فيما يلي ملخص لبعض الأفكار التي أستقصيها في دراستي القادمة التي ستصدر عن مطبعة جامعة مانشستر: شقيقاتنا المقاتلات: الأمة، الذاكرة والجندر في الجزائر، 1954 – 2012
"لم أفعل شيئاً بعد الحرب"
كانت هذه المقولة، أو التنويعات عليها، أحد الأجوبة الأكثر شيوعاً التي حصلتُ عليها حين سألتُ النساء الجزائريات، وخاصة الريفيات منهنّ، اللواتي شاركْنَ في حرب التحرير (1954- 62): ماذا فعلتنَّ بعد الاستقلال؟ كانت النساء اللواتي حاورتهنّ يتحدّثْنَ لساعات عمّا فعلْنهُ أثناء الحرب (قلن إنهنّ يستطعْنَ التحدث أياماً وأسابيعَ عن الأمر). وحين عدتُ إلى سنة 1962، نظرْنَ إليّ، وعلى وجوههنّ علامة استفهام: لماذا تريدين أن تعرفي عن هذا؟ إن وجهة النظر هذه، حول سنة 1962، كـ "نهاية"، وبتحديد أكبر على أنها "النهاية" لارتباط النساء بوجهة النظر السائدة، في البحث التاريخي، الحالي حول ما الذي حدث للنساء اللواتي شاركْن في الحرب: لقد "أعادهنّ إلى المطبخ" نظام أبويّ ظالم لم يعترف بإسهامهنّ في الحركة الوطنية.
أنشدُ، في بحثي، أن أكشف الطرق التي عُبِّر بها عن أحداث سنة 1962 بلغة مجازية عالية، أو كيف أُخْضِعَتْ للصمت، وأن أفهم، في الوقت نفسه، كيف تتعايش هذه المعاني المجازيّة أيضاً مع سرد التجارب المعاشة، التي (لا) تلائم جيداً السرديات المرمّزة والمسيّسة لهذه الاستعارات. هذا مهم لسببين: أولاً، يمكّننا من تحدي الطرق التي دُوِّن بها تاريخ ما بعد 62 بلغة الحكم الأخلاقي الثنائية: فبحسب موقف المرء السياسي، إن الاستقلال إما حقق أحلام الصراع ضد الاستعمار، أو تمت خيانته بقسوة. ثانياً، إن الطريقة التي تتعايش بها هذه اللغة الثنائية مع "فوضى" التجربة المعاشة موحية جداً بالطرق التي بُنيت بها الدولة والمجتمع الجزائريين بعد 1962.
خيام، ملابس وفحول: لغة الرابحين والخاسرين من الاستقلال
حين تتحدث النساء اللواتي حاورتهنّ عن سنة 1962، يموضعن أنفسهنّ داخل سرد مهيمن متمحور حول: من "الرابحون" ومن "الخاسرون" في الاستقلال؟ لا يفعلن هذا بوضوح، بل عبر لغة مرمّزة تتحدث عن الخيام إزاء الفيلات، والبزات الرثة إزاء الملابس الجميلة، والرجال المنادين بالمساواة إزاء كارهي النساء. وبعد تموز\\يوليو 1962 أُسْكِنَ الجنود "الحقيقيون"، أي الرجال والنساء الذين جازفوا بحياتهم على أرض الجزائر، أثناء السبع سنوات ونصف من الصراع، (والنساء اللواتي حاورتهنّ يضمنّ أنفسهنّ في هذه الفئة) أُسكنوا في خيام بدل المنازل التي دمّرها الجيش الفرنسي. في أثناء ذلك، إن الجنود "المزيّفين" (الذين يمكن أن نخلص إلى أنهم الفارون في آخر لحظة من الجيش الفرنسي، أو أعضاء "جيش الخارج"، الذي انتظروا أثناء الحرب هناك على الحدود التونسية والجزائرية) استولوا بسرعة على الفيلات التي تركها المستوطنون الفرنسيون الذين رحلوا.
