بالإمكان القول أن النظام السياسي الآخذ في التشكل في مصر برئاسة المشير عبد الفتاح السيسي وبدعم من القوات المسلحة وأجهزة الدولة هو انتصار للبيروقراطية المصرية بمكوناتها العسكرية والأمنية والمدنية على ثلاث عمليات سياسية هدفت خلال العقد الماضي لإحداث تغيير سياسي في مصر، إما من خلال تعديل تكوين النخبة السياسية الحاكمة لتكون من خارج البيروقراطية، وإما إلى تعديل علاقة الدولة بالمجتمع والانتقاص من سيطرة الأجهزة البيروقراطية على الموارد الاقتصادية ومن القدرة على إدارة المجال العام.
كان أول هذه المشروعات هو توريث السلطة لجمال مبارك والمقرون بصعود نخبة من رجال الأعمال منذ 2004 تقريباً، والدفع برئيس مدني في خضم التحرير الاقتصادي الذي مثل الغطاء لنقل السيطرة على القرار الاقتصادي والموارد العامة إلى يد الرأسمالية الكبيرة بدلاً من البيروقراطية العسكرية والمدنية، وكانت العملية المجهضة الثانية هي ثورة يناير، والتي لم تكن مشروعاً سياسياً محدد المعالم بقدر ما كانت حركة جماهيرية عارمة من أسفل لأعلى تحدت سلطوية وفساد الدولة وسعت لتفكيك مؤسساتها لصالح تصور ديمقراطي يكفل الكرامة والعدالة الاجتماعية، وقد تصدت المكونات البيروقراطية العسكرية والأمنية والمدنية والقضائية لهذا التحدي بالقمع تارة وبالاحتواء تارة أخرى، ونجحت بعد مرور أربع سنوات على الثورة على تفويت فرصة أي تغيير جذري وملموس في علاقات الدولة بالمجتمع في مقابل تمكنها من إعادة إنتاج سلطوية الدولة بتأييد شعبي واسع باسم إنقاذ الدولة أو تحقيق الاستقرار، فيما كانت العملية الثالثة التي تم القضاء عليها في المهد مشروع التمكين لحكم الإخوان المسلمين خاصة بعد تصعيد الرئيس الأسبق محمد مرسي للرئاسة في يوليو 2012، والذي كان قائما على لعب الإخوان لدور الوسيط أو السمسار لإنشاء نظام سياسي عبر عنه دستور 2012 يوفق بين المصالح الأساسية للجيش والشرطة والأزهر من جهة وبين التحالف الإسلامي الذي يقوده الإخوان من جهة أخرى.
ولكن غياب الثقة بين الطرفين واشتداد الاستقطاب السياسي والاجتماعي نتيجة إقصاء الإخوان لخصومهم من القوى المدنية وصراعهم مع أطراف داخل جهاز الدولة كما ظهر في تحديهم للقضاء وصراعهم في وزارة الثقافة وفي المحليات. ومثلت الأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة ومقاومة البيروقراطية لمحاولات تغلغل الإخوان فرصة لإجهاز الجيش على المشروع برمته في يوليو 2013 على وقع حركة جماهيرية حاشدة، ومن ثم عودة الأمور ليد تحالف من البيروقراطية المصرية يشمل الجيش والشرطة والقضاء والبيروقراطية المدنية، والذي توحد خلف القوات المسلحة لإعادة بناء الدولة السلطوية باسم استعادة الاستقرار تارة وإنقاذ الدولة من السقوط تارة أخرى.
