كان صديق لي يبتسم  كل مرة و نحن نعبر مدينة دمشق بالسرفيس الذاهب إلى بيتنا في جوبر. يلتفت لي ويقول: هذه آلة زمن. هذا اللقب للسرفيس الذي يشق دمشق من شرقها لغربها ليس اسماً عبثياً, فهو بعد أن يترك ملعب العباسيين باتجاه جوبر يمر باللاشيء وكل شيء معاً. بفضاء متقطّع لا هو أخضر كبستان ولا أزرق كبحر, تنتشر فيه بعض المكعبات المخصصة لرعاة الماشية. وربما تجد مزرعة صغيرة موسمية لفلاح يأبى تسليم أرضه للرمادي المنتظر للحداثة. يترك الباص هذه المساحات ليدخل في أول تجمع سكاني في موقف البرلمان محاذياً لبقايا بيوت طينية تتخللها أكوام من البلاستيك والحديد الذي ينتظر التدوير. يمكن لعين الساكن أن تعرّف أحياء دمشق وتميّز شوارعها ولغة أبنيتها وحتى طبقة قاطينها. يكفي ذكر واحد من هذه الأسماء: الشعلان, القصاع, ركن الدين أو الميسات لأي من سكن دمشق ليتذكر نمطاً عمرانياً راسخاً في ذاكرته. ينكسر هذا التعريف ويسقط مع باص "جوبر مزة اتوستراد" و يختلف تماماً. والراسخ في الذاكرة ليس نمطاً لكنه التردد.

هكذا كانت المجاورة السكنية لحي جوبر الذي يصر أهله على إلحاق صفة الدمشقية به لكنهم ما يزالون يتحدثون عن "الشام" بصفة الغائب. فهو كباقي الأحياء المضمومة إدارياً لدمشق, يئن تحت ضغط انتماء مكانيّ ليصبح حياً ريفياً بخصائص حضرية كباقي القرى الكبيرة أو المجاورة للمدن حيث تختلط الزراعة بالصناعة, والتزاحم بالعزلة[1]. إن حالات مجاورات دمشق تجعل الأسئلة عن توسع المدن وجدوى التخطيط العمراني في أحياء ريفية-مدينية أسئلة مهمة وذات جدوى في فهم ما يجري وما سيجري من بناء وإعادة بناء. فمنذ خمسينيات القرن الماضي, أنتج خليط من تردد وتهور التنظيم مع مركزية المدينة الجائرة تبايناً حاداً في البنى العمرانية في هذه الأحياء فبدت كورش بناء كبيرة, متروكة ومهملة, تنتظر مباركة المدينة لتكمل عملها وتبتعد في الوقت ذاته عن نفس المدينة إلى محيطها الريفي.

 

 [ صورة 01 صورة جوية تظهر الغوطة الشرقية,  وقرية جوبر في أعلى الصورة (1945-1948) من أرشيف  Marcel Ecochard]

تظهر الصور الجوية القديمة أن جوبر لم تنشء امتداداً لدمشق بالمعنى العمراني. فهي قرية مجاورة لمدينة مفصلية, اتصلتا ببعضهما بطريق يبدأ من باب توما والعمارة ليخترق بساتين الغوطة الشرقية ويكمل طريقه باتجاه زملكا وعربين, قبل أن يتحول ذلك الاتصال لمحور شارع بغداد في بداية الانتداب الفرنسي.  وللحي, كجلّ أحياء ومساكن الغوطة الشرقية, بيوت طينية تمتد أفقياً بسبب قلة التزاحم, لكنها تتجمع حول الطرقات والمراكز الأساسية للقرية ولا تتوزع في البساتين الجنوبية والشمالية. تشبه المساكن بيوت دمشق القديمة ولكنها تختلف عنها من حيث المواد فهي أقل كلفة وأكثر تواضعاً. جدرانها من اللبن بعتبات خشبية أو أقواس حجرية للفتحات, يرفق بها في حالات ما "بايكة" وهي حظيرة للدواجن الصغيرة, "تنّور" وهو فرن للخبز يصنع من  الطوب الطيني مع فتحة علوية لإدخال الحطب والعجين, ومكان لتخزين السلع. اشتغل أهل جوبر بحرف متعددة ذات طابع ريفي, فعملوا بدكّ الجدران والبناء الطيني, كما عملوا بحواصل الخشب وصناعة الأحذية[2]. وبقيت هذه الأعمال حتى مرحلة متأخرة من القرن العشرين ديدن العديد من الساكنين. عندما توسعت دمشق قبل المخططات التنظيمية, سلكت الشمال والجنوب وتركت الشرق والغرب للغوطة. يظهر ذلك واضحا في دراسة رينيه دانجيه  René Danger ومارسيل إيكوشار Marcel Ecochard  لتطور المدينة في ثلاثينات القرن الماضي, حيث تظهر الرسوم و التحاليل اتصال الصالحية والميدان بكتلة امتداد دمشق, ومركزية كفرسوسة و جوبر كأفلاك منفصلة.  يمكن تعليل هذا التطور بعوامل جغرافية و مكانية متعلقة بإشغال الأراضي غير الزراعية, أو اقتصادية كتقارب الحرف وسبل الإنتاج وكسب العيش, أو حتى مورفولوجية كون جدار دمشق أكثر تماسكاً من جهة الشرق والجنوب الغربي عن باقي الجهات[3]. إن انتماء جوبر للحزام القروي حول دمشق هو انتماء اجتماعي وثقافي أكثر من كونه مكاني أو تجاوري. فهو يشمل ويتعدى التشارك الديني والمذهبي والموروثات العامة والتقاليد المشتركة.

