عادت القوات المسلحة للظهور على الساحة السياسية، ولم يكن ظهورها هذه المرة فقط للإدلاء بالبيانات التي تحاول شرح أسباب اصرار بعض ضباط القوات الجوية على إيقاظ سكان المدن من النوم مبكراً عن طريق التحليق المنخفض بالمقاتلات فوق الأحياء السكنية، أو تبرير آخر انتهاك تورط فيه أفراد الجيش (على غرار البيان الذي تلاه المتحدث الرسمي للقوات المسلحة عصر الثامن عشر من نوفمبر لتبرير الاعتداء على جزيرة القرصاية) — ولكن هذه المرة كان الظهور للحديث عن الشأن السياسي العام والتعبير عن موقف (وإن كان مبهماً وحمّالاً للأوجه) من موجة الاحتجاجات العنيفة التي تبعت الاعلان الدستوري الصادر بتاريخ 22 نوفمبر، وهو ما آثار حفيظة البعض والتفاؤل الساذج عند البعض الآخر والقلق عند الكثيرين. أضف إلى هذا القلق المستمر الظاهر في تصريحات حكومة الاخوان والذي يعكس تساؤلاً تردد كثيراً هو الآخر في الشوارع عن فلسفة عمل جهاز الشرطة في عصر الرئيس المنتخب محمد مرسي، ثم ضعها بجانب قرار إعطاء صفة الضبطية القضائية لأفراد القوات المسلحة — وهو قرار مشابه للقرار الذي كان محامو الاخوان قد طعنوا به إلى جانب عدد من المنظمات الحقوقية في 13 يونيو الماضي، عندما أصدره وزير عدل المجلس العسكري، قبيل المرحلة الثانية من الانتخابات. مع الفارق أن القرار في هذه المرة صادر بقوة القانون، كما أنه وضع سقفاً زمنياً لهذه الصلاحية المضافة لرجال القوات المسلحة، كما أنه مرتبط بإعلان نتيجة الاستفتاء الدستوري المقبل (أي أنه في الغالب مرتبط بعدم ثقة الحكومة في قدرة الشرطة على تأمين الاستفتاء). كل هذه التساؤلات تدفعنا للعودة إلى التساؤل الأصلي عن طبيعة العلاقة المعقدة بين الرئيس مرسي وحكومته، وبين مؤسسات الدولة العميقة أو أجهزتها الأمنية.
لا شك أن حكومة الاخوان منذ تولي مرسي الرئاسة قد سعت إلى تشكيل تحالف حاكم مع أجهزة الدولة القائمة، وفي مقدمتها الشرطة والجيش. كما أنها قدمت تنازلات عديدة من أجل بناء هذا التحالف: فهي بطبيعة الحال لم تفكر في تعيين وزيراً للداخلية من خارج جهاز الشرطة (وهو أمرا متوقع), ولا من خارج دائرة قيادات الداخلية الأكثر نفوذاً والأكثر تجسيداً لفلسفة "استعادة القبضة الأمنية" — أي من قطاع الأمن العام والقطاعات الجغرافية (مديري أمن المناطق)، وهي الدائرة التي ينتمي اليها الوزير أحمد جمال الدين، (وكل من سبقوه من بعد العادلي)، الذي كان مديراً لأمن أسيوط وقت اندلاع ثورة يناير، وأشرف بنفسه على قيام جنوده بالتعدي بالضرب واعتقال أخت زوجة المرشد العام للاخوان المسلمين، محمد بديع يوم 26 يناير، طبقاً لما رواه لي عدد من شباب الاخوان (الحاليين والسابقين) من منطقة أسيوط الذين شاركوا في مظاهرة 26 يناير (وكتب عنه أيضا محمد أبو الغيط في مقالته الشهيرة"في انتظار نهاية العالم")، والذين اعتقلوا يومها ولم يستطيعوا حتى الآن استساغة تعيين أحمد جمال الدين وزيراً للداخلية. وبخلاف شخص وزير الداخلية، فقد كان أهم ما قدمته حكومة الرئيس مرسي من أجل ضمان تحييد وزارة الداخلية ومشاركتها في التحالف السياسي الجديد هو ضمان عدم المساس بجهاز الشرطة بتاتاً لا تطهيراً ولا إصلاحاً ولا حتى عتاباً.
