[تعمل "جدلية" على نشر مقاطع من أعمال ومقالات أدباء وشخصيات نتناول سيرتها في "ملف من الأرشيف". نأتي في مطلع هذا الشهر المصادف لذكرى إنطلاقة الثورة الجزائرية في العام 1952، بمقتطفات من الرواية الأهم التي وثقت تاريخ وتجربة الجزائريين في ظل الاستعمار الفرنسي؛ هي رواية "نجمة" لكاتب ياسين ابن قسنطينة حيث تدور أحداثها. وإذ كانت الرواية قد كُتبت بالأصل بلغة الاستعمار، إلا أنها أتت كفعل مقاوم له تحديداً عبر كشف عوالم الجزائريين الذين تقصد الاستعمار تغييبهم إنسانياً وسياسياً، مقدماً لنا واحدة من أهم الصور التي تحكي قصة الجزائر بتفاصيلها وهوامشها العميقة والصادقة. كاتب ياسين، نجمة، ترجمة: ملكة أبيض العيسى – النص من مختارات الرواية ضمن مشروع "كتاب في جريدة"، عدد 130 (2009)]
[الفصل الثالث]
-2-
لم يكن النازحون إلى مدينتنا عنّابة بالعدد القليل؛ لقد جعلتنا الحربان العالميتان، واتساع المرفأ على مر الأيام، نمتزج نحن، سكان المدن الأصليين، بأناس من مختلف الطبقات والأحوال؛ ولا سيما بالفلاحين الذين هجروا الأرض، وقاطني الجبال، والبدو الرحَّل. وباختصار، فإن موجة العاطلين عن العمل تضخمت لدى تسريح الجنود من ثكناتهم، هؤلاء الجنود الذي عرفهم نفس المرفأ في الذهاب والإياب. ففي المرفأ وحده كان كل فرد يستطيع أن يجد عملاً على الفور، أن تهبط عليه فجأة صفقة رائعة، لا تتحقق عادة إلا على رصيف الميناء أو على سطح باخرة أجنبية؛ كما يحدث أن يمكث هذا الفرد طيلة حياته دون أن يقع على عمل. وكم من بائس قضى نحبه في وَضَح النهار قبل أن تسنح له أية فرصة في الحياة. وأصبحت المدينة خانقة، تحدث الدُّوار، كصالة لعب، في سرائها وضرائها. ولم يعد التمييز ممكناً بين السكان القدامى والمغامرين، اللهم إلا من لغتهم، ولهاجتهم، وشيء من التسامح بالنسبة للغرباء الذين يُثرون، ويعمرون، وينعشون كل مدينة ساحلية تتعرض لمد الموجات البشرية وجزرها، تلك الموجات التي تكثفها طوعاً أو كرهاً. أما الصديقان سي مختار ورشيد، فقد أصبحا معروفين في أوساط مختلفة من المدينة، وراحا يقضيان الأماسي المرحة دونما كلل ولا ملل، ودون أن ينبسا بكلمة تنم عن أصلهما وأغراضهما... ولهذا لم يكونا ليثيرا كبير اهتمام عند الناس؛ فإذا ما اتفق أن ظهرا في وضع يخالف المألوف، فلم يكن ذلك يستدعي أكثر من السخرية والضحك. ولكنهما كانا بالرغم من ذلك يوحيان بالاحترام، لا لشيء إلا لإصرارهما على ألا يتدخلا في شؤون أحد. لم يكونا يرتادان المقاهي فحسب، بل كثيراً ما كانا يصادَفان في الاجتماعات، وأحياناً في المساجد. أما بطالتهما فلم تكن تبدو شيئاً بعيداً عن المألوف، في زمن كان المسرَّحون فيه من الخدمة العسكرية أنفسهم دون عمل. شيء واحد كان يثير الفضول هو ذلك التباين الهائل بينهما في السن.