تم ضم جوبر للمخطط العام لمدينة دمشق مع مخطط إيكوشار في عام 1968 كمنطقة توسع[4]. هذا الصبغ لقرية بلون واحد لم يكن دقيقاً لكون جوبر بحد ذاتها منطقة واسعة, فهي تغطي ما يقارب 2.5 كم2 من حدود دمشق الشرقية, وفيها العديد من المناطق المختلفة الطبوغرافيا والإشغالات. كان من نتائج ضم جوبر للمدينة إصدار جزء من المخططات التنظيمية التي لم تلحظ تلك الاختلافات, كان أول هذه المخططات لمركز جوبر التاريخي المسكون أساساً والذي يحوي بالإضافة للمساكن على سوق طويل اسمه "الأصمعي" ينتهي بالمسجد الكبير, يقع خلفه الحمام ومقبرة الحي القديمة في الشمال الغربي, مسجد صغير باتجاه الشرق.  هذا التكوين الأساسي للقرية المجاورة لم يثر اهتمام أي من العاملين على المخططات التنظيمية فصُنّفت كمنطقة (أحياء قديمة) متيحةً بذلك استبدال بيوتها بأبنية طابقية سكنية وتجارية لزيادة الاستيعاب السكاني.  ليصبح توزيع المقاسم العقارية خطوطاً على ورق, لمناطق عوملت كأنها فارغة من السكن, زراعية وبلا أوابد أو مباني تاريخية يجب الحفاظ عليها. وبذلك تم تحييد الكثير من العوامل الاجتماعية المتنوعة للمساكن والحارات وتبديلها بقيمة سعر المتر المربع. 

حتى البساتين, وهي أهم أثر تاريخي في جوبر, تختلف بهويتها ونوع محصولها, فالشرقية التي تجرّ مياهها من الآبار لا تشبه منطقة الوادي الجنوبية المتمثلة بسرير وادي بردى بعد مروره دمشق. الغوطة ليست حراجاً شجرياً, ذلك الغطاء النباتي هو عملية إنتاجية لمزارعين يحتاجون لبيوت وصوامع, لمخازن وورش. إن معاملة جوار مدينة دمشق كأي مجاورة سكنية داخل دمشق أدى تدريحياً لانحسار اهتمام القاطنين بالغوطة كمصدر للإنتاج و تحولهم للعمل في المدينة. فبالرغم من فرز بعض مناطق محيط جوبر كمناطق حماية زراعة داخلية, فإن الحفاظ على الغطاء الزراعي لدمشق لم يتم بخطى ديناميكية ذات تفكير استراتيجي. على العكس, صدر قرار 60 عام 1979 بنيّة تدارك العمران وأسعار البناء, والذي أدى إلى وقف كل عمليات الإنشاء المخططة والمستثمرة في مناطق التوسع. تلك العملية التي تشبه قوانين الطوارئ كانت لتصبح خطوة جيدة لو أنها كانت مبنية فعلاً على رغبة حقيقية بإعادة النظر بالدور الأساسي للريف الدمشقي والاعتراف بهويّته ككيان واضح و متداخل مع دمشق في آن واحد. غير أن القرار كان أبعد ما يكون عن ذلك , كان هدف هذا المخطط إبعاد الزحف العمراني عن دمشق مقتصراً على كسب السوار الغوطاني القريب للمدينة بغض النظر عن قراه وبلداته. نجحت هذه السياسة بتقليل نمو المدينة من 4.6% في الستينات إلى 1.7% في منتصف التسعينات[5]. لكنه أثر سلبياً على  القرى المجاورة ليصبح الحزام الأخضر نفسه مكلّلاً بحزام اسمنتي من جهة الريف. أصبحت العمارة الشعبية هي السبيل لإنشاء البيوت السكنية في المناطق الخارجة عن إدارة المدينة, حيث اتجهت عائلات عديدة بحثاً عن مساكن لها في الأراضي الزراعية.

