يوتوبيا 'اختلاف حيفا' ومحاولة ترويض الجسد الفلسطيني

يوتوبيا "اختلاف حيفا" ومحاولة ترويض الجسد الفلسطيني

يوتوبيا "اختلاف حيفا" ومحاولة ترويض الجسد الفلسطيني

By : yara saadi يارا سعدي

 [هذه المادة ضمن ملف خاص تنشره"جدلية" بالتعاون مع مؤسسة "القوس" الفلسطينية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا


الكاتبة: يارا سعدي

يوم خميس - يعج شارع يافا في مدينة حيفا المحتلة عام 1948، بشباب وشابات فلسطينيين. وتتوزع على جانبيه مقاهٍ وحانات ذات أسماء عربيّة وعروض موسيقيّة وثقافيّة بعضها لفرق وعازفين فلسطينيين. ولو دققنا في المباني لاكتشفنا ملامحها العربيّة أيضًا. في أعقاب ترميمات شاملة قد يبدو شارع يافا للبعض كمشهد "يوتوبي"؛ حيّز مدني فلسطيني شبابي. أما البعض الآخر فقد يصفه بالنقيض؛ مشهد ديستوبي، مفصول عن ماضيه، يفرض مزاجا واحدا ووحيدا من التصرف فيه. في كلا المشهدين، تعود أهمية البحث في مشهد شارع يافا "الجديد" لنتائج العلاقة الجدليّة بين تخطيط الحيّز وبين ممارساتنا وتصرفاتنا فيه، بالإضافة لتأثيراته على هويتنا وذاكرتنا الفلسطينيّة الجماعيّة والفرديّة. لفهم هذه العلاقة، سيتم تعقّب التغيرات في المكان وسيرورة المخططات. كما سأستعرض وأحلل أصوات ومواقف روّاد المكان، وأخيرا مناقشة شكل الجسد والأدائية الناجمة عنه.

تعود كلمة "يوتوبيا" إلى اليونانيّة ومعناها الحرفي "لا مكان"، وتعني تصور واقع مثاليّ يكون مشروطا بالخياليّة. في مجال التخطيط الهندسي، أطلقت كرستين بوير (1) وصف "اللامكانيّة" على الترميمات التي تقوم بها البلديات للحارات التاريخيّة فتجعلها متشابهة. تدّعي بوير أن الترميم، والذي يدّعي المحافظة على الطابع التاريخي للمكان، يهدف بالواقع الى خلق مكان بلا هوية وبلا تاريخ، سِمَتَهُ الخاصة تتلخص بكونه معدّا ليعزّز رحلة الاستهلاك، وإقصاء كل ما قد يعرقل هذا الهدف. هذه السمة تشكل جزءا أساسيًا في مشاريع تصميم المكان والتخطيط النيوليبرالي. فالنيوليبراليّة عامة تسعى إلى إنشاء سوق اقتصادي عالمي مبني على تقليص دور الدولة في المجال الاقتصادي-الاجتماعي عبر خصخصة القطاعات الحكومية وإدخال ميكانيكيات السوق إلى كافة المجالات (بما في ذلك الخدمات العامة) وتقليص التقييدات القانونيّة والدستوريّة وجعلها أكثر مرونة للمبادرات الاقتصاديّة ( (2. كما ترتكز النيوليبراليّة على خطاب الحريات الفردانيّة (3). تتجسد هذه السياسة في مجال تخطيط المدن، في تحوّل البلديات وأقسامها من جسم مخطِّط الى جسم مُنسِّق، مفاوض ومسوِّق يعمل على جذب المستثمرين وشركات العقارات (4). هذه المعادلة الجديدة غيّرت، وبشكل جذري، هيئة وإيقاع وتجربة العديد من مدن العالم، وطرق "استهلاكها" واستيعابنا لها. تعتبر مشاريع "التجديد الحضري" على أشكالها من أبرز الظواهر النيوليبراليّة في تخطيط المدن، إذ تهدف علنا إلى تحسين أوضاع حارات "فقيرة" ذات ميزات خاصة (أي صفات قد تجعلها "جذابة" في السوق مثل الهندسة المعمارية للبنايات أو الموقع الجغرافي للحي) بواسطة شركات من القطاع الخاص، وذلك بهدف رفع أسعار العقارات فيها. إلا أن النتائج المباشِرة المضمرة، هي عملية الاستطباق (السراوة أو التطهير الطبقي(Gentrification  – تغيير الطابع السكاني للحي وذلك من خلال إدخال مشاريع ثقافيّة وترفيهيّة، تطوير البنية التحتيّة وجذب المستثمرين والسماسرة، مما يرفع أسعار العقارات وبالتالي يؤدي الى ترحيل سكانه المُهمَّشين (5). فبينما يُعرض التجديد الحضري كمشروع لا سياسي، تكنقراطي، فهو يوفّر في الواقع امتيازات للطبقة العليا على نحو بنيوي ويعمق الفجوة بين فئات المجتمع. أما عمليّة تهجير الطبقة الفقيرة فتحدث من خلال ممارسات قمع مختلفة، من رفع أسعار الإيجار وحتى تجريم أفرادها من أجل دفعهم إلى الخروج من "النظام الحضري" وذلك من خلال تكثيف المراقبة عليهم وتواجد الشرطة (6).

رغم اقتران عمليّة ترميم شارع يافا مع ميزات "التجديد الحضري" النيوليبرالي كما سيتضح في الفقرات التالية، إلا أنها تتعدّى ذلك، حيث تهدف إلى محو المعالم الفلسطينيّة للمكان. وهنا لا بد من طرح سؤال حول هوية المكان الجديد وكيفية تأثيره على رواده: هل شارع يافا "الجديد" مكان ذو هوية عربية؟ هل تبقى بناياته العربيّة التاريخيّة المرممة بمعزل عن سياقها فلسطينيّة؟ ماذا تعني الهوية بمفهوم الممارسة في هذا المكان؟ وما هي حدوده؟ هل المكان العام "عربي" على الرغم من، أم بواسطة السياسات الإسرائيلية؟ ولعل السؤال الأهم لا بدّ أن ينعكس بالأنقاض التي بني عليها هذا المشهد الجديد، فماذا حل بسكانها؟ وكيف يؤثّر ذلك على روادها في الحاضر؟

شارع يافا،  مدينة حيفا

بينما تسوّق بلدية حيفا اليوم منطقة شارع يافا على أنها "البلدة التحتى" الترفيهيّة، تحت الاسم الدعائي "مساحة 21" فلا بد من عرض السياق التاريخي للمكان، وذلك بهدف كسر محدوديّة تصنيفه كمشروع تجديد حضري نيوليبرالي آخر، ولمتابعة زمانيته الطبيعية وما فرض على مجراها من تغيرات تحت سيطرة الاستعمار الاستيطاني.