بيروقراطية الدولة كفاعل سياسي-ـ اجتماعي مستقل
فيما يبدو مفهوم الدولة مجرداً وغامضاً إلى العديد من التعريفات الأكاديمية والأيديولوجية، فإن بيروقراطية الدولة كأجهزة وهيئات مكونة من موظفين ومسئولين يحظون بسلطة إزاء المجتمع ويسيطرون على قدر من موارده الاقتصادية في إطار الإدعاء بتمثيل الصالح العام لمجموع الشعب، تبدو مفهوما أقل تجريداً وملموساً بدرجة أكبر. لكن مفهوم بيروقراطية الدولة كفاعل سياسي ـ اجتماعي ليس من دون مشكلاته التعريفية كذلك. إذ أنه من الصعب الحديث على الدوام عن بيروقراطية الدولة المصرية كفاعل سياسي أو اجتماعي واحد واع لذاته وبمصالحه وبدوره في مواجهة المجتمع ودعاوى التغيير السياسي أيا كان مصدرها، وقادر على التحرك للدفاع عنها. إن ظهور بيروقراطية الدولة كفاعل سياسي قد يأخذ أشكالا متعددة بتعدد الأجهزة والهيئات، كما أنه قد يأخذ شكلا موحدا في إطار مشروع سياسي، كالحال مع تصدر السيسي للمشهد وانضواء أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والإدارية تحت لواء الجيش في إطار مشروع سياسي معلن لاستعادة الدولة، أو لحمايتها من التفكك وإنقاذها من الانهيار.
إن الحديث عن بيروقراطية الدولة كفاعل سياسي واجتماعي قد يتجلى في صور ثلاث: الأولى هي البيروقراطية في مجموعها وأفرعها المدنية والعسكرية والأمنية التي تلتف حول مشروع سياسي موحد يستهدف تعريف وفرض نمط علاقات معين بين الدولة والمجتمع. وهنا تكون البيروقراطية بأجهزتها وشبكاتها قادرة على التوافق على هدف سياسي في الحد الأدنى، كإيصال عبد الفتاح السيسي للرئاسة على سبيل المثال، أو على سحق الإخوان المسلمين في مثال آخر، أو مقاومة الثورة في مثال ثالث، وتكون هنا البيروقراطية قادرة على التنسيق بالحد الأدنى للوصول إلى مثل هذا الهدف.
أما التجلي الثاني لبيروقراطية الدولة كفاعل سياسي ـ اجتماعي، فهو تعبير الأجهزة والهيئات عن مصالحها الاقتصادية والسياسية المباشرة والضيقة، وهنا يكون التعبير فئويا ومن الصعب ترجمته إلى مشروع سياسي يحظى بتأييد شعبي، وغالبا ما يكون هذا التعبير عن مصالح أجهزة بعينها سببا للتنافس والتنافر داخل البيروقراطية ذاتها،ويرتهن تعبير الأجهزة عن مصالحها بتمتعها بهوية جماعية corporate identity، إما نتيجة لوجود تنظيم تراتبي صارم كحال الجيش والشرطة، أو للقدرة على التنظيم الجماعي كحال القضاء من خلال نواديهم المختلفة، ولا يقتصر هذا الأمر على أجهزة إنفاذ القانون، بلد يمتد إلى أجهزة مدنية تتمتع بهويات جماعية تمكن العاملين فيها من التماهي مع بعضهم البعض، ومن الوعي والتعبير عن مصالح لهم بحكم مواقعهم الوظيفية، وهو الحال مع البنك المركزي والجهاز المركزي للمحاسبات ووزارة البترول ووزارة الثقافة وغيرها.
أما التجلي الثالث لبيروقراطية الدولة كفاعل سياسي ـ اجتماعي، فيتصل بالشبكات غير الرسمية التي قد توجد داخل بعض الأجهزة والهيئات، والتي تؤثر كثيرا على اتخاذ القرارات وتخصيص الموارد والتفاعل مع السياسات والقيادة السياسية، وهنا لا تتمتع الأجهزة أو الهيئات بهوية جماعية موحدة كالأمثلة السابقة، وبالتالي لا تعبر عن مصالحها بشكل فئوي منظم بقدر ما يكون التعبير عن مجموعات وشبكات غير رسمية من المصالح داخل كل جهاز. وهذا هو الحال في وزارات كالتعليم والصحة والتموين وفي الإدارة المحلية، والتي لا تتتع بتراتبية واضحة، ولا تعبر عن نفسها من خلال تشكيل نقابي ـ خلافا لنوادي القضاء مثلا. وعادة ما يكون عدد العاملين فيها شديد الضخامة، وتكون الأجور والامتيازات منخفضة والتباينات كبيرة في مستويات الدخل والتعليم والخلفيات المهنية، ما يحول دون تنشئة هوية واحدة تلتصق بالجهاز أو الهيئة في مواجهة غيرها. ومن هنا، فإن البيروقراطية كفاعل سياسي ـ اجتماعي تتخذ شكل الشبكات غير الرسمية، وعلى الرغم من أن هذه الشبكات قد تفتقد إلى القدرة على التعبير المسيس عن مصالحها، إلا أنها تظل مؤثرة على مستوى الإدارة الكبرى، وعلى مدة استجابة أو عدم استجابة الجهاز الإداري لقرارات القيادة السياسية، وهو ما ظهر في مقاومة مشروعي الصعود السياسي لجمال مبارك والتمكين للإخوان في أعقاب ثورة يناير.