 

  [صورة 02 - 03 جزء من مخطط دراسة ايكوشار ودانجيه 1936 يظهر قرية جوبر, تم إضافة التفاصيل من قبل الكاتب]

أما مركز جوبر في هذه المرحلة فقد اتسم بطابع هجين عمرانياً, فتجاورت المساكن الطابقية التي استطاعت تجاوز قرار (60) مع الدور القديمة (والدور هنا تعني البيوت القديمة ببنائها وساحاتها الداخلية والخارجية) مع المحلات التجارية, وتلونت شوارعه بين حاراتها القديمة و خطوط التنظيم الطرقي ذات الطابع الهندسي لينتج عن ذلك مشاكل عمرانية في الفراغات العامة يمكن البحث فيها بشكل مستقل. أما الدور القديمة  فتم اهمالها (رغم كونها مسكونة) واعتبارها مجرد إشغالات مؤقتة لحين السماح لجوبر بالعمران والتشبّه بدمشق. بعض الوافدين حديثاً من فلسطينيين سكنوا الحي وآخرون قدموا من محافظات سورية جاوروا المدينة ووجدوا في هذه المساكن حلاً اقتصادياً. كما تم استعمال هذه البيوت كورش أو مستودعات لبعض الصناعات. كان لهذه الإشغالات المتعددة دورٌ في الحفاظ على بعض البيوت رغم تغيير فراغاتها والمداخلة على موادها التقليدية بمواد إنشاء حديث. ولذلك ظلت هذه البيوت على اختلاف ساكنيها وحالتها الفيزيائية قائمة نراها في صور دمار جوبر اليوم العديد عياناً في بقايا الجدران الطينية والأقواس الحجرية,عرّاها الدمار لتكشف بعض أفنية هذه الدور الداخلية. واليوم , وفي مغالطة مضحكة, يتم تسمية هذه البيوت في خطط إعادة الإعمار بـ "العشوائيات", في حين أن معظم هذه البيوت أقدم من الخطط التنظيمية نفسها. 

  

[صورة 04- 05  بيوت تقليدية في جوبر- عدسة شاب دمشقي]

من عام 1979 وحتى عام 2000 لم يصدر عن مجلس الشعب في سوريا أي تشريع عمراني. عشرون سنة تخبطت بها جوبر بين "ما تريد أن تكون" و "ما هي عليه حقاً". لكن رغم حالة الضياع الإداري العمراني, بقيت جوبر بلدة ريفية مجاورة لدمشق وتعتني بسوارها الشجري, فالطابع المعيشي لسكانها وأعمالهم كان مرتبطاً بالفعاليات الاقتصادية والاجتماعية الريفية. البساتين والمواشي, على سبيل المثال, كانت على مرمى حجر من مناطق الدور والأبنية الطابقية (إن لم تكن متداخلة معها). انتظمت ورش الحرف الخفيفة ضمن الأحياء السكنية كالنجارة وصناعة الأحذية, بينما ابتعدت الصناعات الأثقل إلى عمق الغوطة باتجاه "زملكا" و "حرستا" شرقاً أو "عين ترما" جنوباً. ظلت جوبر بعيدة عن العباسيين وأقرب لزملكا, يمكن قياس ذلك بمعاينة الصور الجوية والتي تظهر الحي وهو يمتد شرقاً وليس غرباً بإنشاء دور شعبية غير منظمة.