 

[خريطة لجزء من مدينة حيفا، عام 1943، في الخط الأزرق جزء من شارع يافا والذي يتطرق اليه المقال]

بنيت منطقة شارع يافا بعد منتصف القرن التاسع عشر مع بدايات الانطلاق من أسوار حيفا الجديدة - حيفا التي أسسها ظاهر العمر. وذلك بعدما ضاقت بأهل حيفا وبعدما سمحت الامبراطورية العثمانية بالسكن خارج أسوارها (7). بُني الحي من ساحة الخمرة أو ساحة الحناطير باتجاه مدينة يافا – أي غرب جنوب "حيفا الجديدة". منذ بداياته احتوى شارع يافا على أماكن تجاريّة وسكنيّة لعائلات حيفاوية. وتعاظم دوره الاقتصادي مع بناء السكة الحديديّة عام 1905 بالقرب منه، ومن ثمّ، بناء ميناء حيفا من خلال تجفيف الشاطئ الجنوبي لشارع يافا – شارع الملوك عام 1933. خلال النكبة تم تهجير سكّان شارع يافا مع غالبية سكّان المدينة العرب، حيث بقي في حيفا 3500 نسمة من أصل الــ 75000 فلسطيني الذين عاشوا في المدينة. وفي السنوات التي تلت النكبة، وخلال فترة الحكم العسكري، تم هدم معظم حيفا العربية. أما اليوم فيسكن غالبية العرب في حيفا في أحياء وادي النسناس وعباس والحليصة والبلدة التحتى التي تعاني جميعها من إهمال البلدية ومن اكتظاظ سكاني ومن سياسات استعمارية متجذرة في كافة نواحي الحياة: الاقتصاديّة، التربويّة وغيرها[1].

يعتبر شارع يافا من المناطق القليلة المتبقية بعد النكبة من حيفا العربية. وقد استمر يشكل مكانا تجاريا-سكانيا أساسيا حتى سنوات السبعينات، عندما أنشأت بلدية حيفا مراكز تجاريّة بديلة على أطراف المدينة، الأمر الذي أدى إلى تدهور تدريجي في مكانته الاقتصاديّة على مرّ السنين. ووفق إحصائيات عام 2007 فقد بلغ تعداد سكان "البلدة التحتى" ما يقارب 11،500 نسمة، أكثر من 70% منهم فلسطينيون، أي ما يقارب 28٪ من سكان حيفا العرب. وفي "غرب البلدة التحتى" والتي تحدّ شارع الألمانيّة وتمتدّ حتى وادي الصليب، أي منطقة شارع يافا، بلغ تعداد السكان ما يقارب 3000 نسمة، 63% منهم عرب. وتجدر الإشارة إلى أن الإحصائيات تشير أيضا إلى كون سكان الحي من أفقر الفئات في حيفا وأقلّها تحصيلا علميا وأصغرها عمرا.

اشتكى سكان الحي على مر السنين وخاصة مع بداية تنفيذ مخطط التجديد الحضري من إهمال البلدية المزمن للمكان وعدم توفيرها للخدمات الأساسية للعائلات المقيمة فيه، مما ساهم في تحويله إلى منطقة تدرج على أنها "عنيفة" و"خطرة". الأنكى من الإهمال، هو تصوير البلديّة في سردها لسيرورة "الترميمات" التي تخطط القيام بها في شارع يافا على أنه حيز غير مأهول.

بدأ مشروع "الترميمات" بنداء أطلقته بلديّة حيفا لفنانين لافتتاح صالات معارض في منطقة شارع يافا، مانحة إياهم تخفيضات وتسهيلات استثنائيّة، إضافة إلى استثمار 25 مليون شيكل في ترميم البنية التحتيّة. وقد أبرزت هذه "اللفتة" من قبل البلديّة الفجوة الشاسعة بين الخدمات والتسهيلات والتخفيضات التي تمنحها "للفنانين" مقابل الإهمال تجاه سكان الحي. وبهذا عكست توعية السكان المرغوب فيهم من ناحية وغير المرغوب فيهم من الناحية الأخرى.

 

[بناية عربيّة في شارع يافا، قبل وبعد ترميم التجديد الحضري. البناية ملك لعائلة صيقلي قبل النكبة]

تعدّ "المشاريع الفنيّة" خطوة كلاسيكيّة في مشاريع "التجديد الحضري النيوليبرالي" عالميا ومحليا. من خلالها تطرح البلديّة الصورة التي تطمح لتسويقها للشركات العقاريّة: حي ّتقطنه مجموعة سكانية "متحضرة" و"جذابة" اقتصاديا، إضافة الى الأموال التي ستستثمرها لترميم البنية التحتيّة. وحول الأهداف الربحيّة من المشروع قال مركّز مشروع "البلدة التحتى" في البلديّة: "(الهدف) أن تصبح أسعار البيوت في حارات "البلدة التحتى" أعلى بـ15 % من البيوت في باقي أنحاء المدينة، حتى من تلك التي في الحارات الغنيّة كالكرمل، وهذا سيحدث"[2]. وقد تزامن الارتفاع في أسعار العقارات[3] مع بداية عمل الشركات العقارية، وخاصة مع افتتاح حرم جامعي في المنطقة وإقامة مساكن للطلبة. أما من حيث السكان، فتتضمن رؤية الشركة العقارية الإسرائيلية "يوسف وأخويه" والتي قامت بترميم عدد من البنايات في منطقة شارع يافا، مجموعة سكانيّة شابة، تسعى للعيش وفق "المسار السريع" التي توفره المدينة الكبيرة، في جو "أصيل ومميّز". ووفق إحصائيات البلدية، فالتغيير في المجموعة القاطنة في الحي يحدث سريعا وخاصة في المناطق التي استٌهل التجديد الحضري فيها .[4]

