إعادة تخيّل "الحقبة الجميلة": تذكّر بناء الأمة في الجزائر
الجزائر، صيف 1972. عَقْدٌ بعد الاستقلال، والصحف تزدهر. الجزائر هي أول دولة في المنطقة أمّمتْ نفطها واحتياطها من الغاز بنجاح؛ المواطنون يتمتعون بالتعليم الشامل المجانيّ للمرة الأولى؛ الإنتاج يبدأ في مصنع الفولاذ الجديد العملاق في الحجار؛ يُنجز العمل في قرى السكن الاشتراكي الألف الأولى قرب تلمسان، يحظى العمال الزراعيّون بملكية الأرض في ظل الثورة الزراعية؛ عمليات البناء قائمة في فندق الأوراسي الفخم، وكذلك الملعب الأولمبي الذي صمّمهُ المهندس المعماري أوسكار نييمير، ومدينة باب الزوار الجامعية في الجزائر؛ تبدأ برامج الإدارة الذاتية للعمال في الشركات التي تملكها الدولة؛ تنتقل العائلات الأولى إلى آلاف الشقق التي تشكّل المجمّع السكني الاشتراكي الجديد في "باش جراح"؛ آلاف من الشبان المحفّزين إيديولوجياً من أنحاء العالم يصلون كي يشاركوا في مستقبل الجزائر. وفي العاصمة، يسوق سكان المركز العالميّ الناطقين بلغتين سيارات البيجو 504 آخر موديل في شوارع نظيفة جداً، ترتفع على جانبيها أبنية بيضاء جميلة متألقة، نحو منتجعات الشاطئ العام في نادي دو بيناس وموريتي؛ نساء يلبسْنَ "الحايك" البيضاء الفضفاضة، أو التنورات القصيرة، يخطّطن لقضاء عطل نهاية الأسبوع في باريس في المقاهي الرصيفية؛ في المساء يقف الناس بالدور خارج النادي الليلي الكتبية والذي تُسمع فيه ألحان أحدث أنواع موسيقا الفانك والسول.
[جادة عبد الرحمن طالب، باب الوادي، أوائل السبعينات.]
بعد خمسين عاماً من الاستقلال، لا تبدو هذه الأحداث والمشاهد كأنها تنتمي إلى زمن آخر فحسب، بل إلى عالم آخر أيضاً. كيف يذكر الناس اليوم فترة ما بعد الاستقلال، وما الذي تقوله لنا هذه الذكريات عن الحاضر؟ إن هذه المقالة التي تتمنى أن تنتقل إلى ما وراء الفترة الاستعمارية وحرب الاستقلال، تستند إلى عمل ميداني إثنوغرافيّ استمرّ أكثر من عام في حارة الطبقة العاملة الجزائرية باب الوادي. تدرسُ الطرق التي صُقلت بها الذوات المعاصرة عبْر الإشارات إلى فترة بناء الأمة في السبعينيات، في عهد هواري بومدين.
ما يتجلّى بقوة أكبر في هذه التمثيلات للفترة هو الإحساس بالانفصام بين الماضي والحاضر، أو الإحساس بانفصال زمني. ثمة إحساس ملموس بأن الحاضر ليس كما ينبغي أن يكون، وأنّ شيئاً هاماً انسحب إلى الماضي. على أي حال، إن العلاقة مع الماضي بعامة (ومع السبعينيات بشكل محدد أكثر) متناقضة. ويتجلّى هذا التناقض في عبارة "يا حسرة"، التي تعبّر عن كلّ من الحنين ونقيضه في آن، مشيرة، على نحو متنوّع، إلى تعبير حزين بأن الأمور كانت أفضل في الماضي، أو إلى تعبير عن الراحة بأن شيئاً سلبياً في الماضي قد انتهى. وبالرغم من الحنين واسع الانتشار إلى السبعينيات، فإن معظم الناس الذين التقيتُ بهم في باب الوادي عبّروا عن سعادتهم للتخلص من سياسة بناء الأمة، الملهمة اشتراكياً والاستبدادية، التي اتبعها بومدين.