ارتدى الجنود "الحقيقيون" زيّاً عسكرياً رثّاً وأحذية لا تناسب مقاسات أقدامهم، بينما حصل الجنود "المزيّفون" على بزات جديدة جميلة وحملوا بارتباك بنادق لامعة. عامل الجنود "الحقيقيون" النساء اللواتي شاركن في الحرب باحترام وتقدير، بينما طرد "المزيّفون" المتطوعات الإناث من الاجتماعات السياسية، حاولوا التزوج منهنّ وهددوهنّ بالاغتصاب. إن اللا\\الشرعية هي مادية وأخلاقية في آن.
إن هذه التصويرات للجنود "الحقيقيين" و"المزيفين" تحاكي سرداً واسع الانتشار مضاداً للخطاب الرسمي الهرمي حول الاستقلال، سرداً عَبَرَ الجندر والجغرافيا والعمر والطبقة الاجتماعية في المجتمع الجزائري. هذا سردٌ لثورة مَصادَرَة يُدْخل إلى الموضوع مجموعة من الثنائيات المألوفة لجميع الجزائريين كمثل مجاهدين حقيقيين\\مجاهدين مزيفين، داخليين\\خارجيين، حكام أصيلين\\أجانب، سلطة شرعية\\غير شرعية. إنّ مصطلح "زمرة وجدة" (الاسم مستمدّ من البلدة المغربية التي تبعد عشرة كيلومترات عن الحدود الجزائرية حيث تقع هيئة أركان الجيش العامة) يعبّر، في صيغته الأكثر تسيّساً، عن فئة عسكرية ـ سياسية قوية داخل جبهة التحرير الوطني، بما فيه الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، والتي استولت على السلطة والثروة لنفسها سنة 1962.
لكنّ قصص النساء اللواتي حاورتهنّ تكشف في الوقت نفسه أيضاً عن غياب اليقين حيال سنة 1962: توضحُ قصصهنّ أنّ ليس كلَّ من حصل على فيلا متطوع مزيّف، وأن المتطوعين الحقيقيين يمكن أن يكونوا كارهين للنساء، وقد قالت إحدى اللواتي حاورتهنّ: "لم أر أبداً أخوتي من رجال حرب العصابات في الريف ثانية"، إلا أن كلامها ناقضتْه فيما بعد روايتها التي ذكرتْ فيها أنها التقت بعضو سابق من وحدتها في حرب العصابات ساعدها في تأمين عمل. إن هذه التجارب المعاشة الأكثر تعقيداً والمتناقضة أحياناً تتعايش مع لغة من المطلقات حين تعزو معنى أخلاقياً.
استخدام العاطفيّ لتجنّب السياسي
إن الدلالات الشعبية لتحقير إمضاء جزء من وقت الحرب في تونس والمغرب تجعل الموضوع غير مريح خاصة للنساء اللواتي أمضين بعض الوقت على الحدود، حتى ولو لمدة قصيرة من الوقت. كان المسار المشترك للنساء اللواتي اعتُقلن في شبكة التفجيرات الجزائرية، أو حرب العصابات في الريف، هو أنهنّ سُجنّ في سجون جزائرية، ثم نُقِلْنَ إلى سجون فرنسية. أُطلق سراح تلك النساء فيما بعد نتيجة لتوقيع اتفاقيات إيفيان في آذار\\مارس 1962. على أي حال، بسبب العنف القائم في الجزائر، اعتُبر من الخطير أيضاً أن يعدْنَ على الفور، وهكذا فإن كثيرات منهنّ أمضينَ بضعة أسابيع على الأقل مع جيش التحرير الوطني التابع لجبهة التحرير الوطني على الحدود المغربية والتونسية.