الحيّز الجديد: بعيد عن اليوتوبيا والديستوبيا

"بحس بالانتماء داخل الأماكن اللي بحبها، ولكن ليس في المكان عامة، أي بالشارع (يافا)... فجأة صارت (المنطقة) سوبر (كثير) حلوة وسوبر أوروبية وسوبر تجذب. فالإحساس إنني رايحة مشوار لغاد ومش في بلدي" (من حوار مع شابة فلسطينيّة حيفاويّة).

 

[خريطة من موقع البلدية الرسمي لمنطقة "البلدة التحتى"، الخط الأزرق يشير الى شارع يافا والدوائر تشير الى الأماكن التجاريّة والترفيهيّة.]   

من شأن التجديد الحضري إنتاج تغيير شامل للمكان من خلال تشكيل قاعدة قانونية وبنية تحتية للمشاريع. فمنطقة شارع يافا تحتوي اليوم على عشرات المقاهي والبارات والحوانيت والأماكن الثقافية الجديدة والتي يعود عدد لا بأس منها الى أصحاب عرب تعتمد بالأساس على جمهور عربي. في مقابلات أجريتها مع رواد فلسطينيين حول شعورهم في المكان، وصفوه على أنه حيّز يشعرون فيه بالأمان، نظيف ويقدم العديد من البرامج الترفيهيّة وذلك خلافا لما كان عليه سابقا. أما بالنسبة لهويته، فوصفته إحدى الشابات على أنه كـ"أوروبا" كـ"خارج البلاد"، وادعى شاب آخر أن المنطقة تحولت إلى "بلدة تحتى" أخرى وحارة "عالميّة"، أسوة بمدن عديدة في العالم. الى جانب "العالميّة"، عبرا عن اختفاء الهوية العربيّة للمكان: "اللغة العربيّة محصورة باستخدامها التقني وليس بهوية المكان - المكان خسر هويته الأصلانيّة وتحول الى منتزه آخر". ما وصفه الرواد، يذكّر بـــ "اللا – مكانيّة" بتعبير بوير. هذا بينما في مواطن أخرى من الحوار، تعلو محدودية المشهد الا- مكاني بكونه هش ومتوتر. ويظهر ذلك جليّا في نقاشات دارت في المواقع الاجتماعيّة الالكترونيّة وفي كتابات صحفية حول مشاركة رواد الحيّز الفلسطينيين والأماكن التجاريّة العربية في مشاريع البلديّة كمهرجان الطعام (العربي) - مهرجان الشام[5]. فقد خصصت البلديّة في السنتين الاخيرتين، بضعة أسابيع، ضمن مهرجان "عيد الأعياد"، تستقبل فيها الأماكن التجارية في "البلدة التحتى" طهاة ومحاضرات وفعاليات حول "المطبخ العربي - الشامي". من أبرز الشخصيات المشاركة في المهرجان عام 2016، كانت الطاهية العربية نوف عثامنة، والتي شاركت وفازت في البرنامج التلفزيوني الإسرائيلي "ماستر شيف". في مقابلة أجرتها معها جريدة إسرائيلية تقول عثامنة: "لقد شهدنا السنة رقما قياسيا في التعاون العربي - اليهودي في مجال الطبخ، على الرغم من الوضع الأمني الراهن... وظيفتنا كطهاة أن نظهر أنه بوسعنا أن نعيش على نحو آخر. يمكننا أن نستعمل السكاكين من أجل تحقيق المتعة وصنع الذكريات الإيجابية". [6] تصريحات عثامنة تكشف عن السياسة غير المعلنة لتصميم "شارع يافا الجديد" والنظيف، فهو مكان دون سياق سياسي، العربي فيه مسلوخ عن مجتمعه ويسعى لخلق "الذكريات الايجابية" مع المحتل. مثال آخر يكشف عن محدوديّة المشهد "اللّا مكاني" النقاش الذي أثير حول مقالة نشرت في جريدة "النيويورك تايمز" تحت عنوان "في مدينة إسرائيلية: تزدهر ثقافة عربية ليبرالية"،[7]  تصف فيها بعض مقاهي وبارات حيفا (من ضمنها أماكن في منطقة شارع يافا) بنبرة استغراب - كون الرواد "الكول" هم فلسطينيون يستمتعون في بيئة "علمانيّة، نسويّة وودية للمثليين". في رد على هذه المقالة[8] نشر في جريدة "السفير"، تشير الصحفيّة إلى تغييب السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في حيفا وما يعانيه السكان الفلسطينيون في المدينة. كما وتنتقد التنميط الذي اعتاد عليه الغرب وتغييب التحديات التي تواجهها الحياة الثقافيّة العربية في حيفا، الأمر الذي يجعلها قائمة "بالرغم" من السياسات الإسرائيليّة وليس "بواسطتها"، حيث وصف أحد أصحاب الأماكن في شارع يافا كتمثيل لــ"ثقافة مقاومة".

 

[صورة للموقع الرسمي لمهرجان الطعام (العربي) - مهرجان الشام.]