لم تحتج حكومة الاخوان أن تقدم حتى هذه الضمانات للمؤسسات الأمنية الأخرى التي خرجت من الثورة أكثر تماسكاً (أقصد الجيش والمخابرات). وبهذا فقط حافظ الرئيس مرسي على الطابع الأمنوقراطي للدولة المصرية اتقاء لشر تلك المؤسسات، أولاً، ولتوافق رؤيته لدور وشكل الدولة مع الرؤية الأمنوقراطية، ثانياً، والأهم من هذا وذاك لأنه يحتاجهم بشدة في الفترة القادمة. ولكن شيئاً ما قد اختلف في مصر ما بعد الثورة وهو ما لا يتحكم فيه الرئيس ولن يستطيع استعادته في الغالب: وهو نقص قدرة تلك المؤسسات على القمع والسيطرة الاجتماعية. الإخوان يحاولون الحفاظ على الطابع الأمنوقراطي لدولة غير قادرة على استعادة شرعية القمع وتحتاج الى مجهود أكبر بكثير لممارسته وتواجه مقاومة مستمرة من قطاعات شعبية واسعة، وفي غياب الإرادة عند حكومة الاخوان المحافظة لخلق تصور جديد لعلاقة الدولة بالمجتمع ينتج عن هذا أن هذه المؤسسات التي يخشاها الرئيس ويحتاج إليها في نفس الوقت تفضل التقوقع حول نفسها وحماية مكتسباتها الموروثة منذ تأسيس الدولة المصرية القمعية الحديثة بقدر المستطاع. وتفضل تفادي الصدام كلما أمكن، فهكذا تزداد ترسخاً دولة "ملوك الطوائف" كمايصفها أشرف الشريف. وقد ظهر هذا بوضوح في المناقشات التي دارت في عمل اللجنة التأسيسية حيث حاربت كل طائفة من أجل ترسيخ وضع أكثر تمييزاً لها ولم تكترث بما ورد في بقية النص فكانت معارك الدستور "طائفية" بامتياز. وتقبل الإخوان هذا الواقع وتفاوضوا مع ملوك كل طائفة حسب ما سمحت به توازنات القوى—فوجدناهم يناطحون طائفة القضاء أحيانا وينحنون أمام طائفة الجيش دائماً.
لا يوجد أدنى سبب لكي نظن كما يظن البعض بأن القوات المسلحة على خلاف مع الرئيس وحكومة الإخوان—خاصة بعد أن حصلوا على أقصى أمانيهم في مشروع الدستور الأخير وبدون أي مقاومة تذكر (اللهم إلا بعض المقاومة الشفهية التي بدت مصطنعة من المستشار الغرياني ومن الدكتور محمد البلتاجي—راجع تسجيلات مناقشات الدستور حول مواد القوات المسلحة). بل وقد حصلوا على هدية في النسخة الأخيرة من الدستور: فبعد أن كانتنسخة 15 أكتوبر 2012 تنص على أنه "لا يجوز بحال أن يحاكم أمام القضاء العسكرى إلا العسكريون ومن فى حكمهم" تم تعديل هذه المادة في المسودة الأخيرة لكي تسمح بمحاكمة المدنيين في حالات ارتكاب "الجرائم التى تضر بالقوات المسلحة" وكان هذا بعد أقل من أسبوعين من معركة جزيرة القرصاية والتي استولت القوات المسلحة على جزء منها يوم 18 نوفمبر وقتلت أحد سكانها اثناء هجومها على الجزيرة وحاولت كالعادة اتهام الأهالي بالتعدي على إحدى أراضي القوات المسلحة على الرغم من أن القضاء الإداري قد أقر بأحقية الأهل في الأرض—وقد أحيل من قبض عليه من أهالي الجزيرة لاحقاً الى النيابة العسكرية. الشيء الوحيد الذي قد يهدد هذا التحالف هو فقدان القوات المسلحة لثقتها في قدرة حكومة الإخوان على انهاء حالة السيولة السياسية والاجتماعية ولكن في جميع الأحوال تدخلهم بصورة مباشرة مستبعد. ومحاولتهم للظهور في أغلب الأمر يقصد بها توصيل رسالة مبهمة يفهمها كل طرف على أنهم متوافقين معه، وفي أحد التحليلات التي قرأتها يقول صاحبها مازحاً إن الجيش يصدر تلك البيانات حمالة الأوجه لأنه لا يجد شيئاً آخر يشغل به الفراغ الرهيب الذي أصابه بعد تنحيته عن الإدارة المباشرة للمجال السياسي.
