"أعيدوا لنا نفطنا": مطالب بالعدالة في ضوء ماضي الجزائر الاستعماري
أهدف في هذا المقال إلى تبيان أن ماضي الجزائر الاستعماري استُخدم من أجل التعبير عن شعور بالظلم ولشجب احتقار وعنف النخبة الحاكمة. وبفعلي لهذا، أشدّد على أن معنى "الاستعمار" مثير للجدل على نحو كبير؛ وتستخدم الخطابات غير المهيمنة في الجزائر المصطلح على نحو مختلف بحسب أهدافها الاستراتيجية وحالات فهمها للمصالح الاجتماعية والسياسية.
الأزمة الإبستمولوجيّة للنظام ما بعد الاستعماريّ
ثمة في قلب حجّتي زعمٌ بأنّ الجزائر يمكن أن تُعَدَّ مثالاً متطرفاً لأزمة إبستمولوجيّة تسمُ النظام ما بعد الاستعماري. بتعبير آخر، هناك شعور بالإحباط من فشل التحرر الاقتصادي والسياسي الذي وعد به الاستقلال، ومن ثَمَّ خطط التنمية. وتتصل أزمة النظام ما بعد الاستعماري في العمق أيضاً بحقيقة أن هناك عدداً من التأثيرات المتواصلة للحقبة الاستعمارية1. يمكن أن يظهر هذا منطوياً على مفارقة بما أنّ النخبة الحاكمة بنتْ سلطتها على ذاكرة الحرب؛ وكما يبيّن الدستور، دعم النظام الاستقلال كلحظة تأسيسيّة تبرّر استيلاءه على السلطة السياسية والثروة الاقتصادية 2.
لكنّ المفارقة التأسيسية للنظام ما بعد الاستعماريّ هي أنّ كثيراً من المؤسسات في البلدان المستقلة حديثاً وُرثتْ من السلطة الاستعمارية السابقة. فضلاً عن ذلك، إن الدولة الحديثة ليست عاجزة عن تحقيق وعودها في التحرر والتقدم الماديّ فحسب، بل تشارك بنشاط أيضاً في المنطق الرأسمالي الكامن خلف العولمة، وبشكل ملحوظ أكثر في تصدير النفط والغاز واستغلال ما تحت الأرض. وتؤكد فضائح الفساد الكثيرة في الجزائر حقيقة أنه لم يعد هناك قيادة تستطيع صقل رؤية واضحة للتقدم. بدلاً من ذلك تشجب السرديات غير المهيمنة خيانة نخبة حاكمة تسطو، على نحو شاذ، على ما عُدَّ في السابق ثروة عامة. هكذا، حين زار رئيس الوزراء السابق أحمد أويحي محافظة البويرة أثناء انتخابات المجلس التشريعي سنة 2012، واجهه محتجون صاحوا: "كذابون، لصوص! أعيدوا لنا نفطنا". إن كثيراً من المرشحين الآخرين، من خلفيات سياسية متنوّعة، هُدِّدوا أيضاً أثناء الحملة الانتخابية.
تشكّل خيبة الأمل الشعبية هذه أيضاً رد فعل على الدور الذي تلعبه النخب السياسية في الجزائر، وهي تنشد المصداقية الدولية عبر محاكاة الخطابات والممارسات المرتبطة بمفهوم "الحكم الجيد"، كمثل الأمن والديمقراطية. وغالباً ما يتصرف أعضاء النظام كما لو أنهم فوق المجتمع الجزائريّ، مفترضين أن دورهم هو تعليم مواطنيهم كيف يتصرفون بطريقة منسجمة مع المثل "الحديثة". هنا، بالطبع، يعثر المرء على تشابهات قوية مع الخطابات الاستعمارية الأقدم. إن هذا السرد الذي يتحدث عن "الطبيعة البدائية والعنيفة" للشعب الجزائري يشير إلى محاولة لشرح الظاهرة السياسية بالماهَويّة الثقافية، وهذا اتجاه يذكّر بالخطابات الاستعمارية. بالتالي، إن فكرة أن هناك ما يُدعى بـ "ثقافة العنف" تسمح للنظام بأن يقوم بالزعم الأبوي بأن الجزائريين يجب أن "يُثقَّفوا"\\"يُحضَّروا" من أجل تعلم الطرق المقبولة في التعبير عن سخطهم. مثلاً، بعد أعمال الشغب التي شملت البلاد كلّها في كانون الثاني\\يناير 2011، شرح الرئيس السابق لجبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم أن المشاغبين كانوا يكررون شعارات سياسية تُسمع أثناء لعبة كرة القدم، مما أظهر أن البلاد تفتقر لضمير مدني متطور بشكل كامل 3.