ولكن إذا تخلينا عن الحدود الزمنيّة والجغرافيّة التي كونها التجديد الحضري، ونظرنا إلى شارع يافا بواقعه – بعيدا عن خيالية ومثاليّة اليوتوبيا والدستوبيا - فماذا يعني التجديد الحضري للرواد؟ ماذا بعد المشهد "السوبر جميل" و"النظيف"؟ وهل يمكن الحديث عن "مقاومة" دون مناقشة معنى المكان المبني على أسس ومعايير نيوليبرالية؟

في المقابلات التي أجريتها، تم، بين الحين والآخر لمس الحدود الهشة للمشهد المسوّق في شارع يافا، حيث قالت واحدة من الزائرات– أن مثل هذه المشاريع (التجديد الحضري) تظهر لها كـ"طرق إسكات": "هينا معطينكم تصاريح تفتحوا محلات وتعملوا مهرجانات"، أي انها تجد أن إعطاء البلدية تصاريح لافتتاح أماكن تجاريّة عربيّة مشروطة بدفع ثمن – الخمول السياسي. "الإسكات" ودفع الثمن، ليس محصورا على أصحاب المحلات، بل أيضا تشعر به هي كزائرة، حيث تقول: "شعوري عند المرور في المكان مركب من عاملين: الأول هناك كل القصص المربوطة بالمكان، وأتذكرها منذ كنت طفلة... أما من ناحية ثانية يمكن -اتجاهل التاريخ شوي صعبة - بس باللحظة الي بقدر أفصل فيها وأمشي كصبية، بدها تعيش اللحظة، بتمتع من الترميمات اللي صارت ومن الجو الشبابي الي انخلق. بس بكون عارفة إني عم بنبسط ولكن عم بتجاهل وجع كثير كبير". ما تصفه الزائرة هو فرض نوعيّة التجربة والذاكرة والشعور والتصرّف في المكان الجديد والمنوط بالفصل ما بين حاضر المكان وتاريخه، لكونهما متناقضين وغير متواصلين. هذا الفصل الذي تعيشه الزائرة يمثّل الفصل المفروض ما بين ماضي المكان وحاضره والذي يمثّل لب الفكر الصهيوني فيما يخص محو التاريخ الفلسطيني وخلق مرجعيّة جديدة قائمة على الحاضر الإسرائيلي اليهودي الصهيوني. فتصميم المكان في الحاضر عبارة عن مكان عام شبابي وحضري من الممكن الاستمتاع به مقابل تلبية شرط فصل المكان عن ماهيته الفلسطينية وتقبّله وفق مخطط البلديّة. إلّا أنّ الزائرة تنوه إلى كون هذا الفصل مجدول بـ"وجع" كبير. أما حول مقاومة المشروع، فقد قال زائر آخر: "مشروع البلديّة أكبر من بعض النشطاء، مستحيل إفشاله، كما ولا تلتقي مصالح الفئات الفقيرة في الحي مع اهتمامات المجموعات السياسية (الفلسطينيّة)." وحول الأماكن العربيّة قال: "رغم اختلاف نوعيّة الأماكن ومواقفها السياسيّة، جميعها تشارك بمشاريع البلديّة لأنها لا تملك أيّة امكانيّة أخرى". هذا الإدعاء والذي يصف علاقات القوة في المكان، يموضع المشاريع الثقافية والمجموعات السياسية الفلسطينية في المدينة ضمن معادلة التجديد الحضري، مؤشرا على خمولها أو حتى غيابها في التأثير على عمليات تصميم المكان.

الشظايا المتبقية من شارع يافا "القديم" تشي أولا بالعنف المجدول في "يوتيوبيّة" المكان. فبعد العنف المباشر لأهالي الحي من خلال عمليّة الاستطباق، توفّر البلديّة حيّزا عاما وحضريا يرحب بالشباب العرب، إلّا أنّه مصمّم وفق الأهداف النيوليبراليّة ويرتكز على الأيديولوجية الصهيونية. فالحيّز الجديد مشروط بتلبية حاجاته – أن يكون رواده مستهلكين جيدين، وأن تبقى الهوية سطحيّة وفرديّة تُمارس فقط في السياق الاستهلاكي. وأن يتمّ الفصل بين ماضيه الفلسطيني ومعانيه في الحاضر الجديد "الإسرائيلي". كما ويتم إعادة تعريف "العربي" المسموح والمشرّع به في الحيّز "المتحضر" من أشخاص وثقافة، ويتحول "العربي" من كونه لبّ هوية المكان إلى صفة تٌستخدم لإنجاح المشروع الاستهلاكي المسمى بـ"البلدة التحتى". هذه من ناحية ومن ناحية أخرى، فرغم "إعجابهم" بالمكان، يعبرّ رواده عن شعورهم بالاغتراب فيه. كما تصبّ محدودية الممارسات في إطار الـ"وجع" وضمن "المستحيل" والمشاعر التي "نرغب بنسيانها" حسب تعبير الرواد. أما قدرة الرواد أو الزبائن على التأثير على الحيّز فتصبح مصطنعة. إذ كيف يحدث تغيير أو "مقاومة ثقافية" في إطار وعي مبني على "النسيان" وممارسة محدودة بالاستهلاك وهوية مشروطة بالفردانيّة؟