الضحية الأولى: جمال مبارك والتوريث النيوليبرالي
كانت أولى العمليات التي استهدفت التغيير السياسي في مصر هي مشروع التوريث المقرون بتكثيف الإصلاحات النيوليبرالية في مجال الاقتصاد، وقد كان هذا المشروع يدور حول الدفع بوراثة جمال مبارك لوالده المسن حسني مبارك بالتحالف مع نخبة من ممثلي الرأسمالية الكبيرة في مصر، والذين تكثف وجودهم في الحزب الوطني الحاكم سابقا وفي السلطتين التنفيذية والتشريعية مع صعود جمال مبارك السياسي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وقد اصطدم هذا المشروع مع مصالح البيروقراطية العسكرية بشكل واضح كونه يهدف لإعادة تشكيل النخبة الحاكمة برئيس مدني بعد أكثر من خمسين سنة من تعاقب رؤساء ذوي خلفيات عسكرية على الحكم، وبنقل سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية وعلى القرار الاقتصادي إلى مجموعة من رجال الأعمال تحت زعم التحرير والخصخصة، ولم يقتصر الصدام على البيروقراطية العسكرية فحسب بل امتد إلى دوائر داخل الجهاز الإداري للدولة وخاصة البيروقراطية الاقتصادية التي ظلت غير متعاونة مع التوجهات الجديدة لحكومة نظيف ما استدعى إقامة كيانات موازية داخل الأجهزة الإدارية كجهاز تحديث الصناعة وتركيز الصلاحيات في مكاتب وزراء المجموعة الاقتصادية، وتوظيف من يعرفون بالولاء وبالاشتراك في نفس القناعات الأيديولوجية النيوليبرالية، ويضاف إلى هذا بالطبع مقاومة الخصخصة وتخصيص الأراضي العامة من خلال أحكام مجلس الدولة.
وقد مثلت ثورة يناير الفرصة المناسبة للإجهاز على مشروع التوريث برمته، والشروع في تفكيك شبكات المحسوبية التي تشكلت حول أسرة مبارك وخاصة لدعم صعود جمال مبارك السياسي فأودع كبار رجال الأعمال أمثال أحمد عز وزهير جرانة وأحمد المغربي السجن مع علاء وجمال مبارك بالإضافة لاضطرار آخرين كرشيد أحمد رشيد للهروب مع اختيار غيرهم النفي الإرادي خارج البلاد مع تحريك دعاوى ضدهم، وانتقلت السلطة التنفيذية والتشريعية إلى القوات المسلحة بعد تنحي مبارك، وذلك على نحو مؤقت لإدارة المرحلة الانتقالية.
ثورة يناير: القمع والاحتواء
كانت عملية التغيير الثانية المجهضة هي ثورة يناير، والتي تمثلت في موجات من الاحتجاجات الشعبية منذ يناير2011، والتي كانت خلافا للعملية الأولى من أسفل لأعلى، ومن الصعب أن يطلق عليها مشروعا للتغيير السياسي لافتقادها لقيادة موحدة أو تنظيم ذي خلفية أيديولوجية وهيراركية محدد المعالم، ولكن يمكن الحديث عنها باعتبارها عملية معقدة ومركبة اعتمدت على موجات من الاحتجاج الشعبي المسيس، والتي تحدت سلطة الدولة القمعية والسلطوية الفاسدة وطالبت بتفكيكها لصالح إعادة صياغة لعلاقات الدولة مع المجتمع بما يكفل نظاما أكثر عدالة وأكثر ديمقراطية واحتراما لحقوق الإنسان، وقد مثل الحراك الاحتجاجي الممتد من يناير 2011 وحتى يونيو 2013 تحدياً مستمراً لأجهزة مختلفة من الدولة خاصة الشرطة والقضاء وبدرجة أقل القوات المسلحة بالإضافة لقطاعات من أجهزة الدولة المدنية إما بدعاوى انتهاك حقوق الإنسان أو إخفاء المعلومات أو استشراء الفساد، ويمكن القول بالطبع أن الحراك الاحتجاجي منذ يناير كان الأكثر جذرية في تحديه لسلطة الدولة بغية تغيير ميراث طويل من السلطوية في علاقة الدولة بالمجتمع في مصر.