ولكن ماذا عن الشرطة؟ فالجيش يستطيع أن يتوارى ويمارس نشاطه في الخلفية كما يحلو له، ولكن هذا ترف لا يقدر عليه رجال الشرطة — ذراع الدولة الأكثر احتكاكاً بالمواطن.
كان من المتوقع أن يتسبب استمرار حالة السيولة الثورية في ظهور تناقضات في طبيعة علاقة الحزب الحاكم بالشرطة — وهي علاقة قائمة على مصلحة مشتركة وشراكة استراتيجية أيضاً وليس فقط على توافق مؤقت بالإبقاء على الهياكل القديمة المتآكلة للدولة. فالاستقرار السياسي والاجتماعي هو الشغل الشاغل لحكومة الاخوان ولداعميهم في الداخل وفي الخارج، كما أنه القاسم المشترك بين أهداف وتطلعات الحكومة الحالية والجهاز الأمني الموروث من دولة ما قبل الثورة. لقد اعتاد الناس على تقييم أداء الشرطة بناء على تفاعلها مع التظاهرات السياسية الصاخبة وفي هذا تجاهل للدور الأكبر التي تلعبه — وتشتاق إلى العودة له — وزارة الداخلية وهو القمع الاجتماعي. في تقديري أن وزارة الداخلية إن عاجلاً أم آجلاً سوف تمر بنفس التحول الذي مرت به (وأرى أنها قد بدأته بالفعل) أجهزة الشرطة في دول أمريكا اللاتينية على سبيل المثال بعد التحول الديمقراطي: أي أن دورها في القمع والحصار السياسي سينحسر بشدة، في نفس الوقت الذي يزيد دورها في القمع والسيطرة الاجتماعية. حكومة الإخوان تحتاج إلى أجهزة قمع قوية حتى تستطيع تنفيذ برنامجها الاقتصادي والاجتماعي والذي سيتسبب حتما في ردود فعل عنيفة على مستوى الشارع. وقد أعطت الضوء الأخضر منذ بدايات صيف 2012 لوزارة الداخلية للتعامل بقوة أكثر مما كانت تقدر عليه في السنتين الماضيتين مع الاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات العمالية, وقد حاولت الشرطة التعامل بالقوة مع إضراب سائقي النقل في جراج امبابة في سبتمبر الماضي وقامت باقتحام الجراج لضبط وإحضار احد قيادات الإضراب كما بدأت في التعامل بقوة ليس فقط في حالات قطع الطرق الاحتجاجية والتي انتشرت بشدة مع تردي خدمات الدولة خاصة في المحافظات وارتفاع سقف توقعات المواطنين، بل أيضاً مع حالات أقل إرباكاً بكثير—فبدأت الشرطة في صيف 2012 في استخدام القوة لفض وقفات صغيرة ذات مطالب محدودة في المحافظات خارج مباني المحافظة والوحدات المحلية وفي اعتقال المنظمين لتلك الوقفات—ولا بد أن هذه الجرأة المكتسبة مؤخراً قد أتت بدعم من أعلى. إضافة الى ذلك فقد بدأت الشرطة في محاولة "استعادة هيبتها" (وهو المصطلح الذي أصبح لبانة يلوكها قيادات الشرطة ليل نهار) عن طريق استخدام القوة المفرطة والأسلحة النارية باستسهال شديد وهو ما نتج عنه الكثير من حالات القتل (أتحدث مثلا عن 12 حالة وفاة نتيجة للاستخدام غير المبرر وغير القانوني للقوة فيما بين يوليو ونوفمبر 2012 شاركت في توثيقها وفي تقديم الدعم القانوني لضحاياها كما كانت مؤسسة النديم لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب قد أصدرت تقريراً قامت فيه بتجميع الرقم الإجمالي لحالات القتل والتعذيب في فترة المائة يوم الأولى من حكم الرئيس مرسي من مصادر مختلفة وقدرت العدد بـ 34 حالة قتل خارج اطار القانون و88 حالة تعذيب).