كيف نمارس المكان الجديد

رغم النقاشات التي دارت حول ماهية المكان الجديد، هناك إجماع في جميع المقابلات وتوجّهات الكتّاب حول شارع يافا، على أنّه مرّ بتغيير، وعلى أنه اليوم مكان مختلف. حتى الآن، تمّت محاولة تفكيك مفهوم هذا المكان الجديد من زوايا عدّة لتعقّب مركباته، خاصة غير المرئية كالأسس التي بنيت عليها الأماكن التجارية الجديدة، والجمهور المرغوب به والمستبعد، كما الوعي، الذاكرة، الهوية والزمانية المرغوب بها وتلك التي يٌراد محوها. هذا الخطاب ومشتقاته يتجسّد في إداء الجسد. ولعلّ أبرز الأمثلة هي ما يستحضره ميشيل فوكو(8) من طرق عقاب وتهذيب للجسد وأدائه من خلال خطاب ميكانيكيات السيطرة، خاصة فيما يتعلق بالجنسانية، حيث تم علمنتها لخدمة المشروع السياسي وجعلها أداة ضبط في المجتمع الحديث. يظهر النقاش حول سياسات الجنسانية في "الحيّز الجديد" بشكل مستمرّ ولكن مراوغ. فعلى سبيل المثال، في مقالة "النيويورك تايمز" كما في الردّ عليها، يتمحور النقاش حول تصنيفات الجسد الحضري والعصري وأدائه في الحيّز الجديد مقابل الجسد "الرجعي"؛ فالجسد المحتفى به يمارس المكان وفق الأدائية "العالمية" المعترف بها (من خلال الملابس، والمشروب والتدخين. . . الخ) وبالتالي يتمّ التعامل معه على أنّه "حرّ" وأن الحيّز من حوله مكان يتيح ممارسة هذه الحرية. وعليه يتلخص النقاش حول من قام بتأسيس الحيّز: أصحاب المكان العرب، أم بلدية حيفا؟ وهل هذه الأدائية محصورة في هذا المشهد أم أنها إدائية شائعة؟ هذا، بينما تظهر السياسات الجنسانية في هذا النقاش على أنها تتداول "التحرّر" بدلا من القمع، إلّا أنه "تحرّرها" في الواقع ما زال تسمية لتصنيف الجنسانية لخدمة مشروع سياسي إقتصادي (كما هو الحال في قضية الـ Pinkwashing والاستعمار الإسرائيلي[9]). على ضوء إدعاء جوديث بتلر (9) أن الأدائية مستوحاة من الخطاب المتداول يبرز سؤال استنكاري حول الأدائية التي تنتج من مكان معرّف كـ"بلدة تحتى" ومكان معولم غير فلسطيني يتمّ محوه من خلال تجديد حضري نيوليبرالي مجدول بالعنف والقمع. كذلك يبرز السؤال حول التعامل مع "أدائية متحرّرة" لكن ذات هوية فلسطينية جماعية في المجال السياسي.  

الواقع الاخر

"انتم هنا تأتون في الليل للترفيه، ولكنكم لا تسكنون هنا" (أحد سكان الحي).

خارج خطاب "المكان الجديد"، وكما يدّعي أحد سكان الحي في الاقتباس أعلاه، لا يستوعب البعض - وفي هذه الحالة العائلات العربية القاطنة في الحي قبل التجديد الحضري النيوليبرالي - المكان كما يأمل مصمموه والشركات العقاريّة، ولا يعيشه في ساعات الليل والترفيه فقط. هذه التجربة للمكان خارج إطار الزمن والاستهلاك والادائية المطلوبة والحدود الجغرافية النيوليبراليّة، قد تشكّل دعوة لنا أيضا، لخوض المكان دون التصورات المسبقة لاستخدامه ومن خلال مواجهة العنف المجدول في التجديد الحضري والمخططات الصهيونية. فلو أسقطنا الخيال و"اللا- مكانيّة" لوجدنا أن شارع يافا ومشروع التجديد الحضري فيه هو بمثابة امتداد للهدم والمحو المستمر في وادي الصليب وفي حي المحطة وفي أحياء فلسطينيّة عديدة أخرى. إسقاط هذه الحدود لا يقتصر على استيعاب المكان والشعور فيه والذاكرة فحسب، لا بل يشمل أيضا إسقاط شروط ممارسة هويتنا وترويض أجسادنا وإعادة تعريف "الأمان" والتجربة الجماعيّة التي ننتجها.

 

هوامش

[1]  للمزيد من المعلومات حول وضع التخطيط الهندسي في الأحياء العربية في حيفا

[2]  من موقع كالكاليست: 22.5.13.

[3] فبينما كان المتر المربع يباع ب1700  شيكل عام 2011، وصل سعره بعد عام واحد فقط إلى 6800 شيكل للمتر المربع. من مقالة القناة الاسرائيلية الثانية 12.9.12.

[4]  فعلى سبيل المثال وفقًا لإحصائيات البلديّة بين السنوات 1995-2003، كانت "نسبة التبديل السنوي للسكان" في كل أجزاء البلدة التحتى تشكل ما بين 1.4- وحتى 0.5، وهي أدنى نسبة في التبديل وأقل من المعدل (0.6). اما في الإحصائيات التي تخص السنوات ما بين 2009-2013 فجزء الميناء، الذي أستهل به مشروع التجديد الحضري، شكّل فيه التغيير أعلى نسبة، بين 9.4 - 11، هذا بينما بقي معدل التغير في حيفا على حاله.

[5]  الصفحة الرسميّة لمهرجان الشام.

[6]  مصدر الاقتباس

[8] مقالة "بعدسة «نيويورك تايمز»: كأس البيرة التي اختزلت انتفاضتنا الثقافيّة "

[9]  PINKWATCHING Israel website

 

مصادر


 (1) Boyer, M. C. (1992). 'Cities for sale: Merchandising history at South Street Seaport'. In Michael Sorkin (ed.), Variations on a Theme Park: The new American city and the end of public space. Pp.:181-204.

 (2) Peck, J. and Tickell, A. (2002). Neoliberalizing space. Antipode, 34(3):380-404.

(3) Hickel, J. (2014). 'The ‘girl effect’: liberalism, empowerment and the contradictions of development', Third World Quarterly35(8).

(4) Harvey, D. (2007). Neoliberalism as creative destruction. The annals of the American academy of political and social science, 610(1), 21-44.

(5) Zukin, S. (2010). Naked City: The death and life of authentic urban places. Oxford University Press.

(6) Mayer, M. (2016). Whose city? from Ray Pahl's critique of the Keynesian city to the contestations around neoliberal urbanism, The Sociological Review, 65(2): 168-183

 (7)منصور، ج. (2014). حيفا - الكلمة التي صارت مدينة. عمان: الآن ناشرون وموزعون.

(8) Butler, J. (1993). Bodies that matter: On the limits of “sex.”. London: Roudedge

(9) Foucault, M. (2012). The history of sexuality, Vol. 3: The care of the self. Vintage.