ورغم أن الجدل حول ما إذا كانت ثورة يناير بالتفاعلات الاجتماعية والسياسية التي أطلقتها قد انتهت فعليا أم أنها مستمرة على المدى البعيد لا يزال مستمراً، إلا أنه يمكن القول بثقة أن الموجة الاحتجاجية التي بدأت في يناير ٢٠١١ لم تحقق أهدافها المباشرة من تأمين مكتسبات ديمقراطية جذرية للمجتمع في مواجهة الدولة السلطوية، فبعد أربع سنوات عادت السلطة للقوات المسلحة عمد الدولة السلطوية منذ يوليو ١٩٥٢، وأعيد إغلاق المجال السياسي الرسمي ولم يتم إحراز أي تقدم يذكر في ضمان الحريات والحقوق الأساسية للتنظيم النقابي أو المجتمع المدني ناهيك عن التدهور الحاصل في حالة حقوق الإنسان منذ يوليو 2013، وعودة الإدارة الأمنية للمجال العام في الجامعات والإعلام مع وضع قيود شديدة على التظاهر والإضراب والاعتصام، وفي هذا إعادة إنتاج لذات النمط السلطوي للحكم الذي اعتادت عليه البيروقراطية الأمنية والعسكرية والمدنية في إدارة الشأن العام وصنع القرار، ولا شك أن هذا الصعود السلطوي قد أتى على خلفية انهيار المسار السياسي الذي أطلقته ثورة يناير ونتيجة للتعطيل المؤقت للدولة الأمنية بين 2011 و2013، وعلى خلفية تظاهرات 30 يونيو الحاشدة التي قدمت الدعم الشعبي الكافي لإعادة تصدر القوات المسلحة للمشهد السياسي، وإعادة تأسيس النظام السياسي من جديد طبقا لأولويات "إنقاذ الدولة" "وحفظها من الانهيار" وغيرها من المسميات التي تميز مشروعا محافظا وسلطويا يحظى بدعم شعبي واسع طلبا للاستقرار أو مكافحة للإرهاب والفوضى.
الضحية الثالثة: التمكين للإخوان المسلمين
أما ثالث العمليات السياسية المجهضة في السنوات الفائتة فهي محاولة التمكين السياسي للإخوان المسلمين في أعقاب ثورة يناير، إذ كان الإخوان هم الأقدر على تحقيق مكتسبات انتخابية وبالتالي التوصل لاتفاقات لمشاركة السلطة مع أجهزة الدولة وخاصة القوات المسلحة التي كانت مسئولة عن إدارة المرحلة الانتقالية، وهو ما ترجم بالفعل إلى دستور 2012 الذي يمكن النظر إليه باعتباره محاولة للتوفيق بين بين حكم التحالف الإسلامي الذي يقوده الإخوان المسلمون ويضم طيفا واسعا من القوى الإسلامية السلفية وغيرها وبين أجهزة الدولة الأكثر نفاذا خاصة الجيش والمخابرات والشرطة والأزهر للتاسيس لنظام سياسي محافظ يصون أغلب جوانب السلطوية للدولة المصرية، وامتيازات الجيش الاقتصادية واستقلاله الداخلي علاوة على تحصين قياداته قانونيا، ولا يقدم ضمانات لحريا وحقوق للمجتمع المدني والحركة النقابية، ويضمن استمرار الإخوان في الحكم من خلال ماكينتهم الانتخابية المتفوقة على خصومهم من غير الإسلاميين.