ولكن علاقة الشرطة بالمجتمع ليست — أو لم تعد — "علاقة خطية "، ففي الحالات التي تجد مقاومة فيها يختلف رد فعل رجال الشرطة، فتجدهم أحياناً يلجئون للقوة وأحياناً أخرى للهروب، واليوم تجد الشرطة نفسها مضطرة للتعامل مع ردود فعل جماهيرية غاضبة عندما تقتل شخصاً بغير حق أو عندما تقوم بتعذيب شخص حتى الموت في أحد أقسام الشرطة. لذا، عندما نصحو من النوم في يوم من الأيام على أخبار عن معارك تدور خارج أحد أقسام الشرطة أو عن قطع طريق القاهرة — الدلتا، تسارع أذرع وزارة الداخلية الاعلامية والمعلوماتية لتوصيل رسالة لإعلام العاصمة وللرئاسة والحكومة بأنها ليست إلا حالة أخرى من حالات البلطجة غير المبررة وأن الأهالي الغاضبون ما هم إلا مجموعة من مسجلي الخطر الذين يحاولون تحرير أصدقائهم من أسر الشرطة. وفي كل مرة تتبنى أجهزة الاعلام والحكومة الرواية التي تصدر عن وزارة الداخلية—ولعل الفارق الوحيد بين وزارة الداخلية في عصر مبارك وفي عصر ما بعد الثورة هو أنها صارت تحرص على إغراقنا بالمعلومات، التي عادة ما تكون منفصلة تماما عن الواقع. ومع تكرار هذا النوع من الصدامات، وتكرار تبريرات الجهاز الاعلامي لوزارة الداخلية، يصعب على المرء تصديق هذه الرواية. وحتى وإن أحسن النية بالشرطة بدون الوصول الي استنتاج بأن الشعب المصري قد أصابه وباء ما يجعله يهاجم الشرطة ويقطع الطرق العمومية بصفة مستمرة وبدون سبب. أما مواقف المسؤولين في حكومة الإخوان من الذين يعملون على ملف الأمن والعدالة الجنائية—ما بين وزارة العدل والفريق الرئاسي—فيما يتعلق بارتفاع وتيرة العنف الشرطي بصورة غير مسبوقة وحالة المواجهات المستمرة فكانت أقرب الى عدم الاكتراث. فهم، خاصة فيما يتعلق بسياق العمل الشرطي العادي، لا يريدون التدخل على الإطلاق—لأنهم حريصون على ترك مساحة كافية للشرطة من أجل "استعادة هيبتها" ولكن خارج مجال الصراع السياسي المباشر. فقط في سياق المظاهرات ذات الطابع السياسي الصريح، حيث سقوط الضحايا أصبح له ثمن أغلى، قد يثير الوضع انتباه الرئاسة والحكومة.