 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • أدورنو والموسيقى الجماهيريّة/ الجزء الأول

      أدورنو والموسيقى الجماهيريّة/ الجزء الأول
      تضم هذه المقالة جزءان، نحاول أن نتناول من خلالهما موقف ثيودور أدورنو من الموسيقى "الخفيفة" أو الجماهيريّة. سنتناول في النص التالي: خلفية عن حياة أدورنو، موقف مدرسة فرانكفورت من جدليّة التنو

في كينونة الدمار والإعمار: ألدوس هكسلي في القدس عام 1955


يختلف الناس في أسلوب ترحالهم. فالسائح "العادي" يتوجه إلى معالم نالت الشهرة لسبب ما، وتعتريه لهفة جامحة لتسجيل مروره منها ووضع بصمته عليها، ثم ينتقل سريعاً إلى معالم أخرى. ويفضّل غيره التبحّر في المشهد بشكل
آخر. يمضي الوقت في التجوّل، والالتفات إلى التفاصيل، وتحسّس الحجارة الحية المكسوة بالغبار في زوايا بعيدة عن الأضواء، وتذوّق عفوية المكان، والإصغاء بتمعن إلى إيقاع الحكي والإيماءات والرواية بتفاصيلها وجدليتها.

جسّد الكاتب البريطاني ألدوس هكسلي (1894-1963) رؤية خاصة عقب زيارته لمدينة القدس خلال منتصف الخمسينات ولقائه بلاجئ من القدس الغربية. ذاع صيت مؤلف "عالم جديد شجاع" (1932) و"الغايات والوسائل" (1937) بحسه النقدي وخياله الخصب الذي يميل في بعض الأعمال إلى أدب الخيال المستقبلي ("الديستوبيا"). يتناول هذا اللون من الأدب، الذي أثراه أيضاً كتّاب مثل جورج أورويل ويفغني زمايتين ومارغريت آتوود، ثيمات تظهر في دراما الخيال العلمي العالمي وتصف الآثار المترتبة على تطور نظام السيطرة والهيمنة التقنية في مجتمع رمزي.

الأمر غير المعروف كثيراً عن ألدوس هكسلي هو زيارته ووصفه لمدينة القدس بعد سنوات وجيزة من النكبة، حيث استوحى بعض التأملات والتوقعات حول تاريخ ومصير البشرية. في الرجوع لهذا النص دلالة رمزية في ظل الواقع العربي الراهن.

الدليل

"دليلنا في شوارع القدس العتيقة كان شاباً مسيحياً لاجئاً من الجانب الآخر من الجدار الذي أخذ يفصل البلدة القديمة...".

هكذا يستهل ألدوس هكسلي مقاله المنشور عام 1955 الذي يصف زيارته لمدينة القدس. شخصية الدليل السياحي الدرامية استوقفت الكاتب أكثر من العمارات والمواقع السياحية، ومنها انطلق لوصف تأملاته. وجه الدليل كان معبّرا عن رمزية الأحداث المحيطة.

يبدو أن الدليل كان سليل عائلة ميسورة الحال، انقلبت أحوالها خلال الحرب وتهجرت من القدس الغربية بعد أن فقدت ممتلكاتها وأراضيها. كان يحمل غصّة تمزج بين الحزن ومحاولة بائسة لضبط ألمه والتسليم بواقع الحال.

كان دليلاً جيداً، بل "جيداً بشكل مفرط" على حد وصف الكاتب، إذ كان يصرّ على اصطحاب المجموعة إلى مختلف الكنائس الأثرية، ولم يبخل بأخذ وقته في وصف التفاصيل التاريخية المملة. لم ينسجم ذلك مع شخصية هكسلي الذي يذكر أنه كان معنياً أكثر برؤية جوانب حيوية من القدس بشكل لا يقتصر على أشباح المعالم الأثرية. فوجد نفسه يشرد من خلال التأمل في وجه الدليل نفسه وحكيه الدرامي، محاولاً أن يستشف منه حكمة ما.

جاذبية الغرابة

هناك من يحب الجمال الزاهي والمبهج والناعم والمقبول اجتماعياً، وغيره ينجذب أكثر للجمال القاتم والمتدفق وغير المتناسق والخارج عن المألوف، والذي يحمل علامات الصمود. يبدو أن هكسلي هو من النوع الثاني في وصف انطباعه عن جمالية القدس حيث يقول:
"إضافة إلى كونها إحدى أكثر المدن التي تثير الكآبة، القدس هي من أكثرها غرابةً، بل يمكن القول إنها، بطريقتها الخاصة، إحدى أجمل مدن الأرض". 

هكذا يصف هكسلي القدس، وربما يرمز ذلك أيضاً إلى نظرته التدريجية للدليل اللاجئ.

كالعادة: تهدمت... تعمّرت

لا نتعرف على اسم الدليل في المقال، وإنما نعرف أنه كان يتكلم الإنجليزية بلهجة خاصة به، ويميل إلى تكرار تعبيرات مثل "”Usually ("كالعادة") خارج السياق وفي غير محلها في الجملة (إضافته النوعية للغة الإنجليزية)، و(“This area” ) "هذه المنطقة" الأمر الذي وجده الكاتب طريفاً. من المفارقة أنه بحكم تاريخ القدس كانت حالة تدفق مفردات الزمان والمكان تترافق مع مفردات تشير إلى الهدم والدمار، وإلى إعادة التشييد والإعمار. من ذلك مثلاً وصف الدليل لـ "هذه المنطقة" التي قامت فيها القديسة هيلينا بتشييد كنيسة رحبة، ثم "تدمرت كالعادة" من قبل السامريين عام 529، ثم قام الصليبيون ببناء كنيسة أكبر، ثم في القرن السابع عشر قام الأتراك "كالعادة" بإزالة جزء من السطح بغرض استخدامها كذخائر حرب، الأمر الذي رسّب مياه المطر فتهدمت الكنيسة، ثم تمت إعادة بنائها من قبل حكومة بروسيا عام 1879، ثم "كالعادة تدمرت" مختلف المنازل في هذه المنطقة بعد "حرب عام 1948".

في النشاز حكمة ما في بعض الأحيان. يجد هكسلي في "إضافة الدليل النوعية للغة الإنجليزية" منطقاً ما يعبّر عن جدلية التاريخ البشري الذي يشهد المد والجزر، واختار تعبير الدليل عنواناً لمقاله عن القدس الذي انتشر بعنوان "تدمّرت كالعادة" ("Usually Destroyed").

