"الشعب المصري غير ناضج بعد للديمقراطية". يبدو أن هذا التصور المثير للجدل لرئيس الوزراء السابق أحمد نظيف في 2005، والذي عاد على لسان نائب الرئيس السابق عمر سليمان خلال ثورة يناير في حوار مع شبكة إيه بي سي الأمريكية، يمثل فكرة متجذرة بعمق لدى النخبة المصرية. في المرتين، أثارت التصريحات الصحفية للمسئولين موجة من الاستنكار، رسمت علاقة متوترة مع الأول وحكومته، وساهمت في تدهور رهيب لشعبية الثانية وسقوط سريع من الحياة السياسية. لكن هاهي الفكرة تعود لنا بأشكال مختلفة وصور مغايرة، وإن بصور أقل وضوحا وصراحة، ومن نخب سياسية كانت تصنف في المعارضة للنظام القديم، جنبا إلى جنب مع أخرى كانت مؤيدة له.
ومنذ اللحظات الأولى لثورة يناير، كان هناك من يحاول اختزال الثورة اجتماعيا وطبقيا وسياسيا باختصارها في "شباب الفيسبوك"، القاهري غالبا، والذي ينتمي للطبقة الوسطى. وكما تخدم هذه الفكرة أنصار اجهاض الانتفاضة باستبعاد ملايين العمال والفلاحين والموظفين من شرف تحريكها والدفاع عنها، فإنها تقوم على نفس استنتاج سليمان ونظيف: هذه الأغلبية غير واعية وغير متعلمة، وبالتالي كان هذا التحرك "شبابيا حضاريا إلى أن انضمت إليه عناصر جاهلة أو مندسة".
المصالح هنا واضحة. إن إنضمام تلك الكتل الواسعة من المصريين، الذين تم تهميشهم من العمل السياسي لعقود سيعمق المطالب الاجتماعية للثورة ويعطيها زخما لم تكن أي من النخبة الحاكمة وصحفيوها ومحللوها يرغب فيه. فهؤلاء ممن خلقوا حركة "كفاية" الجديدة للمطالبة بإيقاف الثورة والتغيير في كل محطة حيوية مرت بها، كانوا يريدون ثورة على شاكلتهم يمكنهم محاصرتها والتحكم فيها ورسم حدودها.
وبينما لعب هؤلاء من أنصار الوضع القائم، أو القلقين من هزه، على وتر الأمن القومي للبلاد ثم على وتر الأمن والاستقرار كعنصر أساسي في مواجهة شعبية الثورة. كان الواقع الملموس يكشف إن لجان الأمن الشعبية، التي تأسست بطول وعرض الجمهورية، في ساعات قليلة، لمواجهة مؤامرة انسحاب الشرطة وما صحبها، هي التي أمنت البلاد والعباد، في دليل إضافي على النقلة الهائلة في الوعي الشعبي العام التي ولدتها الثورة.
ولا يقتصر وجود وتمكن فكرة عدم نضج وعي المصريين على نخبة تزكية الوضع القائم. فهي تطل علينا برأسها من بين تصورات نخبة التغيير أيضا. وإلا كيف نفسر القلق البالغ لدى البعض في اليمين الليبرالي واليسارالثوري من عقد انتخابات برلمانية بعد شهور قليلة؟ يقول هؤلاء إن الإنتخابات المبكرة ستأتي إلى البرلمان الجديد بجماعة الإخوان المسلمين (مصنفين إياها كقوة رجعية غير ليبرالية)، أو، وياللعجب، بفلول الوطني لتتحكم في الحكم وتجهض الثورة. والحل لهذا هو إما إبقاء الحكم العسكري لفترة أطول أو انتخاب رئيس ، وهو شخص واحد ربما يكون هو الآخر رجعيا أو صاحب علاقات تاريخية مع نظام مبارك، إذ أنه لو اعتمدنا على هذا التقدير السيء لوعي الناس فما الذي يضمن حسن الاختيار في شخص واحد وسوءه في 400.