ومن المهم التنويه بأن مهندسي العلاقة بين حكومة الإخوان ووزارة الداخلية هم القانونيون المحسوبون على التيار "الثوري" داخل الحكومة ومنهم من كانوا ينتمون إلى تيار قضاة الاستقلال في عصر مبارك: فوزير العدل أحمد مكي بدأ مهامه الوزارية بكتابة مشروع قانون جديد للطوارئ بعد انتهاء حالة الطوارئ المستمرة منذ ثلاثين عاما، وأدعى في بداية الأمر انه لا ينوي الدفع به، ثم حاول الدفع به بعد ذلك وفشل. وبعدها خرجت علينا وزارة الداخليةبستة مشاريع قانونية مرة واحدة تعطي رجالها صلاحيات استثنائية في الأسبوع الأول من سبتمبر أكثرها إثارة للجدل سمي بقانون حماية المجتمع من "الخطرين"، بالإضافة الى قانون لتقييد حرية التظاهر والإضراب وتعديلات على مواد في قانون العقوبات لتصبح أكثر غلظة. وعندما تسربت هذه المشاريع آثر الرئيس وقتذاك—وهو الذي يملك سلطة التشريع في غياب البرلمان — تفادي الصدام فتجاهلهم، رغم دفاع الوزير مكي عن حزمة قوانين وزير الداخلية إيماناً منه بأن رجل الشرطة يحتاج الى تلك الصلاحيات من أجل استعادة قدرته على الضبط المجتمعي، ثم حاول بعد ذلك أن يطرح فكرة تمرير تلك التشريعات الاستثنائية تحت مسميات مختلفة. وبعد هذا بشهر واحد أشيع أن مجلس الوزراء بصدد اعداد قانون "لحماية مكتسبات الثورة" مشابه للقانون سيئ السمعة الذي صاغته وزارة الداخلية، ولكن وزير الشؤون القانونية محمد محسوب نفى ذلك (والأرجح أنه تراجع وأن الاشاعة لم تكن خاطئة تماماً). وأخيراً وبعد محاولات عدة كان أول القوانين الصادرة بموجب الاعلان الدستوري الأخير هو قانون تأسيس نيابة حماية الثورة والذي يعطيها صلاحية التحقيق في جرائم النشر والإضرابات والتظاهر وتعطيل المواصلات والاعتداء على السلطات (حاول الوزير أحمد مكي مجدداً الدفع بقانون لتقييد حرية التظاهر أعلن عنه في مؤتمر صحفي بتاريخ 26 نوفمبر ولكنه لم ينجح حتى الأن).
اذن فالتحالف القائم بين رئيس الدولة وحكومته وقيادات الأجهزة الأمنية تحالف استراتيجي قائم على سعيهم جميعا إلى "استعادة هيبة الدولة" (أي قدرتها على القمع والسيطرة الاجتماعية) من أجل إعادة إحكام قبضة الدولة على الفئات المهمشة التي زادت مطالبها وثقتها في قدرتها على التحرك في الشارع وفي المجال العام. فأكثر ما تكرهه الدولة المصرية بملوك طوائفها المتعددة هو فقدانها للسيطرة على المجال العام. وأرى أن هذا التحالف ليس مهدداً بالدرجة التي تسمح بانهياره بعد، ولكن فلنقل أن في حالات الصدام السياسي بين فئات شعبية متنوعة وبين الحكومة الاخوانية، ومع ارتفاع وتيرة العنف السياسي والسخط الموجه ضد الحزب الحاكم مباشرة تحدث ارتباكات في هذا الاصطفاف السلطوي الطائفي الطبع، وتبدأ بعض التناقضات في الظهور، وقد تتحول الى شروخ في المستقبل غير البعيد إذا حاول الحزب الحاكم الدفع بجهاز الشرطة لمواجهة أو قمع معارضين سياسيين وهو الدور الذي لم تعد تقوى عليه ولن تستطيع أن تمارسه وهي منهكة في محاولات فرض السيطرة الاجتماعية.