ورغم أن مشروع التمكين الإخواني قد استند إلى محاولة تحييد الجيش والشرطة والمخابرات والمؤسسة الدينية الرسمية عن الصراع الذي كان يخوضه الإخوان مع خصومهم من غير الإسلاميين فإنه شمل الصدام مع أجهزة أخرى داخل الدولة بغرض تفكيكها وإعادة بنائها بشكل يضمن الولاء السياسي للقيادة الإخوانية الجديدة، ويضمن توزيع بعض المزايا والمناصب على أعضاء التحالف الإسلامي الجديد، وكانت حالات الصدام مع القضاء خاصة بعد إزاحة النائب العام المعين منذ عهد مبارك، والإتيان بآخر موال للإخوان، والحديث عن توفير ثلث القضاة من خلال تعديل قانون السلطة القضائية كما كان الصدام داخل أجهزة حكومية بعينها مثل وزارات الثقافة والتعليم والتموين بدرجات، والتي كانت ترى فيها محاولات إبدال القيادات بمثابة أخونة أي اختراق من جانب تنظيم الإخوان للجهاز الإداري للدولة.
وقد واجه حكم الإخوان القصير مقاومة من بيروقراطية الدولة بشتى أجهزتها والشبكات داخلها، اتخذت صورا مختلفة من عدم التعاون كرفض الشرطة قمع المتظاهرين المناوئين لحكم الإخوان إبان أزمة الإعلان الدستوري في ديسمبر 2012 وما بعدها، وقرارات القضاء الدستوري والإداري المقوضة لعمل الحكومة والرئاسة كما أخذت شكل المقاومة المعلنة كما وقع في حالة وزارة الثقافة التي رفض قطاع من العاملين بها القيادات الجديدة المحسوبة على الرئاسة الإخوانية ومنعوا الوزير من الدخول لمكتبه طيلة أسابيع، ثم كان التدخل النهائي للقوات المسلحة بعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، وهو القرار الذي نال تأييد كافة ممثلي الدولة التي سعى الإخوان لاسترضائهم من قبل في دستور 2012 من الجيش والشرطة والأزهر بجانب خصومهم من القوى العلمانية والليبرالية والناصرية والكنيسة القبطية وغيرها من الأطراف السياسية والدينية التي كانت تعاني من التهميش والإقصاء.
الجذور التاريخية لاستقلالية بيروقراطية الدولة
لم تحظ بيروقراطية الدولة المصرية باستقلاليتها عن المجتمع بين عشية وضحاها بل كانت هذه الاستقلالية نتيجة لعمليات تاريخية مركبة ومطولة في الحقبة التالية على الاستقلال وخاصة بعد انتزاع الجيش لمقاليد الأمور في يوليو 1952. فقد أرجع الكثير من الدراسات التاريخية والسوسيولوجية استقلالية البيروقراطية المصرية وتحولها لفاعل اجتماعي ـ سياسي مؤثر إلى الضعف المزمن للمجتمع المدني، وبخاصة البرجوازية الكبيرة، وهو الضعف الراجع بدوره للظرف الكولونيالي الذي تعرضت له مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، والذي أعاق التطور الرأسمالي وأخضع الاقتصاد المصري لتبعية رأس المال الأجنبي على حساب الرأسمالية الوطنية، والتي ظلت غير قادرة على النمو اقتصاديا ومن ثم ضعيفة من الناحية السياسية كذلك. ومما يدل على ما سبق أن الوفد وهو أكبر تجل لتأثيرات البرجوازية المصرية في طور هيمنتها على الحركة الوطنية ما بين 1919 و1952 لم يتمكن قط من التغلب على ميول السراي الاستبدادية أو على نفوذ الاحتلال البريطاني، وكان انهيار النظام شبه الدستوري في مصر ما بين 1952 و1954هو رصاصة الرحمة التي أطلقت على بقايا النخبة غير الدولتية التي مثلها الوفد في يوم من الأيام.