هذا موضوع حساس: النساء يتحدثن عن الشعور بعدم الراحة في سكنهن المريح، هنّ غامضات جداً حيال المشاحنات والصراعات الخفية التي تدور حولهنّ، وقد قُلْنَ إنه حين طُلب منهن الانضمام إلى فئة (غير محددة) رفضن. وتحدثن بشكل رئيسي عن كونهن ضائعات ومستنفدات ومشوشات ومتلهّفات كي يذهبن إلى الوطن. استحضرت النساء اللواتي حاورتهنّ الشعور الذي ولّده الفوز بالاستقلال وخسارة الأحباء، والإحساس بكونهن أُفْرِغْنَ من كل شيء كان عليهن منحه، ونشدان حالة سوية حُوِّلت بطريقة لا تُعكس، والتوق إلى عودة كانت مستحيلة.
في الوقت نفسه، فإن هذه السرديات مبنية في المعرفة التي تمت بعد الحدث حول وجود خطابات ما بعد 1962 عن "الداخل" و"الخارج"، "زمرة وجدة" و"الاستقلالات المسروقة". وفي هذا السياق، إن القصص الشخصية عن كونهن تعبْنَ، وضقن ذرعاً، وحنّين إلى الوطن صارت ضرورة سياسية. إنهن يحملن على نحو متزامن سرداً غير منطوق، أو شبه منطوق، عن الشرعية والاستقامة (الشخصية): "لم أكن جزءاً من زمرة استفادت سياسياً أو اقتصادياً من الاستقلال، وأنا مجاهدة حقيقية قاتلت على الأرض الجزائرية". إن هذا السرد هو بالضرورة غير منطوق. إن نُطْقَ هذه الكلمات بصوت مرتفع سيكون فعلاً قوياً ومن المحتمل خطيراً، لأن المرء سيضطر إلى افتراض معانيها الضمنية السياسية والاجتماعية، مقصياً "الآخرين" مهدداً فكرة الحرب كنوع من الرابط الاجتماعي، أساس المجتمع الجزائري. إن استخدام هذه اللغة الرمزيّة يسمح للأفراد بأن يموضعوا أنفسهم سياسياً خارج الزمرة الرابحة بدون تقويض الأهمية الاجتماعية للحرب.
العودة إلى المطبخ
إن فكرة أنه لم يحدث شيء بعد سنة 1962، و"أن الأمور عادت إلى ما كانت عليه من قبل"، أو "أن النساء تمت خيانتهنّ"، هي عناصر روايات كثير من النساء اللواتي حاورتهنّ. ومن أجل توضيح السياق والخلفية ينبغي القول إن الاستقلال قدّم فرصاً مهمة للأقلية الصغيرة جداً من النساء (حوالى 5%) التي تلقت تعليماً رسمياً تحت الحكم الاستعماري، فبعد رحيل السكان المستوطنين، صارت الدولة الجزائرية الوليدة بحاجة ماسة إلى مهاراتهنّ. إن النساء المُحَاوَرات اللواتي تضمهنّ هذه الفئة صرْنَ طبيبات ومعلمات وصحفيات، وعملْنَ في وزارات الحكومة، و تولّين في بعض الحالات مكاتب سياسية.
