انسحاب الشرطة، وتعاظم أكثر بعد توليه السلطة في الفترة الانتقالية. ظهر هذا التكتيك بدءا من تركه لعصابات الأمن والبلطجية للاعتداء على المتظاهرين طوال معركة الأربعاء 2 فبراير ليظهر في اليوم التالي بعد التأكد من فشل خطة القضاء على المتظاهرين كمن لم يرى ولم يسمع، وبالقطع لم يتكلم كأن شيئا لم يحدث. أيضا في البطء الذي لازم قرارات اعتقال رموز النظام السابق ومنعهم من السفر ليتم تقديمهم في النهاية للمحاكمة بتهم كلها لها علاقة بالتربح دون النظر لجرائم مثل التي ارتكبها وزير الداخلية حبيب العادلي قبل المظاهرات وأثنائها، ولا يخفي طبعا التأخر غير المبرر في إعلان الموقف من مبارك وعائلته، وبالطبع عدم صدور أي قرار بشأن مثلث الفساد وحماة أسرار النظام (زكريا عزمي، صفوت الشريف، فتحي سرور) حتى الآن. أضف إلى ذلك أن لا أحد من قوائم طويلة ملطخة بالفساد والقمع تم تقديمها للمحاكمة، في الوقت الذي تم الاستجابة فيه لإقالة حكومة شفيق التي عينها مبارك بنفس الطريقة.
لماذا يتسم أداء الجيش بالبطء الشديد أو فلنقل بدقة: بالتواطؤ؟ لقد شاهدنا أجهزة الدولة ومؤسساتها الفاسدة والقمعية تتخلص من أطنان الملفات التي ستفضح حتما كل شيء، وشاهدنا مئات المليارات من الدولارات في طريقها للخارج بسرية شديدة، وما زالت مباحث أمن الدولة موجودة رغم غياب الشرطة في الوقت الذي لم يخل أداء الجيش أيضا من التنكيل بالمعارضين وسجنهم وتعذيبهم. الجيش بالقطع ليس الشرطة في استفحالها ووحشيتها، ولكن ليس لأي سبب آخر سوى أنه في وضع حرج للغاية، فاتخاذ قرار أهوج بضرب المتظاهرين وفض مظاهراتهم بالقوة سيقابله عنف مضاد لن يستطيع أحد معرفة مداه أو صده، أيضا سيخلق انقساما أوليا وعميقا بين قيادات الجيش من جانب والجنود من جانب آخر، علاوة على انشقاقات داخل الضباط أنفسهم بين الرتب الصغيرة والجنرالات. ومن هنا يمكن فهم التعتيم على التعذيب الذي مارسته قوات منه في أيام الثورة وبعدها والحكم بسجن عمرو البحيري 5 سنوات في محاكمة عسكرية لم تستغرق سوى أيام قليلة، ومحاولة الشرطة العسكرية فض اعتصام بميدان التحرير بعد مظاهرة جمعة مليونية في 25 فبراير واعتذار الجيش في اليوم التالي.
هل اتضحت الصورة الآن؟ بالطبع قيادات الجيش متورطة بدرجات متفاوتة في هذه الملفات وتحمي مصالحها ومصالح طبقتها وتتعامل بهذا البطء للتغطية على أي شيء يمكن أن يمسها ويحطم صورتها كحامي للوطن والشعب وثورته في أعين الجماهير. الجيش والشعب إذن ليس يدا واحدة، ولن يكتشف المحتجون هذه الحقيقة لمجرد قول ذلك أو قراءة المزيد من المقالات وإظهار العديد من الملفات وسوق الكثير من الأدلة والحجج، سيكتشفون فقط أنهما يدان منفصلتيان إحداهما مع الثورة والأخرى تبطش بها ولها حساباتها المعادية لها، عندما تستمر معاركهم ويظهر لهم من خلالها الدور الذي يلعبه الجيش وفي أي الخنادق يقف.