كيف تصرف رجل الشرطة المتواجد في الشارع منذ بدء الاحتجاجات التي أعقبت إصدار الاعلان الدستوري؟ لقد تزامنت هذه الأحداث في بداياتها مع مظاهرات استهدفت جهاز الشرطة نفسه وكان مكانها هو محيط وزارة الداخلية بالقاهرة في الذكرى الأولى لاحتجاجات محمد محمود، وهي الذكرى المرشحة للتحول إلى موسم للاشتباك مع وزارة الداخلية في غياب أي نوع من أنوع العدالة والمحاسبة على جرائم القتل وطالما بقى جهاز الشرطة بدون أي تغيير. أنماط التدخل الشرطي في هذه المظاهرات، والمقارنة بينها وبين تدخلها في الاحتجاجات السياسية الأخرى التي لا تستهدف الشرطة مباشرة خاصة عندما تتحول الى مواجهات عنيفة بين الأهالي، تعكس ضعف وتفكك تلك الطائفة تفتقد الى شرعية حقيقية ولكنها تملك مصالح تحاول الحفاظ عليها. على مدى أكثر من عشرة أيام ما بين الاثنين 19 نوفمبر والخميس 29 نوفمبر—اشتبكت الشرطة مع الثوار في مظاهرات قتل فيها 3 أشخاص. وبعد إصدار الاعلان الدستوري يوم 22 نوفمبر بدأت موجة من الاحتجاجات التي صاحبها عنف أهلي واعتداءات على مقر الحزب الحاكم—الحرية والعدالة — وكان هذا بالتزامن مع استمرار المظاهرات في محيط وزارة الداخلية. فعلى مدى الأسابيع الثلاثة الماضية وقعت اشتباكات أهلية وتعرضت مقرات الحرية والعدالة للهجوم في القاهرة والإسكندرية ومحافظات والبحيرة والغربية وبورسعيد والإسماعيلية والسويس وقام المتظاهرون بقطع السكك الحديدية في دمنهور. وكان رد فعل الشرطة متبايناً ولم يتبع نسقاً واحداً. ففي عدد من الحالات وقفوا للمشاهدة أو اختفوا تماما وفي أحيان أخرى تدخلوا للتفريق بين المتظاهرين، وعندما كانوا يستشعرون القوة كانوا يلقون القبض على المتظاهرين المعارضين ويطلقون الغاز لإبعادهم. في الأسبوع الأول من المواجهات في مدينة المحلة وفي وجود أعداد ضخمة على الجانبين آثر رجال الشرطة سلامة أنفسهم، ثم وبعد أن زادت حدة المواجهات تدخلوا واستخدموا القوة وهو ما أدى إلى انتقال الاشتباك مع الأهالى إلى قسمي شرطة المحلة الاول والثاني يوم 30 نوفمبر. أما في الاسكندرية حيث وقعت مواجهات عنيفة مشابهة أيام 23 و24 نوفمبر وفي هذه الأثناء تعاونت الشرطة بصورة لصيقة مع أعضاء حزب الحرية والعدالة الحاكم وسمحت لهم باستخدام مدرعات الأمن المركزي لاحتجاز الأفراد الذين قام أعضاء الحزب باعتقالهم من المتظاهرين ولم تتدخل لوقف الاعتداءات الجسدية عليهم ثم قامت بنقلهم الى مديرية أمن الإسكندرية، وهو ما رواه أكثر من شخص من الذين تم اعتقالهم—أحد هؤلاء الأشخاص من المنتمين لحزب مصر القوية المحسوب على التيار الاسلامي الوسطي وصفهم في شهادته بأنهم كانوا "أشبه بشركة أمن خاصة استأجرها أعضاء الحرية والعدالة".