حتى النساء اللواتي يشرن إلى تولي هيئة أركان الجيش للسلطة في 1962 كـ "انقلاب عسكري" قلنَ إنهنّ شعرن بعد 1962 بمسؤولية تجاه الدولة، هذا إن لم يكن تجاه النظام السياسي، من أجل "جعل الأمور تعمل"، والمشاركة في ما دعينه "مهمات التنوير الوطنية". وبالنسبة لغالبية النساء، اللواتي لم يحْصلن على تعليم رسمي (95%)، كما بالنسبة لغالبية الرجال الذين بلا تعليم رسمي (90%)، كانت الفرص بعد الاستقلال محدودة أكثر: كان من المرجّح أكثر أن يعود الرجال والنساء الذين في هذه الفئة إلى أدوارهم السابقة. ولكن من المهم التشديد على أن سياق هذه "العودات" تغيّر درامياً، وبشكل كبير نتيجة للاضطرابات الناجمة عن الحرب: ففي كثير من القرى كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال (نتيجة وفيات الحرب أو هجرة الرجال للبحث عن عمل)، فقد هاجرت عائلات بأكملها من المناطق الريفية إلى المدينية بكثافة، وكسبت كثير من النساء مصدراً للدخل المستقل للمرة الأولى: معاش أرملة الحرب. وحين تتحدث النساء المُحَاوَرات اللواتي لهن مدخل إلى التعليم عن المعاشات كثيراً، لا يحدث هذا لأنّ المعاشات كانت وما تزال مهمة مالياً لجماعاتهنّ فحسب، بل أيضاً لأن هذه طريقة للحديث عن علاقتهن بالدولة، سواء كانت النساء يشعرن أم لا أن الدولة اعترفت بما يكفي بتضحيات أولئك النسوة للأمة وعوّضتهنّ عن "دين الدم" المستحق.
العلاقة مع الدولة وسرديات الأمة
حين ننشد عبور التقسيم الاستعمار\\ما بعد الاستعمار، فإننا نكشف تاريخاً من الاستمرارية والتغيّر دُفن تحت خمسين سنة من قيام الدولة بالتبرير الذاتي بعد الحدث والاستياء المتواصل لكثير من الجزائريين الذين يرون أن الثورة خِينتْ. إن الطبيعة الصراعية والإشكالية لسنة 1962 كرمز للشرعية\\اللاشرعية السياسية وإشارة إلى علاقة المرء بالسلطة، عبّرت عنها، بين فينة وأخرى، النساء اللواتي حاورتهنّ بعدد من الطرق: عبر التأكيد على بعدهنّ عن السياسة، من خلال استعارة الفساد الأخلاقي، والإصرار على كونهن مواطنات مفيدات رغم كل شيء.
يقدم هذا لغة مشتركة تجمع الناس معاً، كـ "مكان آمن" للجدل السياسي الذي لا يقوض أبداً الأهمية الاجتماعية للحرب والسرد المهيمن بأنه كان هناك "بطل مفرد واحد، هو الشعب". ففي هذا المنظور، تصبح انشقاقات وانقسامات 1962 جزءاً من السرد المهيمن إن لم يكن الرسمي.
إن سنة 1962 مهمة أيضاً في إعادة تعريف علاقة اللواتي حاورتهنَّ بالدولة. وإذا ما أصغينا بحرص إلى كيف يتحدّثْنَ عن الاستقلال، سنبدأ بفهم أنه إذا برهنت البنى العائلية والتوقعات الاجتماعية لأدوار النساء أنها مقاومة للتغيير، فإن الاستقلال عنى إعادة تعريف للعلاقة بين الفرد والدولة أثرت في النساء والرجال. بالنسبة لكثير من النساء اللواتي شاركن في الحرب، بالكاد سجلت سنة 1962 هزّة خفيفة في حياتهنّ اليومية لأنه كان لها تأثير غير مدرك في مفهومات راسخة عن مكانة النساء داخل العائلة والمجتمع. لكنّها أشارت في الوقت نفسه إلى تبدل زلزالي في صياغة الطريقة التي ينظرن بها إلى علاقتهن مع الدولة. بالنسبة للسلطة الاستعمارية، التي لا يُدان لها بشيء، ولا يمكن توقع شيء منها، كان الهدف من دولة ما بعد الاستقلال هو تحقيق آمال مواطنيها، وفي الوقت نفسه، يمتلك المواطنون الآن التزاماً أخلاقياً للإسهام في بناء الدولة. هذا عقد اجتماعي متبدل وغير مدوّن، ولكنه عقد اجتماعي بالرغم من ذلك.
[ترجمه إلى العربية أسامة إسبر. اضغط هنا للنسخة الإنجليزية]