ظلت الثورة تضغط لنيل العديد من المكاسب وتلبية مطالبها المشروعة، وكان على المجلس الأعلى للقوات المسلحة القبول بهذه الضغوط وفق حساباته وبطريقة “التنقيط”. لذلك وبعد قرابة الشهر من تنحي مبارك بدأ المحتجون في التحرك لانتزاع باقي المطالب دون انتظار ما ستجود عليهم به المؤسسة العسكرية الحاكمة، فقد بدأ المتظاهرون في الإسكندرية ومدينة 6 أكتوبر في محاصرة واقتحام مباني مباحث أمن الدولة للإجهاز على أسوأ جهاز قمعي شهدته مصر في تاريخها الحديث، لتعلن الجماهير قرارها عمليا بخوض معركتها لتصفية هذا الجهاز بنفسها.
المحتجون يعلمون تماما أن كسر شوكة القمع لن يتم إلا بالقضاء على هذا الجهاز الوحشي دون رجعة، وأن رجوع الشرطة مرهون بتحويلها لمؤسسة مدنية تقدم خدماتها للمواطنين وتحميهم بلا رشاوى واعتقالات وتعذيب، فلا يمكن النضال من أجل حق وحرية المواطن في الحياة بشكل إنساني وتشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات وهناك أجهزة تعمل فقط من أجل قمع هذه الحريات والحد من هذه الحقوق.
وبالتالي فالنداءات المشبوهة لعودة جهاز الشرطة ونزول قواته الشوارع مرة أخرى ما هي إلا بداية النكوص عن مكاسب الثورة ومنها دحر هذا الجهاز بقواته في معارك راح ضحيتها المئات من الشهداء. المطالبون بعودة الشرطة لمواجهة البلطجية واستعادة الأمن يتناسون أن نظام مبارك هو الذي شوه البعض منا ودفعه للجريمة وأعمال العنف ليحوله إلى بلطجية وعتاة إجرام، يتناسون أن الشرطة هي التي قامت بإطلاق سراح البلطجية من السجون إلى الشوارع لترويع المواطنين ومحاولة وأد الثورة، يتناسون أن الشرطة لم تلعب في حياتها قط دورا في حماية أمن المواطنين وأرواحهم بل كانت تقمعهم لأبعد الحدود وتمارس عليهم البلطجة والجباية.
أخيرا: لا توجد ثورة خالصة، فحتى داخل معسكر الثورة توجد تناقضات وتأرجحات بين المواقف تجاه أطراف وقضايا الصراع، وعند كل نقطة تتباين أحجام ودرجة صلابة القوى المشاركة بين المواقف الجذرية والتوقف مكتفية بما تم إنجازه. لذلك علينا الالتفات إلى أن العملية الثورية ستمر بمنحنيات صعود وهبوط تحكمها عوامل عدة منها درجة جذرية القوى والجمهور المشاركين وطبيعة المعارك وقدرتها على جذب عدد أكبر من المناضلين وطرق إداراتها على الأرض وفق الإمكانيات المتاحة والمواقف الصحيحة الواجب اتخاذها حيالها.
ثورتنا لم تكتمل بعد، ومن يخلقون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم، أمامنا إذن خيارين لا ثالث لهما الأول استكمال ما بدأناه لانتزاع العديد من المكاسب والمطالب الديمقراطية والاجتماعية والدفع في اتجاه دولة مدنية يراقب الشعب فيها مؤسساتها من خلال أشكاله التنظيمية التي ابتدعها، أو خسارة ليس فقط ما كسبناه بل أي أمل في استعادة زخم هذا التغيير الذي دفعنا خطوات كبرى للأمام ونلنا عبره القدرة على خلق مستقبلنا بأنفسنا وتثوير المنطقة بأكملها لإسقاط حكومات وأنظمة قمعية واستبدادية واستغلالية ورجعية جثمت على أنفاسنا عشرات السنين. فأيهما نختار؟