أما في الاشتباكات التي وقعت خارج قصر الاتحادية فحدث ولا حرج عن دور جهاز الشرطة—الذي انتقدته قيادات الاخوان واتهمته بالتخاذل. فرغم أن الشرطة لم تكن طرفاً في المواجهات، إلا في القليل من الأحيان التي قامت فيها باطلاق الغاز على المتظاهرين المعارضين—إلا أنها لعبت دوراً رئيسياً في تأمين وجود مؤيدي الرئيس حول قصر الاتحادية وسمحت للمؤيدين باحتجاز وتعذيب العشرات من المعارضين خارج بوابة قصر الرئاسة (كان هذا يحدث تحت سمع وبصر رجال الأمن المركزي والمباحث الجنائية وقوات الحرس الجمهوري). ومن اللافت للنظر أن الشرطة كانت تتسلم المعارضين المعتقلين من أعضاء الحرية والعدالة وكأنهم يملكون صفة الضبطية القضائية (بضعهم تم تسليمهم الى قسم شرطة مصر الجديدة والبعض الآخر تسلمته الشرطة مباشرة من أماكن الاحتجاز التي استحدثها المؤيدون بجوار قصر الاتحادية). بل وقد قامت باستلامهم وهم في حالة تُظهِر بوضوح أنهم تعرضوا لتعذيب وضرب شديد، ولم تتصرف الشرطة حينذاك بمنطق رجل الشرطة الحيادي والذي كان يستوجب التحفظ على الشخص الذي قام بتسليم المعارضين للاشتباه في أنه قام بالتعدي بالضرب على مواطن آخر واحتجازه واستجوابه وتفتيشه وهي أشياء كلها لا تجوز لرجال السلطة العامة حتى من الذين لا يحملون صفة الضبط القضائي. فقد تعاملت الشرطة كما اعتادت في هذه الحالة على أنها أداة لتنفيذ ارادة الحزب الحاكم. والأكثر دلالة هو أن مأمور قسم مصر الجديدة لم يصر على إثبات هوية الأشخاص الذين قاموا بتسليم المعتقلين الواقع عليهم التعذيب — يتضح هذا من نص المحضر (رقم 11228 بتاريخ 6 ديسمبر 2012) الذي أثبتت فيه شرطة قسم مصر الجديدة القبض على 70 إلى جهة غير معلومة" كما يذكر المحضر وكأن مأمور القسم ليس له سلطان عليهم.
لا تنفي أي من الأمثلة التي استعرضناها أعلاه ودلالاتها العوامل الأخرى التي قد تؤثر على عمل رجال الشرطة، ومنها العامل الشخصي: بعض ضباط الشرطة على مستوى الشارع قد تدفعهم انحيازاتهم الشخصية وتاريخ طويل من الحشد المعنوي داخل جهاز الشرطة ضد الإخوان للتصرف بطرق مغايرة أو على الأقل بلا مبالاة في حالات الاشتباكات. والعامل الأهم من ذلك وهو أن جهاز الشرطة جهاز ضخم (يزيد عدد العاملين بوزارة الداخلية عن مليون شخص) ومفكك وفي ظل استمرار التخبط والتفكك البيروقراطي في مصر تصعب السيطرة الكاملة على جهاز بهذا الحجم كان ومازال يدار بمركزية شديدة لم تعد مجدية مع انتشار وتشعب ولامركزية الحراك الاجتماعي والثوري. كما أن هناك اعتباراً ثالثاً وهو أن رجال الشرطة في مصر غير مهنيين وغير مدربين بشكل كاف وهو ما لم يكن ظاهراً بوضوح للبعض قبل الثورة ولكنه ليس بأمر جديد.