لم يترجم الاستقلال الوطني المصري منذ 1956 وما تبعه من تحرير الاقتصاد من التأثيرات الأجنبية المباشرة إلى دور أكبر للبرجوازية الوطنية، سواء أكانت كبيرة أو صغيرة، إنما انتقل الأمر إلى يد الدولة ممثلة في النظام الناصري الآخذ في التشكل آنذاك، والذي أخذ على عاتقه قيادة عمليات التحديث والتصنيع والتنمية من خلال التوسع في تأميم رأس المال الأجنبي والوطني الخاص، والتوسع في إنشاء قطاع عام مملوك ومدار من قبل الدولة سيطر على مختلف القطاعات الاقتصادية المؤثرة تقريبا منذ نهاية الخمسينيات وحتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وفي ذلك السياق، كانت النخب البيروقراطية داخل الدولة والتي كانت مزيجا من ذوي الخلفيات العسكرية والبيروقراطيين والتكنوقراط بديلا عمليا للبرجوازية في إدارة الأصول الإنتاجية والدفع باتجاه التحديث وبناء الدولة القومية في إطار سلطوي نموذجي للتحديث من أعلى لأسفل حيث تقود الدولة ويتبع المجتمع.
في أثناء تلك الفترة الممتدة كان للنخب البيروقراطية المدنية والعسكرية والأمنية بدرجات متفاوتة سيطرة واسعة على الموارد الاقتصادية والقرار السياسي منفردة دون أي فئة اجتماعية أخرى، وقد أصبحت الدولة مركزا لتحالف توزيعي كبير قائم على الطبقات العمالية والمتوسطة في الحضر والريف من خلال التوسع الكبير في التعليم العام المجاني وفي الوظائف الحكومية والقطاع العام ومن خلال الإصلاح الزراعي.
على الرغم من أن الصيغة السياسية التي أرساها النظام الناصري قد بدأت تعاني من مشكلات مالية واقتصادية جمة في أعقاب هزيمة 1967 وخاصة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، إلا أن الدولة ظلت قوة سياسية اجتماعية مؤثرة في مواجهة مجتمع مدني ضعيف وبرجوازية ناشئة ولكن شديدة الاعتماد على الدولة ذاتها من خلال شبكات المحسوبية والزبونية والعلاقات الرعوية.
بحلول التسعينيات ومع تواتر قرارات الخصخصة والتحرير الاقتصادي انتقل ثقل إنتاج وتوزيع السلع والخدمات إلى القطاع الخاص بشتى أشكاله وصوره رسميا كان أو غير رسمي ومن الشركات الكبرى أو الصغيرة والمتوسطة، والقطاع الخاص هنا يعرف بإجمالي الأصول الإنتاجية المملوكة من أفراد وشركات خاصة، بحيث أصبح القطاع الخاص يولد القدر الأكبر من الناتج المحلي والاستثمار والتوظيف، بيد أن القطاع الخاص الرسمي، وبخاصة رأس المال الكبير، احتفظ بنصيب جد محدود من إجمالي الوظائف في الاقتصاد (نحو 16٪ في 2007 طبقا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء)، وظل معتمدا على الدولة من خلال القروض من المصارف العامة وتخصيص الأراضي العامة وبيئة أعمال تغلب عليها المحسوبية بما يجعل النفاذ للأصول الإنتاجية والأسواق مرهونا بالروابط مع الدولة.
استمرت الدولة في كونها المالك الرئيسي للأراضي، والمالك لأكبر المصارف التي بدورها تحتفظ بأكبر نسب من الودائع والأصول والقروض، واستمرت البيروقراطية الحكومية في كونها أكبر موظف للعمالة (بنسبة 48٪ في 2007 طبقا لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء كنسبة من إجمالي العاملين بأجر في مصر).
وفي أعقاب ثورة يناير 2011 بدا جليا أن المجتمع المدني المصري قد فشل في تطوير مشروع سياسي يقف بديلا قابلا للتطبيق بما يمكن من السيطرة على الدولة على إثر الهبة الشعبية الأكبر في تاريخ مصر الحديث،إذ ظل المعسكر الديمقراطي مفتتا عاجزا عن إنتاج خطاب سياسي يتجاوز الخطاب الاحتجاجي الأول، فيما أثبت الانقسام الإسلامي ـ العلماني والصراع الوجودي المترتب عليه قدرته على تدمير المجال السياسي الناشئ عن الثورة.