-3-
في إحدى خمارات المرفأ، التقيت بالرجلين لأول مرة، بعد نزولي من المركب بقليل. كان سي مختار يتحدث إلى ضابط صف إنكليزي؛ أما رشيد فكان يصغي إليهما واللفافة بين شفتيه. كان الموضوع يدور حول الحرب والحرية. وانتهى ترددنا على أماكن بيع السمك المقلي إلى اجتماعنا، فإذا أنا بجانب رشيد.
-4-
ونُمِي إليَّ بعد ذلك بشهر واحد أن رشيداً وسي مختار حضرا الاحتفال بزواج نجمة، نجمة الإبنة الوحيدة لعمتي لالا فاطمة التي انقطعت عن السكن عندها منذ أن غادرت المدرسة، وقد استغربت ألا يتحدث إليّ رشيد بشيء عن العرس، رغم الصداقة التي أخذت تنشأ بيننا من بعيد. لم يكن يتكلم معي بادئ ذي بدء، ولكنه لم يكن ليخفي مودته لي. كان يبادرني دائماً بالتحية في لهجة آمرة، ويستوقفني كلما صادفني في طريقه. وبديهي أن سي مختار كان أغلب الأحيان بجانبه، وإن أخذا يظهران أحياناً وحيدين، هادئين، وقد اعتزل الواحد الآخر. وربما تلاقيا في الطريق، فنظر كل منهما إلى صاحبه شزراً، ثم لا يلبثان أن يشاهدا من جديد معاً، كسابق عهدهما، بسرهما المصطنع، بشجارهما الصُّوري، بحوارهما الذي يرتفع فيه صوتهما كأصوات الصمّ، بتأملاتهما المشتركة، وأخيراً بالأفواج العديدة التي كانت تتبعهما على بعد مائة خطوة... لم يتفق قط أن تكلما أمامي بشيء عن زواج نجمة، الذي لم يتح لي حضوره.
-5-
ثم غابا. ولم يدهش أحد لذلك. فالصديقان اعتادا أن يختفيا من وقت لآخر، ولكن شهوراً عدة انقضت على غيابهما هذه المرة. وفي خلال تلك الفترة تعددت زياراتي لعمتي. وفي الفترة ذاتها تعرفت إلى طالب شاب فُصل من المدرسة يدعى مصطفى؛ وعن طريقته علمت ُ بعودة رشيد. كان في هذه المرة وحيداً. لم يعد سي مختار معه.
-6-
ومن مصطفى علمتُ أن رشيداً غارق في الشقاء؛ مصطفى الذي ينطوي أيضاً على أسطورته الخاصة، والذي لم يكن في المدينة منذ أمد بعيد ليهتم بأمر رشيد. لقد شاهده ذات ليلة يزرع الرصيف، وحاول التحدث إليه، ثم ابتعد، لأن الرجل، ذا النظارة السوداء أجاب على تحيته باقتضاب. من وصف مصطفى عرفت الشخص المعني، عرفت رشيداً، وأخذت أبحث عنه على الفور. وأخيراً انتهى مصطفى ورشيد إلى الإقامة معي في تفس الغرفة التي استأجرتها لي لالا فاطمة، على مقربة من دارها، بعد الفضيحة التي جعلتني أترك المدرسة.