إن شخصية بومدين مثيرة للخلاف: فهو مكروه كدكتاتور قاس ومحترم، في الوقت نفسه، لاستقامته وجهوده المخلصة في تحسين وضع الجزائريّ العادي. وغالباً ما يُعبّر الشخص نفسه عن وجهتيْ النظر. ويُنْظرُ إلى بومدين على التعاقب في ضوء إيجابي، كقائد قوي يقدم مزيجاً من العدالة الاجتماعية والرخاء والاستقرار والنظام النسبي، ويتم التحدث عنه سلبياً (كدكتاتور لا يعرف الشفقة قضى على معارضيه السياسيين، وزيّف تاريخ صراع التحرير، وأساء إدارة موارد الدولة وقَمَعَ الحريات المدنية). كان إرث الاستبداد واضحاً للعيان، وقد أخبرني معظم الأشخاص الأكبر سنّاً الذين حاورتُهم، قبل أن يبدأ التسجيل، بأنهم يشعرون بعدم الراحة حيال التحدث في السياسة.
بالنسبة لسكان الحي الذين من الطبقة المتوسطة، والذين يتذوقون فوائد الثروة المادية في اقتصاد يعمل، بالتأكيد، للبعض، اعتُبرَ الاقتصاد المخطط اشتراكياً مسؤولاً عن صناعة سكان يخجلون من العمل ويعتمدون على الدولة، وما يزالون يتوقعون أن يُقدَّم لهم كلُّ شيء على طبق. هذا هو في الغالب السرد الرأسمالي للروح التجارية. من ناحية أخرى، يتذكّر سكان الحي الذين من الطبقة العاملة في الحارة، والذين يصارعون لجعل النهايات تلتقي، حقبة بومدين كفترة مليئة بالوظائف ومستويات المعيشة المرتفعة. وزعمت قصة واحدة بأنه بالرغم من دولة الحزب الواحد، والافتقار إلى المؤسسات في معظم فترة السبعينيات، إن تركيز البومدينية (نسبة إلى بومدين) على العدالة الاجتماعية (ضمان السيطرة على الأسعار، الرعاية الصحية الشاملة والسكن الاشتراكي) جعلها ديمقراطية على نحو حقيقي أكثر من النظام الحالي متعدد الأحزاب، بالرغم من حرية التعبير الأكبر حالياً. وبالنسبة لكثير من الناس الذين تحدثتُ معهم إن زخارف الديمقراطية لا تعني سوى القليل دون عدالة اجتماعية. وقد قام أحد الأصدقاء بتمييز واضح، معبّراً عن النظام السياسي كإعادة توزيع دوريّة للسلطة بين النخبة لا تأثير للناس فيه (بالتالي استبدادية) أما استبداد السبعينات فقد وفّر الحاجات الأساسية للناس (بالتالي كان أكثر "ديمقراطية حقاً"). "كانت لدينا عدالة اجتماعية من قبل، ولكن لم تكن لدينا ديمقراطية، الآن ليس لدينا لا عدالة ولا ديمقراطية!" إن هذا العكس يذهب إلى قلب الجدل حول ما تعنيه الاشتراكية للجزائريين، ويعاود إنتاج الدعاية الاشتراكية ـ الإنسانوية للسبعينيات، والتي بحسبها يجب أن تُقاس الديمقراطية بالمدارس والمستشفيات وملكية الأرض، أي بالرفاه الاجتماعي، بدلاً من عدد الأحزاب في البرلمان.
تلعبُ الانقسامات بين الأجيال دوراً قوياً في تمثيلات الماضي أيضاً. بالنسبة للناس الأكبر سناً الذين عاشوا فترة السبعينيات ثمة إحساس قوي بكل من فقدان حيوية البلاد الأولى وشبابهم. فالماضي لا يُستعاد ولا يمكن مصالحته كلياً مع حاضر يبدون فيه كأنهم يصارعون كي يجدوا أنفسهم. من ناحية أخرى، يقف كثير من الشبّان في مكان ما بين الاحترام التقليدي للكبار في السن، والاستياء من أن جيل آبائهم ترعرع أثناء ما يُدرك على أنه ذروة ازدهار الجزائر، والغضب من الجيل الأكبر الذي اعتُبرَ مسؤولاً عن تدهور البلاد منذ الثمانينيات. وكما تعلن كتابة على الجدار في باب الوادي بتحد:"لماذا نحن؟ نحتقر 100% الذين دمّروا البلاد).
إذا كانت سياسة الماضي مثيرة للخلاف، فقد ظهر تناقض أقلّ أثناء تذكّر المكان المديني والتواصل الاجتماعي في باب الوادي في السبعينيات. هنا تبدو التمثيلات نوستالجية بشكل جماعيّ، والشعور بالانفصام بين الماضي والحاضر أكثر وضوحاً. ثمة تأكيد ساحق على مظاهر من الماضي تشدد على ما هو مُدرك بأنه مفتقد في الحاضر، والذي يُنظر إليه دوماً في ضوء سلبي. ويُقرأُ الانفصام بين الماضي والحاضر عبْر التغيّرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي حصلتْ أثناء الفترات الفاصلة: اللبْرَلة الاقتصادية وأزمة الثمانينيات، عنف التسعينيات، وسلطة الدولة المعزّزة والنزعة الاستهلاكية في الألفية الثانية.