وتوجد استثناءات لهذه الحالة التي أقدر أنها الحالة الأعم. لكن حتى في هذه الحالات الاستثنائية والتي تتدخل فيها الشرطة ويبدو عليها قدر من الحيادية، يصعب تحديداً فهم ما يدور بخلد الضباط والجنود المتواجدين على الأرض. من هذه الحالات الاشتباكات التي دامت لمدة يوم كامل تقريبا يوم 14 ديسمبر، عشية الاستفتاء، في الإسكندرية خارج مسجد القائد ابراهيم بعد أن أثارت الخطبة التي ألقاها الشيخ المحلاوي جدلاً ونقاشاً عنيفا، وتسببت في اصابة 23 شخصاً ما بين كسور وجروح واختناقات من الغاز. فقد تدخلت الشرطة (بعد تأخر طويل) وصنعت كردوناً أمنياً فصل بين المتواجدين داخل وخارج المسجد واستخدمت الغاز للتفريق مع إصرار المتجمهرين خارج المسجد على القبض على بعض مؤيدي الشيخ المحلاوي الذين اتهموهم باحتجاز وتعذيب أربعة من المصلين، في حين حاولت قيادات الشرطة التفاوض مع الطرفين ودفع هذا الموقف الطرفين إلى عدم الثقة بنوايا القوة الأمنية التي جاءت للتدخل.
وبغض النظر عما إذا كانت هناك دوافع خفية أو لا فتظل هذه الحالات استثنائية في تقديري. الدفاع عن السلطة مسألة عقيدية بالنسبة لرجال الشرطة ولكنه يصبح أكثر صعوبة عندما يترجم إلى دفاع عن مقرات الكيان الحزبي الممثل للسلطة، فتقوم الشرطة بهذه المهمة اذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً وتفضل الانكفاء على نفسها والتعامل بمنطق الطائفة عندما يصبح الأمر فيه تهديدات مباشرة لحياتها. وبطبيعة الحال لن يستميت رجال الشرطة للدفاع عن مقرات الحزب المنتشرة في ربوع البلاد كما يفعلون أمام وزارة الداخلية. ولكن كل هذه الاعتبارات لا تغلب على الشراكة المصيرية التي تجمعها رؤية مشتركة محافظة للدولة. وبعد أخذ ما تقدم من شرح لتطور العلاقة منذ انتخاب الرئيس مرسي في الاعتبار وفي ظل التعاون الذي ظهر بين الشرطة ومؤيدي الرئيس يوم الأربعاء، الخامس من ديسمبر، كيف يمكن فهم تصريحات جهاد الحداد أو تصريح عصام العريان القيادي الإخواني والذي اتهم الشرطة بالتقاعس قائلاً "لن يتراجع الرئيس،وإذا كانت أجهزة الدولة ضعيفة ومثخنة بجراح الفترة السابقة، فالشعب يقدر على فرض إرادته وحماية الشرعية .أعضاء الحزب سيكونون فى مقدمة الصفوف إن شاء الله"؟ هناك احتمال أن يكون منبئاً بصدام مستقبلي مع قيادات الشرطة ومع شخص وزير الداخلية نفسه—هذا إذا كانت بعض قيادات الجماعة تريد للشرطة أن تعود للعب دور أكثر وضوحاً في القمع السياسي. وهو بكل شك صدام لا يريده أرباب الطائفة الشرطية ولكنهم في نفس الوقت يخشون التورط بصورة أكثر وضوحا في المعارك السياسية. وهناك تفسير آخر لهذا النوع من التصريحات وهو التفسير الذي أميل إليه يراه على أنه مجرد حجة لتبرير العنف الأهلي الذي يبدو أن الرئيس وحزبه ينوون اللجوء إليه من أجل تعزيز حكمهم في الفترة المقبلة.
"لم تتم محاكمة مدير الأمن مع كل قادة الداخلية كما كنت أتخيل فور نجاح الثورة، بل حدث العكس تماماً، فقد أصبح هذا اللواء تحديداً.... هو أول وزير للداخلية في عهد سيادة رئيس الثورة محمد مرسي!" – من مقالة العضو السابق بجماعة الاخوان المسلمين محمد أبو الغيط "في انتظار نهاية العالم".