يمكن الزعم بأنه مع إصدار الرئيس الأسبق محمد مرسي إعلانه الدستوري في نهاية 2012، والذي عظم فيه من صلاحياته وقلص من استقلالية القضاء وعمق الانقسام حول القواعد الدستورية التي كان من المفترض أن تحظى بتوافق شعبي في لحظة التأسيس لنظام ما بعد مبارك، لم يعد نظاما ديمقراطيا بديلا ممكنا بقدر ما أصبح السؤال الحقيقي هو أي نوع من السلطوية سينشأ، وقد أثبتت الأيام القليلة التالية أن الإخوان المسلمين كانوا مفتقدين للشرعية وللقدرة على تشييد مثل هذه السلطوية، وفي المقابل كان الجيش أكثر مقدرة وشرعية على استعادة زمام الأمور أكثر من أي قوة مدنية إسلامية كانت أو علمانية. وذلك لأنه تاريخيا، وكجزء من ميراث النظام الناصري، كانت الدولة هي الممثل السياسي الأوحد للطبقات المتوسطة، ولم يتغير هذا الأمر كثيرا حتى اندلاع ثورة يناير، وكان الفشل في تحويل الحراك الاحتجاجي إلى مشروع ديمقراطي اجتماعي وعجز الإخوان المسلمين كذلك عن فرض سلطويتهم بمثابة دعوة لعودة شرائح واسعة من المصريين إلى أحضان الجيش كممثل عن الدولة والأمة معا.
الخلاصة
لقد أثبتت السنوات القليلة الماضية أن بيروقراطية الدولة المصرية أكبر من أن تستولى عليها قوة من خارجها إذ استعصت البيروقراطية في أغلب أجزائها على مشروع التحول الاقتصادي المقرون بتصعيد جمال مبارك سياسيا، وبعد سقوط مبارك عمدت المصالح داخل جهاز الدولة إلى إعادة إنتاج نفسها بمعزل عن مبارك ورجال نظامه أنفسهم ما يثبت درجة كبيرة من الاستقلالية والانفصال عن القيادة السياسية خلافا لحالات مثل سوريا أو ليبيا التي ارتهنت فيها مصالح البيروقراطية برأس النظام السياسي وعشيرته المباشرة المحيطة به، وتكرر الأمر ذاته في مقاومة الإخوان والإجهاز على مشروعهم السياسي.
كما أظهرت السنوات الأخيرة أن البيروقراطية قوة محافظة تسعى لإعادة إنتاج الوضع القائم وأنها قادرة على إجهاض عمليات التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بيد أن انتصار البيروقراطية هذا غير حاسم بحال إذ تعاني الدولة المصرية كجملة علاقات سلطوية مع المجتمع من أزمات عدة منذ عقود على نحو جعل شرائح اجتماعية أساسية ومؤثرة في خصومة مع استمرار سلطوية وأبوية الدولة كما هي، ويضاف لهذه الأزمة أزمة أخرى مفادها أن تحول مصر إلى اقتصاد رأسمالي يقوم على السوق الحرة يتطلب إعادة تعريف العلاقات بين الدولة والاقتصاد وبين بيروقراطية الدولة العسكرية والمدنية على حد سواء من ناحية والقطاع الخاص من ناحية أخرى، بما يعني تغيرات سياسية واسعة.
إن الخلاصة إذن هي أن قدرة بيروقراطية الدولة على إجهاض محاولات وعمليات تغيير العلاقات بين الدولة والمجتمع بدون القدرة على أن تقدم هي ذاتها الإصلاحات الكفيلة بإنهاء أزماتها أو حل تناقضاتها لا يعني سوى إطالة الأزمة وخلق توازن ضعف يجمع بين دولة ضعيفة ببيروقراطية مترهلة وفاسدة في مقابل مجتمع مدني مفتت وغير قادر على إنتاج لا مشروعات سياسية ولا على التنظيم. [للنسخة الإنجليزية من المقال الرجاء انقر/ي هنا.]