[المسجد الكبير والحديقة والتي حل مكانها كاراج بعدة طوابق، أوائل السبعينيات.]
تعبّر توصيفات السبعينيات عن الرحابة، الافتقار إلى ازدحام المرور والحشود؛ ثمة بنية تحتية مدينية نظيفة ومصانة جيداً، وإحساس بأن المجتمع حديث وفيه آخر الموضات والسينما والموسيقا. سمعتُ كثيراً عن الشاحنات التي تغسل الشوارع في الليل بماء البحر، والبزات التي يرتديها سائقو التاكسي، والغرامات المفروضة على الذين يفسدون جمالية أبنية الشقق بنشرهم للغسيل على الشرفات كي ينشف. تتغاير هذه الصور مع الحارة المكتظة والمزدحمة وذات البيوت المتصدعة اليوم، التي أُغلقت باراتها وصالاتها السينمائية، والتي لا تُقدِّم عملياً أمكنة يستطيع فيها الشبان أن يعبّروا عن أنفسهم. أما المنتجعات العامة، مثل نادي دو بيناس، فقد صارت منذ وقت طويل جماعات مغلقة الأبواب تقريباً لا تدخلها إلا النخبة. وغالباً ما تتضمّن مناقشة الماضي شجب البنية التحتية المخرّبة لباب الوادي في الوقت الحاضر، وخاصة حالة الأرصفة والطرقات، كمية القمامة غير المزالة في الشوارع والتشوّهات في الأبنية.
تعبّر السبعينيات عن الجدية في إدارة الشؤون العامة (من البنية التحتية المدينية إلى غياب الفساد) من قبل دولة لم تتخل بعد عن مسؤولياتها. ويتماشى الإحساس بالانفصال الزمني أيضاً مع انفصال مكاني واضح إذ بينما شكا كثير من السكان الكبار في السنّ من أنهم لم يعودوا يعرفون حارتهم، فإن كثيراً من السكان الأصغر سنّاً تعرّفوا بصعوبة على صور لشوارع حارة باب الوادي التُقطت في السبعينيات.
يُنظر إلى الحياة الاجتماعية للسبعينيات على أنها تعبّر عن مجموعة من القيم التي تتدهور حالياً. فالعلاقات الاجتماعية لذلك الوقت يُنظر إليها على أنها تتسم باحترام التقاليد وسلطة الكبار، المعبّر عنها في التربية (اللباقة والسلوك الحسن) والحرمة (احترام الحدود الاجتماعية، وخاصة بين الرجال والنساء). وتُصَوَّرُ الحياة الاجتماعية للسبعينيات على أنها متماسكة، وتتصف بعلاقات حميمية ووديّة بين الجيران. كان الناس يعرفون بعضهم ويثقون ببعضهم البعض. غير أن الموقف مختلف اليوم، حيث غياب الثقة بالناس الآخرين يُرى غالباً على أنه العرف، وحيث تبدو الدولة كأنها تخلّت عن إدارة البنية التحتية المدينية. ويُعبَّرُ عن حالة الشؤون غالباً بعبارة:"كل شخص مهتم بنفسه فقط".
ترتدُّ ذكريات السبعينيات منعكسة عبر تمثيلات مظهر الأزمة الاقتصادية الخطيرة أثناء منتصف الثمانينيات، والازدياد الناجم في الانقسامات الاجتماعية، والتدهور في أوضاع المعيشة، وخاصة في التشظي الاجتماعي الذي سبّبه عنف التسعينيات. فقد حصلت هجرة كبيرة من المناطق الريفية المحيطة أثناء الصراع، وهرب الناس إلى الأمان النسبي للعاصمة.ورأى كثير من سكان باب الوادي أن فرصتهم للهرب قد سنحتْ فباعوا شققهم للوافدين الجدد، بالتالي صار الناس أقلّ معرفة بجيرانهم. بالإضافة إلى ذلك، إن ظهور الجماعات المسلحة، والهجمات بالقنابل، والاغتيالات والواقع المظلم الناجم عن الاضطرار للذهاب إلى العمل أو المدرسة دون أن تعرف أنك ستعود حيّاً، دفعوا الناس إلى إمضاء المزيد من الوقت داخل المنازل.