[الفصل الرابع]
-1-
((لقد جاءتْ إلى قسنطينة. بأي طريقة؟ لا أدري. ولم أتمكن قط من معرفة ذلك. كانت تقف كئيبة ذاهلة، في صالة أحد المستشفيات، حيث كان سي مختار يكثر الترداد، (فقد كان رفيق الطفولة للطبيب الذي أصبح فيما بعد المشرف العام)، مستشفى قادني إليه بغيظ، ذات صباح، بين الممرضات اللواتي يعرفهن جميعاً، وقال لي ذات يوم: ((ليس بينهن أوروبية واحدة، ولولاي –أنا والطبيب- لكنَّ حميعاً محجّبات. لقد التقطناهن لدى خروجهن من المدرسة، وانتزعناهن انتزاعاً من أهلهن...)) ومكث طوال الصبيحة، وهن يحطن به، أولئك الصبايا الخجولات، المنهمكات في العمل، اللواتي لا يزيد عمرهن عن العشرين. كان يناديهن علناً ((بناتي))، وهو يتحدث من وراء ظهر الطبيب، دون أن يلتفت إليه، كما لو لم يكن المستشفى إلا داراً من دور سي مختار، وليس الطبيب إلا أحد الموظفين الذين يأتون دونه في المرتبة، ودون الصبايا الباسمات، اللواتي يعرفهن سي مختار جميعاً، ويعرف آباءهن وأجدادهن... هو الذي طاف العالم، وصل أوروبا عن طريق تركيا، وكاد يُرجَم بالحجارة في العربية السعودية، ومثّل دور ((المالاباري)) في بومباي، وبدَّد إرثه في مارسيليا، وفيشي، ثم عاد إلى قسنطينة، قوياً، متماسكاً أبداً، يستعصي على الدمار... هو الذي وظَّف ثروات أخرى عند النساء، وصبية السوء، ورجال السياسة، يُعدُّ زواجاً ويهدم آخر ويحبك المؤامرات ويقلب المدينة عاليها سافلها، ليستعيد المال الذي ضيعه، مستعداً أبداً لاصطناع الإفلاس، أو للشجار مبدلاً بسرعة عجيبة أسنانه وثيابه التي لا نظير لها. ولكنه لم يعد يبتعد عن مسقط رأسه، ولم يبق عنده إلا أم هرمة، شارفت المائة وما تزال تملك نشاطه وحيويته. كان يعيش دون امرأة، دون مهنة يقتح الأبواب ويتقيأ في المصاعد الكهربائية، كثير النسيان، منصف كالأب المتسلط في الأسر القديمة، مبتكر علوم ليس لها غد، أفقه من الفقهاء أنفسهم، يتعلم الانجليزية من فم جندي، ولكنه لا يلفظ أبداً كلمة فرنسية دون أن يشوهها، كما لو كان يفعل ذلك عن مبدأ. كان ضخم البنية، ضيق النّفس، محدودب الظهر، متين العضلات، عصبياً أصلع مفوه اللسان محبّاً للشجار متكتماً عاطفياً أرستقراطياً علاّمة عطوفاً فظّاً متقلب الأهواء، ينتعل حيناً خفاً من المطاط، وتارة حذاء من الصوف وطوراً صندلاً أو نعلاً رقيقاً. ويرتدي الكشمير والكتان المخطط والحرير والسترة المفرطة في القصر والبنطال المنتفخ والصدار المصنوع من الجوع الانجليزي والقمصان عديم الياقة والبيجاما والبذلة الكاملة، يرتدي كل هذا الخليط من الأزياء دفعة واحدة، بعضه فوق بعض، ثم تراه يضع فوق ذلك كله البرنس ومعطف (الكافردين) المسروق، وطاقية الصوف والعمامة الناقصة، المزدحمة الطيات، المشبعة بالعطور.
وقد عاصر سي مختار المدينة وهي في المهد؛ وتلقت منه صبايا المستشفى حلواهنّ الأولى (فالشيطان الأشمط ألقى بي أنا نفسي في أحضان عدد لم أعد أذكره من النساء. خلال نشاطه المهووس كسمسار ووصي). ولكن المرأة التي أراني إياها هذا الصباح بدت، وكأنها لا تعرف تماماً مع أي شيخ عربيد ناعم تتعامل! لم أر قط امرأة مثلها في قسنطينة؛ بهذه الأناقة، بهذا التوحش، في شموخ غزالة لا مثيل لها، حتى ليخيل إليك أن المستشفى لم يكن إلا شركاً، وأن الأنثى الفاتنة كانت على وشك أن تتهاوى على ساقيها النحيلتين، المصنوعتين لرمال الصحراء، أو أن تنطلق هاربة بأقصى ما تستطيع لدى أول حركة يتجرأ إنسان أن يباغتها بها.