تترواح علاقة هكسلي بالفلسطيني بين التهكم والفوقية، والتعاطف والتضامن، وكان مفتاحاً انطلق منه لسرد انطباعاته حول فلسفة الحياة. نلاحظ أيضاً إيحاءات غير مباشرة بالتضامن مع اللاجئين، وبالانبهار بتاريخ المقدسيين الذين صمدوا عدة حقبات تاريخية وسقوط وقيام عدة ممالك، وتوالي حالات الدمار والإعمار. لا ينظر إليهم هكسلي بشكل يقتصر على اللحظة وإنما ضمن نظرة تاريخية عميقة.


[صورة للفنان جاك مولاي يصور فيها معركة وهمية في القدس. المصدر موقع ويكبيديا]

ضبابية التاريخ

عقب زيارته للقدس، فكر هكسلي في جدلية التاريخ. كلما قلّبنا صفحات التاريخ اكتشفنا نسبية الحقائق والقيم التاريخية وضحالتها، وانفصام ما يدعى بالمبادئ أو "الحضارة". ما يسمى بـ "العصور الظلامية" يمكن اعتبارها "عصر الأنوار" أو "النهضة" بعد حين إذا فكرنا فيها من منظور آخر، ولا شك أن "عصور الأنوار" تعد ظلامية في رواية أخرى. في ثنايا التاريخ مجريات لها تداعيات أعمق مما تراه عدساتنا. كثيراً ما كانت "العظمة" و"الإبداع" سبباً في تعاسة الكثيرين. مصائب قوم عند قوم فوائد، انتصارات وبنايات ضخمة جاءت على حساب إذلال واستعباد الكثيرين، وأزمنة تم وصفها بأنها كانت "خاطئة" تبعاً للسرد التاريخي المهيمن، ولكنها تضمنت إنجازات طمستها الرواية التاريخة.

يضيف أن المغول احترفوا الفنون العسكرية وكان يؤمنون بـ"الذبح والتدمير لغاية التدمير". لو كانت بحوزتهم أدوات وأسلحة "عصرنا" (عام 1955) لأبادوا سكان الكرة الأرضية بأسرها. بأسلحتهم البسيطة والعفوية في ذلك الوقت (القرن الثالث عشر) كان عليهم الاكتفاء بإبادة بضعة ملايين فقط، والقضاء على عدة حضارات.

نزعة التدمير كانت موجودة دوماً عند البشر، وفقاً لهكسلي، ولكنها باتت "اليوم" (عام 1955) أقل وضوحاً وعفوية من السابق. الإنسان "كالعادة" يدمّر نفسه، ولكن حتى الآن قام ذلك بطريقة أقل من قيامه بإعادة البناء.

مع أن الحياة (عام 1955) أصبحت أسهل نتيجة للتطور العلمي، إلا أن الحكومات أخذت تنفذ سياسات "التدمير كالعادة" على مستوى أكثر احترافاً وتقنية ونفاذاً من معارك الماضي، الأمر الذي يشكل خطراً على الإنسانية جمعاء، وفقاً لهكسلي. تخيلوا الأعداد الكبيرة من البشر الذين يتنافسون على الموارد المحدودة، وكل إنسان يعتقد أنه مركز الكون، ومقابل ذلك هناك البيروقراطية المتزايدة والتكنولوجيا التي تتيح إيذاء أعداد كبيرة من البشر بكبسة زر.

"إن أكبر عدو للحياة والحرية والكرامة" هي حالة الفوضى العارمة، و"العدو الأكبر الثاني هو الكفاءة التامة" وفقاً لهكسلي ففي الحالتين، تتم السيطرة بشكل يخدم حالة "التدمير كالعادة" وتجرد الأفراد من إنسانيتهم.

إذا تأملنا في نص هكسلي في عصرنا اليوم، وراء الكواليس دول شرقية وغربية تعذب البشر ومختلف الكائنات الحية. نشهد ازدواجية المعايير بين سمو "الأخلاقيات الاجتماعية"، ودعاتها من الأنظمة الشمولية والليبرالية (العلمانية والدينية على حد سواء)، وما ينافي أي أخلاق على أرض الميدان، بل باتت القيم "الحضارية" و"الجميلة" تغلّف الممارسات الوحشية التي تتم تحت إطار مبادئ إنسانية وأخلاقية متناقضة مثل "القضاء على الإرهاب" أو "نصرة الدين" أو "الحفاظ على الاستقرار". نرى على شاشات العصر انتهاكات بعض "الجماعات الإرهابية" بحق المدنيين، ولكن لا شفافية إعلامية فيما يتعلق بممارسات القوى العسكرية التابعة لعدة دول في المنطقة، مثلاً مختلف القوى الشرقية والغربية التي تحارب في سوريا. ألا تمارس هي أيضاً سياسات "التدمير كالعادة"؟

تهجير ونزوح متجدد

يتخوف هكسلي أنه مع تطور الأسلحة سيصبح جحيم حروب وكوارث القرن العشرين مضاعفاً مقارنة بمعارك الماضي، بما في ذلك أعداد اللاجئين والنازحين والضحايا. يضيف أننا إذا تصورنا أن سبي بابل من قبل نبوخذ نصر الذي تم اعتباره وقتها حدثاً كبيراً ومريعاً، تضمن تهجير ما بين 4600-10.000 شخص فقط، ماذا بالنسبة للآلاف المؤلفة من البشر الذين تشردوا فيما بعد مع تتالي الحروب؟ وملايين الضحايا الذين تم اقتلاعهم من قبل هتلر والشيوعيين؟ والملايين الذين لجأوا من الهند إلى الباكستان والعكس؟. في هذا السياق، يذكر هكسلي تشرد الفلسطينيين إبان النكبة (أو حرب 1948 على حد وصفه)، حيث يقول: "ماذا بالنسبة للآلاف" الذين "تهجروا مع دليلنا الشاب من بيوتهم في اسرائيل؟". يضيف:
"قرأنا أنه عند "مياه بابل جلس وبكى عشرة آلاف شخص. في مخيم واحد في بيت لحم اليوم يفوق عدد اللاجئين (المنفيين) ذلك العدد بكثير. وبيت لحم هي فقط واحدة من بين عشرات المخيمات المنتشرة في الشرق الأوسط".