يغفل أصحاب هذه النظرة المتشككة تجاه الجماهير أنها هي، وليس أي أحد آخر، التي أطاحت بنظام مبارك في وقت وقفت فيه الأحزاب والقوى السياسية والمحللون والقادة المرشحون الآن للرئاسة، موقف المشاهد المحبذ في أفضل الأحوال. هذه الجماهير هي التي أصرت بعد ذلك على إسقاط حكومة شفيق. وهذه الجماهير، التي لا يمكن لأحد إدعاء قيادتها أو التحكم فيها (الإخوان لم يؤيدوا أصلا الدعوة للتظاهر في 25 يناير وحتى من دعوا إليه فقد ذابوا واختفوا في فيض الملايين الذين اجتاحوا الشوارع)، هي التي أعطت الأولوية لبند حل مباحث أمن الدولة لمواجهة الثورة المضادة، ونفذته عمليا حين تباطأ الجميع. كيف يمكن إذن أن يقوم الناس وأغلبهم من العمال والفلاحين والموظفين بإنجاز تلك المهمة التي لم يحلم بها أحد في مواجهة الرصاص وآلة الدعاية الحكومية الهائلة، ولا نثق في حسن اختيارهم في صندوق الانتخاب الذي جلبوا له شروط الإشراف القضائي الكامل والتصويت بالرقم القومي وغيرها مما يخلق عملية تصويت لم تشهد البلاد لها مثيلا؟ لماذا كل هذا التشكك؟
إن وعي ما قبل التحركات الاجتماعية الكبرى يكون هو وعي النخب والطبقات الحاكمة. تسيطر الأفكار والتصورات التي تخدم هذه النخب على الأغلبية الكاسحة من الناس، عبر تفسيرات الدين والتعليم والإعلام وغيرها. ويظل أصحاب وجهات النظر المناوئة أقلية حتى بين من تتناقض مصالحهم مع مصالح الحكم. وحين تأتي الثورات، وهي تحرك سياسي على أعلى مستوى لشريحة هائلة من الناس، أغلبيتها بالضرورة من فقراء المنتجين، تتكسر أفكار الحكام المسيطرة على الأرض وفي ميدان المواجهة خالقة وضعا جديدا على الأرض. تخلق الثورة الناجحة توازنا سياسيا جديدا في المجتمع، الغلبة فيه للجموع، ومن ثم تخلق وعيا جديدا مسيطرا. صحيح أن الثورة لا تنهي كل الأفكار الرجعية ولا حتى التصورات التي تمثل مصالح النخب القديمة في ضربة واحدة، لكنها تخلق أرضية لمحاصرته على أساس جديد حر مبني على توازن قوى يميل بقوة لصالح الأغلبية. والأهم من هذا أن استمرار التحرك الجماهيري، على جبهة استكمال مهام الثورة على صعيد مطالب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل وتغيير نمط وأهداف الإنتاج الاقتصادي لصالح التنمية، هو المصنع الحقيقي لاكتساب الجموع وعيهم الذاتي بمصالحهم. وعي أثبت حتى هذه اللحظة أنه إنساني راقي، معادي للطائفية وللتمييز ضد المرأة.
يهز هذا الوضع الجديد حقا المحللين الاستراتيجيين والمفكرين الأكاديميين والقادة السياسيين، الذين بنوا خبرتهم وسمعتهم وتاريخهم على تحليل تحولات أروقة قصور وسرايات الحكم. لا تمكنهم نظرياتهم القديمة من فهم التوزان الجديد على الأرض وإمكانات تطوره، وهكذا تجدهم يميلون للجان النخبة المستنيرة لتحديد مستقبل الوطن على حساب الفعل الجماهيري المباشر في الإضرابات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية. فيضع هؤلاء أنفسهم، دون أن يريدوا ذلك أحيانا، في معسكر من ترفض مصالحهم هذا الوضع الجديد.
إن الوعي الشعبي الجديد يتميز بسمة تعطيه الغلبة على كل وعي يجيء عبر التثقيف أو الدعاية السياسية أو وصاية القادة والمحللين. هو وعي تم اكتسابه في المعركة بالخبرة الفردية الذاتية لكل عامل أو طالب أو موظف شارك في المظاهرات وفي المواجهات واعتصم في التحرير ودافع عنه ضد البلطجية أو شارك في حماية مدينته أو قريته من بلطجية الشرطة. وفي كل خطوة كان على كل فرد من هؤلاء أن يزن كل الأفكار السياسية التي تطرح عليه بميزان مصالحه وأحلامه ثم يتخذ قرارا وينفذه وهو يرى التضحية التي ربما عليه أن يدفعها (بحياته في حالات ليست قليلة).
هؤلاء هم من قاموا بثورتنا في النجوع والكفور وفي عواصم المحافظات. في المصانع والنقل العام وفي التحرير. وهم لا يحتاجون وصاية من أحد.
*عن الشروق