وتركَنا سي مختار وجهاً لوجه، بين بابين، فريسة للصمت وللأهواء المذعورة، في ذلك المستشفى المثالي حيث تبدو الأمراض مفتعلة، لشدة ما تبديه الممرضات من رقة ولطف، ومن براعة فائقة... ((أنظروا إلينا؛ لسنا فرنسيات، ولكن طبهم وأساليبهم لم تعد سراً بالنسبة إلينا، نحن بنات الأسر العريقة العربية أو التركية أو القبيلية)).
كن كلهن سمراوات، وبعضهن قريبات إلى السواد. لا أعرف كم عدد هؤلاء البنات غير المحجبات، اللواتي يهرولن وهن باسمات، بين أوائل الطب والمجلات المصورة ومنافض الرماد الهائلة الحجم، بينما كنت أقبع دون حراك أمام المرأة التي لم يكن لها سيماء الممرضات ولا هي بالمريضة... (لا شيء من ذلك مطلقاً)!.
تبعت سي مختار، بينما كنت أسقط من النعاس بعد ليلة من التشرد. لقد ناداني ليوبخني (ذلك الشيخ السافل كان ينتصب أمامي كرقيب صارم). أي قدر، أية عناية ربانية ساخرة، جعلتني الرفيق الملازم أبداً لسي مختار! إنني لا أستطيع تحديد الفترة التي بدأ فيها تعارفنا جيداً. كان أبداً يؤلف جزءاً من المدينة المثالية التي ترقد في ذاكرتي، منذ سن الختان غيرالمحدد، منذ سن الهروب من البيت، منذ الأسابيع الأولى التي أعطتني فيها السيدة كليمانت لوحاً حجرياً، كان بالنسبة لي أحد أرواح الموتى في قسنطينة. ولم أره يهرم، لم يهرم قط، ومتى كان لباربروس التاريخ، أو لجوبيتر الأسطورة وجه محدود، عمر نهائي؟
[الفصل السادس]
-9-
لقد شاءت العناية الإلهية أن يكون لمدينتيَّ اللتين أحبهما، أطلالهما القريبة، في غسق الصيف نفسه؛ على مقربة من قرطاجة. وما أظن أن في العالم كله مدينتين تماثلانهما... مدينتان شقيقتان في الروعة والحزن. لقد شاهدتا قرطاجة تلتهب، وسالامبوأميرتي تختفي، في ليلة من حزيران، اسودًّ فيها عقد الياسمين تحت قميصي، بين قسنطينة وعنابة التي فقدت فيها النوم، لأنني ضحيت بهوّة الرومل من أجل مدينة أخرى ونهر آخر، في إثر الغزالة الشاردة التي كانت تستطيع وحدها أن تنتزعني من ظلال الأرز، من الأب القتيل عشية ولادتي، في المغارة التي أستطيع وحدي أن أراها من الشرفة جاثمة هناك وراء الذرى المعطرة...
وغادرت أطلال ((سيرتا))* مع والد المجهولة، إلى أطلال ((هيبون)). وماذا يهم... إن كانت ((هيبون)) قد فقدت مجدها، وإن كانت قرطاجة قد دُفِنت، وسيرتا تتوب إلى ربها ونجمة قد أزيل بهاؤها؟... إن المدينة لا تزدهر، والدم لا يتبخر هادئاً مستريحاً إلا ساعة السقوط! ها هي ذي قرطاجة الضائعة تستفيق! وها هي ذي هيبون تبعث! وسيرتا تدرج بين الأرض والسماء... ها هي بقايا الماضي الثلاث تعود مع غروب الشمس... إنها أرض المغرب!
* هيبون: مدينة نوميدية قديمة بالقرب من عنابة. فيها أطلال رومانية كثيرة. أما سيرتا فهو الإسم القديم لقسنطينة. وكانت عاصمة الدولة النوميدية. وغوعورتيه: أمير نوميدية قاتل الرومان طويلاً حتى وقع في أيديهم فقتلوه.
[كاتب ياسين، نجمة، ترجمة: ملكة أبيض العيسى – النص من مختارات الرواية ضمن مشروع "كتاب في جريدة"، عدد 130 (2009).]