إنّ هذه الاتجاهات في الحكم العالمي ليست خاصة بالعالم ما بعد الاستعماري، إلا أنها تتخذ شكلاً معيّناً في البلدان التي كانت مُستَعْمرة سابقاً. ففي الجزائر، مثلاً، يمكن أن تربط الاحتجاجات السياسية النظام الحالي بالمُضْطَهِد الاستعماري السابق، إن الذكريات عن الاستعمار، في الأرشيف الرمزي لما بعد المستعمرة، مصدر أساسي لشرح ما يُدعى بخيانة النخبة، التي كانت مرة ثورية. فبدلاً من التشكيك بحقيقة أن الاستعمار يبقى المصدر الرئيسي لكل ما يحصل في ما بعد المستعمرة، تردد الخطابات غير المهيمنة صدى الخطابات الرسمية في تعريف الموقف السياسي والاجتماعي في الجزائر من خلال عدسات الحكم الاستعماري. من خلال ذلك، غالباً ما تلجأ إلى الاتهام الكلاسيكي، والذي هو الاستعمار الجديد، من أجل تشويه سمعة الدولة الجزائرية.
الاستعمار الجديد والاستعمار الداخلي
إن فكرة أن الثورة الجزائرية لن تكتمل إلا إذا تحرر الشعب اقتصاديا وكذلك سياسياً عززتها الدولة الجزائرية نفسها. ففي بداية حكم بومدين، زعم السرد المهيمن بأن حرب الاستقلال لن تكتمل إلا بالتنمية الاقتصادية. وفي الثمانينيات، نشرت خيبة الأمل المتنامية واحتكار الثروة الوطنية بين الجماهير فكرة "حزب لفرنسا" يسيطر على الدولة الجزائرية، وقد جمع هذا بين شجب الفساد وفكرة خيانة وطنية. فيما بعد، أثناء الحرب الأهلية، زعمت الجبهة الإسلامية للإنقاذ أنها تؤدي جهاداً جديداً لتحرير البلاد 4.
تساعد فكرة الاستعمار الجديد في فهم عنف التسعينيات عبر تقديم رؤية مبسطة تقسم العالم إلى مجموعات معرّفة بعناية بأهداف واضحة. وبما أنّ عدداً من الضباط المهمين في الجيش الجزائري أثناء الثمانينيات والتسعينيات كانوا فارين سابقين من الجيش الفرنسي، فقد اتُهمت قيادة الأركان العامة في الجيش بأنها تحاول إدامة النفوذ الفرنسي. مثلاً، إن القَسَم الذي أدّته حركة الضباط الأحرار الجزائريين، والتي هي منظمة سرية من الضباط السابقين في المنفى، يوضح الشعور بأنّ الجيش الجزائري كان مُخترقاً من قبل الفرنسيين. ويصرّ القَسَم على مسؤولية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي في ما وُصِفَ بأنه "مجزرة" ضد الشعب الجزائري أثناء الحرب الأهلية. في هذه الحالة، يتضمن استخدام كلمة "مجزرة" أن عنفاً فائقاً للعادة قامت به عناصر أجنبية، مدخلاً الحقبة السوداء في المنطق العنيف للاستعمار الجديد. يسمح هذا السرد للأفراد بفهم الاستخدام غير المتناسب للعنف من قبل الدولة ـ في تشرين الأول\\أكتوبر 1988، أثناء الحرب الأهلية، وكذلك أثناء الربيع الأسود في منطقة القبائل سنة 2001.
لكنّ استخدام تقسيم ثنائيّ مثل عناصر "أجنبية" و"وطنية" بسيط جداً ذلك أن الاستعمار الجديد أعيد توظيفه أيضاً في سياق الصراع طويل الأمد بين منطقة القبائل والسلطة المركزية. وقد صرّح العضو السابق في "الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل" الريزقي باكير العام الماضي أنه "بعد الاستعمار الفرنسي، على المرء أن يقاتل الاستعمار الفرنسي الجديد. والواقع أنه إذا كانت فرنسا قد صنعت الأرض الجزائرية، فإنها صنعت أيضاً النظام الجزائري". بالنسبة للمعارضة البربرية، تجاهلت الدولة المكوّنات البربرية للثقافة الجزائرية عبر سياسة التعريب التي تبنّتْها. وبتعريفه للدولة كسلطة استعمارية جديدة، صوّر باكير الأمة الجزائرية كبناء استعماري، مقوّضاً شرعية الدولة. مع ذلك، إن السرديات القبائلية نفسها تعتمد في الغالب على أسطورة أقدم، استعمارية على نحو كامل، أسطورة البربر المتحضرين إزاء العرب المتوحشين 5. بتعبير آخر، إن النشاط الثقافي القبلي، وخاصة حين يعبّر عنه أعضاء "الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل"، متأصل في فكرة أن ثقافة البربر أكثر انسجاماً مع الحداثة والعلمانية من نظيرتها العربية. وهكذا، بينما يهدف هذا البناء الخطابيّ إلى تحدي الزعم الوطني بوجود ثقافة وطنية جزائرية موحدة ودولة مركزية، فإنه يقدم موقفاً منطوياً على مفارقة يشجب ما يُدعى بالنظام الاستعماري الجديد من خلال صقل سرديات استعمارية على نحو كامل.