شجرة الحياة

نستحضر هنا فسيفساء شجرة الحياة في قصر هشام في أريحا في فلسطين. على جانب أسد يلتهم غزالاً، وعلى الجانب الآخر غزلان تسرح وتمرح وربما تتكاثر. بات الدمار والانفجارات المتناثرة مشهداً مألوفاً في المنطقة في عصرنا أيضاً، في لبنان وفلسطين واليمن والعراق ومصر وسوريا... وفي موازاة ذلك الحياة اليومية: الحب والتكاثر وتبادل الحكايات ومحاولات متفرقة لإعادة البناء.


 

[صورة لفسيفساء أريحا. المصدر موقع ويكيبديا]

 

توقعات

أكبر عائق أمام السعادة هو الخطر البيولوجي وفقاً لألدوس هكسلي. فالتاريخ الذي لا يأخذ الواقع الديمغرافي (علم السكان والإحصائيات ذات العلاقة) بعين الاعتبار لن يستطيع فهم الماضي والحاضر بشكل سليم، وسيبقى المستقبل بالنسبة له خارج دائرة التوقعات تبعاً للحيثيات الديمغرافية في ذلك الوقت، يتوقع هكسلي ما يلي: 
1. تزايد المجاعة وسوء التغذية.
2. على الرغم من فاعلية سياسات تحديد النسل على المدى الطويل، لن تنجح في حل المآسي التي ستواجه الأجيال القادمة.
3. عدم قدرة التطور الزراعي على مجاراة نسب الخصوبة السكانية المتوقعة. 
4. زيادة التصحّر. 
5. عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وزيادة الحروب والثورات ونقيضها من الثورات المضادة. 
6. تغلغل سلطة الحكومات المركزية وكبتها لحريات الأفراد. مع زيادة التنافس على الموارد، سيضطر الأفراد للعمل أكثر ولساعات أطول، وستبسط الحكومات سيطرتها بدعوى إنقاذ "الأزمة الاقتصادية"، وستسعى بحجج مختلفة إلى كبح جماح الجماهير الى تعاني من الفقر المتزايد.

عودة إلى القدس

بعد تأملاته هذه يعود الكاتب إلى وصف اللحظة:
"مقابل ذلك، نحن الآن هنا في القدس، نراقب الآثار التي "تدمرت كالعادة" ونطبطب أكتاف السكان الذين يعانون من الفقر "كالعادة"، والحجاج الذين يفيضون بحرارة الإيمان كالعادة".

يزور كنيسة القيامة وقبة الصخرة وكنيسة القديسة حنة والحي اليهودي ويصف حائط المبكى في ذلك الوقت .

 

الموسيقى تجاوز

 

[لوحة للفنان الفلسطيني يوسف كتلو]

يختتم هكسلي مقاله بالحديث عن الحي الأرمني في القدس، والتي يصفها على أنها "واحة القدس المفعمة بالحياة"، بلوحاتها "الرديئة" ولكن المبهجة، وسيراميكها الغني الملون، وكنيستها "المشعة". عند الوصول إلى الباحة، والمرور من مدخل الكنيسة الأرمنية، خرج إلى الملأ صوت موسيقي يعزف ليوهان سباستيان باخ (بارتيتا بلحن أ مينور).

صدى تلك الموسيقى كان يمس الوجدان، على حد وصفه، دون التظاهر بشيء ما، ودون كلام فارغ أو خطابات رنانة أو الادعاء ببطولة متمحورة حول الذات.

كانت تلك الموسيقى تبعث فيضاً من الأحاسيس التي تتردد وفقاً لمنطق وتراث فني عميق، يتجسد داخل وخارج الحدود المألوفة، ويخترق الزمن ليمنح للحياة معنى ما.

الزمن هو من أكثر التجارب المريعة في هذه الحياة وفقاً لصاحب "عالم جريء شجاع". أو بالأحرى فكرة الفناء والاندثار الأبدي. مقابل ذلك هناك الموسيقى التي تتعامل بشكل مباشر مع منطق الزمن. فالموسيقى هي شبكة متناغمة ومعقدة من مقادير الصوت والصمت، ودرجات الألحان وتناسقها وانسيابها وتشابكها وتدفقها...

كانت تلك الموسيقى تجتاز عتبات الموت والفناء إلى ما هو أكثر حيوية من الحياة البشرية حسب وصفه. خلال لحظات الإصغاء إلى الموسيقى أصبح للزمن قيمة وجودية ما.

يضيف: "شعرت وقتها بفيض من السعادة وغمرني إدراك يتخطى عالم الفوضى، ويخبر الجميع بأن الإندثار الأزلي هو أيضاً حالة ولادة وخلق أزلي"، و"ربما هذا ما كان الدليل يقوله بطريقته الخاصة طيلة الوقت".

كأن هناك رسالة رمزية في موسيقى المجهول في الحي الأرمني وفقاً لهكسلي، أن حالة "تدمرت كالعادة" هي أيضاً حالة "أعيد بناؤها وتعميرها كالعادة"، وهي جزء من سنن الحياة، "تماماً كالمطر والشمس والنعمة الإلهية وحالات الخراب في الطبيعة".

عند الخروج من باحات حارة الأرمن، وخبو صوت الموسيقى يضيف هكسلي في الأسطر الأخيرة من وصفه لرحلة القدس بأنه وجد نفسه أمام حمار مسحوق ورائحة مياه المجاري ليجد الدليل يقول بنبرته المعهودة "في عام 1916 حسب تقويم سيدنا يسوع المسيح" "قامت الحكومة التركية كالعادة بذبح قرابة 750000 أرمني".

أستحضر هنا مدينة حلب اليوم. غزاها كثيرون تاريخياً، وصمدت. للأسف تدمرت كالعادة، ونأمل أن تنهض من جديد. وحتى ذلك الحين، كالعادة تواسينا القدود والموسيقى التي تمنح للزمن مغزى إلى حين...