وفيما خُصِّص الكثير من الانتباه الإعلامي والأكاديمي لمسألة من قام بعملية القتل في الجزائر، إلا أنه بالنسبة لسكان باب الوادي فإنّ الإنتاج الاجتماعي لانعدام الثقة بين المواطنين الذي ضاعف الانهيار الكليّ لعلاقات الدولة ـ المجتمع كان مضاعفاً على المستوى المحلي. وشكّك الناس ليس بمن كان (المسؤول) فحسب، بل أيضاً بمن كان يبلّغ عن من. حُصِّنتْ الشقق بأبواب فولاذية وقضبان معدنية، أما الأيام التي كان الأطفال يتنقّلون فيها بحرية بين الشقق لزيارة أصدقائهم، ويتوقف الجيران كي يتحدثوا في الشارع، بدت كأنها انتهت. فضلاً عن ذلك، إن بزوغ مجتمع استهلاكيّ، وقياس النجاح من زاوية السيارات الجديدة والشاشات التلفزيونية المسطحة في البيئة الأكثر استقراراً للألفية الثانية حدّا أكثر من الانسجام الاجتماعيّ، بما أن الناس صاروا يتصرفون على نحو متزايد كأفراد مستهلكين. والواقع أن نقداً عاماً للسبعينيات يتحدث عن النقص المتواصل في البضائع الاستهلاكية، بما أن الاقتصاد المخطط وجد نفسه غير قادر على مماشاة الطلب المتزايد الذي يغذّيه نمو السكان السريع. ذلك أنّ الشبان اليوم لا يستطيعون تصوّر الذهاب إلى السوق دون أن يتمكنوا من العثور إلا على الفليلفة الخضراء والبطيخ الأحمر، أو أن يكونوا قادرين فحسب على شراء ملابس صنعتها سونيتيكس، شركة النسيج الوطنية، خاصة بما أن الأسواق الضخمة والمولات بدأت بالظهور مؤخراً على أطراف المدينة. وينشد الكثير من الناس الأكبر سنّاً أن يبجّلوا ما يجب أن يكون بعيداً عن الظروف المثالية، بابتسامة ولع وإحساس بـ "لم نملك الكثير، غير أننا كنا سعداء".
وبخلاف ذكريات أولياء أمورهم عن ماض جليل، فإنّ الحاضر يبدو للشبان، الذين يشكلون أغلبية سكان باب الوادي، أي شيء عدا أنه جليل. فهو لا يقدم سوى الاحتمال الهزيل بصراعات يومية وإذلالات لا تنتهي كالصراع لمحاربة الضجر والبقاء خارج المشاكل؛ للتعامل مع مدينة مكتظّة يمكن أن تنفجر الأمزجة فيها بسهولة؛ لبناء مستقبل للذات رغم البيروقراطية الكابوسيّة ونظام التربية الذي يقوم بما في وسعه في ظروف صعبة؛ وللعثور على مكان خاص يبقى فيه المرء إيجابياً ويستغل الأمور على أفضل وجه.
[المسابح في كيتاني، باب الوادي، أوائل السبعينات.]
بهذا المعنى، إن التذكر النوستالجيّ هو طريقة للتعبير عن الأسف من تجارب الحياة، ولصقل الحميمية عبر التعبير المشترك الذي يسمح للناس بتعريف أنفسهم في العالم. فبدلاً من الرغبة بإدارة عقارب الساعة إلى الوراء، يسمح للناس بالتعبير عن السخط من الحالة التي وصلت إليها الأمور، ويوحي بأن الحياة ينبغي (ويمكن) أن تكون أفضل. تُصوّر الذكريات السبعينيات كوقت ينتمي إلى ما قبل العولمة، كان الجزائريون فيه ما يزالون متمسّكين بقوة بتقاليدهم، فيما، في الوقت نفسه، يعيشون حداثة جديدة مثيرة بثقة. وتمثّل الحقبة في الخيال الاجتماعي لباب الوادي توازناً بين التراث والحداثة، وهذه هي بدقة المجالات التي تتهمها فيها إيديولوجيات الثمانينيات والتسعينيات (الليبرالية الجديدة والإسلامويّة) بالفشل. وعلى نحو أكثر أهمية، تذكّرنا هذه الذكريات بقوة بأن تحديات الاستقلال الجزائري لبناء دولة ديمقراطية، اجتماعية حديثة ومحترمة للتراث في آن، ما تزال قائمة ويجب أن تُواجه.
[مصدر جميع الصور المستخدمة: ”(Société Nationale d`Edition et de Diffusion (SNED“.]
[ترجمة أسامة إسبر. اضغط/ي هنا للنسخة الإنجليزية من المقال]