يتم التعبير عن التهم بالهيمنة الثقافية والاقتصادية ضد النخبة الحاكمة من زاوية ممارسة "استعمار داخلي" أيضاً. مثلاً، أثناء الذكرى الخمسين للثورة الجزائرية، استغلّ الطاهر بلعباس، من اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق العاطلون عن العمل، مناسبة الذكرى الخمسين للثورة الجزائرية كي يشجب سوء إدارة النظام والاحتقار المُمأسس ضد شعبه. وبفعله لهذا، اتهم النظام بممارسة "استعمار داخلي" 6. من المهم التشديد على أن تهمة استعمار داخلي لها وقع مختلف جداً عن تهمة استعمار جديد؛ بينما يتضمن الاستعمار الجديد أن القوة الإمبريالية السابقة تواصل الهيمنة على البلاد، فإن الاستعمار الداخليّ يوضح الشعور بالخيانة الذي ينبعث من قلب الجماعة الوطنية نفسها 7. وبدلاً من إنتاج خطاب مهيمن قائم على جنون الارتياب ينظر إلى كل ظلم كنتيجة لنفوذ أجنبي، فإن هذا الخط من النقد يركز على المسؤوليات المتوقعة من أولئك الذين في الجماعة.
أخيراً، إن تهمتي الاستعمار الجديد والاستعمار الداخلي تعبران عن خرق مُدرك في العقد ما بعد الاستعماري، الذي يشدد على عجز النخبة الحاكمة عن تقديم رؤية متماسكة للتقدم تمكّن السكان من فهم عالمهم الحاليّ. هذا هو جوهر ما دعوته بالأزمة الإبستمولوجية للنظام ما بعد الاستعماري.
فهم العالم
أخيراً، بينما تخدم استحضارات الاستعمار لتفسير حاضر سياسي عبر تحديد كيانات معينة بممارسات استعمارية، فإنها تصعّب أيضاً من فهم الوظيفة الفعلية للسلطة، التي لا يمكن تفسيرها من خلال تقسيم ثنائي بسيط، إما بين الأجنبي والمحلي أو بين المُسْتَعْمِر والمُسْتَعْمَر. وبتعبير أوضح، إن استحضار الاستعمار يوضح مصادر السخط السياسي من ناحية، ولكن من ناحية أخرى، يعزّز غموض السلطة في البلاد. وتبدو الإشارة إلى الماضي الاستعماري في الجزائر كأنها جواب آخر على سؤال استحواذيّ حول "طبيعة النظام". في هذا المنظور، تقدم الإشارة إلى الماضي الاستعماري فرصة لفهم الهيمنة الحالية عبر تعيين أشكالها المحددة: فصل مكاني، احتقار ثقافي، ونهب للثروة العامة.
تعبّر الإشارات إلى الماضي الاستعماري أيضاً عن الشعور بأنّ الحكام الجزائريين الحاليين هم نوعاً ما "أجانب" بالمعنى الحرفي للكلمة، كالاتهامات المتكاثرة للسياسيين بأنهم مغاربة، فرنسيون، أو يهود. إن هذا الاتهام منطقيّ لأن النخبة الحاكمة الحالية تميل إلى العيش في الخارج، وتفضّل عادة الاستثمار خارج الجزائر، وتعتمد على أنظمة الرعاية الصحية لبلدان أخرى حين تمرض. إن تحديد أفراد معيّنين بأنهم "أجانب" يؤكد تناظراً بين السكان المحكومين والسكان المُسْتَعمرين سابقاً. وبفعله لهذا، يقوم أيضاً بنزع تماه مع الصورة المهيمنة لشعب متصلة جوهرياً بمحرريه. وهكذا فإن عمل تحديد الهوية هذا، ونزع التحديد، يسمح بتأسيس الفرد المستقل، الذي لم يعد خاضعاً لاستجواب البناء الإيديولوجي ("الشعب" في الخطاب الوطني)، الذي كان الأساس للخطاب الشعبوي التحرري المزعوم للدولة.
إن هذه الخطابات ذات سيولة عالية وتعتمد غالباً على التوجه السياسي للفاعل وكذلك الجمهور المستهدف. وأكيد أن سؤال ما الذي يعرّف "الاستعمار" ينطوي على مخاطر سياسية كبيرة، خاصة أن النخبة الحاكمة في الجزائر بعيدة عن كونها متماسكة أو متجانسة. لكنّ الأزمة الإبستمولوجية للنظام ما بعد الاستعماريّ لا تعني فقط أن القيادة تعاني من أزمة شرعية بل تقود أيضاً إلى وجهات نظر ماهويّة معيّنة، سلبية على نحو كبير، لما يعرّف "الهوية الجزائريّة"، وهذا موقف ذُوِّت في غالب الأحيان من قبل السكان. وبالفعل يمكن أن يسمع المرء غالباً أن الجزائريين عنيفون ثقافيّاً 8، وغير منسجمين مع الحداثة، وميالون إلى ردود الفعل الإقطاعية، أو حتى أنهم لصوص بالفطرة أو كسالى.
إن ما هو مهم بخاصة حيال التخمين السياسي الحالي هو أن التقسيم بين المُسْتَعْمِر والمُسْتَعْمَر لم يعد مستقراً، من زاوية جغرافية أو أخلاقية. وبينما تبقى ذكرى الاضطهاد في الماضي وثيقة الصلة في شجب النظام الحالي، فإن الأزمة الإبستمولوجية لا تعبّر فقط عن رغبة بتشويه سمعة الائتلاف الحاكم. إنها تعبّر، على نحو أكثر عمقاً، عن الحاجة إلى فهم المسار التاريخي للجزائر وكذلك النظام السياسي الحالي، اللذين نُظر إلى كليهما عبر عدسات سلسلة من الخيانات.
[ترجمة أسامة إسبر. اضغط/ي هنا للمقال بالإنجليزية]
هوامش
1-هنا يستطيع المرء أن يشير إلى حقيقة أن مبادرات السكن في إطار خطة قسنطينة تجسّدت فيما بعد في محاولات الدولة الجزائرية المستقلة لبناء 1000 قرية اشتراكية. يمكن أن يشير المرء أيضاً إلى التدريب الفرنسي المهيمن للتكنوقراطيين والخبراء الذين تولوا إدارة البلاد سنة 1962.
2- مثلاً، بحسب الدستور الحالي، إن المرشحين للانتخابات الرئاسية يجب أن يُبرزوا وثيقة تؤكد مشاركتهم في حرب التحرير. في حال أن المرشح صغير بحيث لا يمكن أن يكون قد خدم في ذلك الوقت، يجب أن يبرهن أن والديه لم يكونا منخرطين في أفعال اعتبرت معادية للثورة الوطنية.
3. Horizons, 8 January 2011.
4. ìHier vous avez libéré la terre. Aujourd’hui nous libérons l’honneur et la religion. Vous avez libéré les plaines et le Sahara, nous libérons les consciences et les esprits. Vous avez déterminé les frontières à l’intérieur desquelles nous allons appliquer les lois. Notre djihad est la suite du vôtre.” Quoted in Luiz Martinez, Les causes de l’islamisme en Algérie (Paris: CERI Science Po, 2000), p. 2.
5. See Patricia Lorcin’s Imperial Identities: Stereotyping, Prejudice and Race in Colonial Algeria (New York: St. Martin’s Press, 1995).
6. El Watan, 5 July 2012.
7- يمكن أن يخدم هدفاً سياسياً أكثر وضوحاً، حين أصدرت جماعة لم تستمر إلا وقتاً قصيراً جداً، هي الطليعة الجزائرية الحرة، بياناً كي تعبر عن احتجاجها ضد تعديل الدستور سنة 2008، ركز هذا الشجب على الزعم بأن القوى المحلية نشدت الحفاظ على امتياز الطبقة الحاكمة كشكل من "الاستعمار الداخلي". شرحوا:"منذ التسعينيات أسست الطغمة الحاكمة بشقيها العسكري والسياسي بنية استعمارية أصلية تهدف إلى تحويل الناس إلى أميين، وتدمير الهوية الوطنية وإرهاب السكان".
8- تصرّ التغطية الإعلامية في الغالب على وباء معمّم، أو ثقافة للعنف تؤثر بالمجتمع كلّه، أحياناً يشار إليه بمرض العنف.
la maladie de la violence. See, for example, Le Quotidien d`Oran, 13 September 2012.