في مطلع القرن الواحد والعشرين تم إصدار عدد من التشريعات العمرانية التي تبطل قرار 60 و تسمح بفرز وتنظيم مناطق توسع دمشق ومن ضمنها جوبر, تم اعتماد المخططات القديمة دون التفكير بما حدث للمنطقة خلال 20 عاماً و ما يمكن تجنبه أو تداركه. خلال عشر سنوات "بين عامي 2000 و 2010", تم هدم ما تبقى من النسيج القديم لأحياء جوبر واستبداله بالأبنية الطابقية. نظرياً, ستقوم الابنية الطابقية باستيعاب أكبر لحاجة السكن المطلوبة وزيادة نسب الإشغال. لكن ما حدث عملياً هو تجريد الغوطة مِن مَن يعمل بها. لقد غيرت هذه الهجمة الإنشائية البنية الاجتماعية والاقتصادية لسكان المنطقة، و انعكست على المهن بشكل مباشر بإغلاق الورش الصغيرة و المتوسطة أو بشكل غير مباشر بتحول الكثير من السكان من مهنهم إلى مهن جديدة كالاتجار العقاري. ساهمت  خطط "السوق المفتوح" للاقتصاد السوري والتي بدأت منذ 2005  في تنامي التحول من المهن العائلية إلى تجارة العقار. فقد أنهك كل أصحاب المهن الصغيرة و المتوسطة  بمن فيهم حرفيي الغوطة الشرقية و اضطروا لإغلاق ورشهم لعجزهم أمام إغراق السوق بالبضائع المستوردة و المعفاة من الضرائب و التي باتت تنافس المنتج المحلي تاركة أصحاب الورش في مواجهة اقتصاد مفتوح دون دعم حكومي. حتى أولئك الذين رفضوا بناء الطوابق في البداية, اضطروا لهدم أو تغيير بيوتهم التي أصبحت مكشوفة على الأبنية الطابقية مجردة سكانها من خصوصيتهم. تغيرت المجاورة, عانت الفراغات العمرانية كالشوارع من نقص خدمي ناتج عن سياسة (ننتظر لحين استكمال عمارة كل الأحياء). تكلل هذا المخطط بشق شارعين عريضين "اوتوستراد", أولهما هو المحلّق الجنوبي والذي يفصل جوبر عن زملكا, والثاني هو المحلّق الوسطي الذي يفصل جوبر عن دمشق، تسبب هذان الشارعان بضياع العديد من الأراضي الزراعية على جانبي الشارعين واستئصال ترابطها العضوي. كان لشق المحلّق الجنوبي آثار اجتماعية أيضاً فقد تسبب بفصل المساكن العشوائية بين جوبر وزملكا, وكنتيجة لذلك حصلت احتجاجات عديدة تطالب بتأمين وسائل آمنة لعبور الاتوستراد, لرتق الشق الاجتماعي وحتى العائلي بين ضفتي الطريق. تردّت البيئة المبنية والطبيعية على ضفتي الاوتوستراد واستبدلت البساتين بتراب ينتظر تحويله لمنطقة خضراء عقيمة غير منتجة.

  

[ صورة 06 -07 مقارنة صور جوية لجوبر 2000-2011 يظهر أاثر المحلقين (الجنوبي والوسطي) على البنية العمرانية Google Earth  ]

 بهذا وصلت جوبر لعام 2011, بآمالٍ عقارية وأراضٍ رمادية, برغبةٍ عارمةٍ للإنشاء "الحديث" لتكون امتداداً لأحياء القصاع والقصور ,وبحنين الفاقد لبيوتٍ ودورٍ مجاورةٍ لبساتين. وصلت بإحساس الخيبة من وعد مدينة غير محقق. بذلك الإحساس يمكن لنا فهم أن يكون العديد من  مطالب أهل جوبر في 2011, بعد قيام الانتفاضة الشعبية في سوريا, متعلقة بالبنية العقارية و الخدمية.  فبعد المطالبة بالإفراج عن المعتقلين وتخفيف الضغط الأمني, طالبت جوبر الحكومة, ممثلة بالمحافظة, بتحمل مسؤوليتها في تحسين البنية العقارية و الخدمية بعمليات من نوع استعجال لفرز محضر, إنشاء أرصفة, أو العناية بحديقة عامة. لعل الطلب الأخير هو الأكثر إثارة للاستغراب, وهو يلخص  فجاعة الكارثة. فـ "جوبر" التي امتلأت بالبساتين وكانت لدمشق متنزهاً لا نهاية له, تطلب في عام 2011 من محافظة دمشق أن تعتني ببعض الحدائق لقلة الغطاء النباتي![6]           

* تم كتابة هذا المقال بالاعتماد على بحث قدمته في كتاب Syria The Making Of The Future:  From Urbicide To The Architecture Of The City  الصادر عن مدرسة العمارة في البندقية  IUAV في تشرين الثاني 2017.  أتقدم بالشكر لرزق الله عيسى على قراءة النص, التدقيق والمراجعة.

[1] بدأ تعريف الأحياء الريفية المدنية Rurban في بداية القرن العشرين مع باحث عمل الاجتماع الريفي C. J. Galpin ليتم تداول المصطلح بعد ذلك لدراسة تداخل أو تشبه الريف بالمدينة. في نهاية القرن العشرين, استخدم Henri Lefebvre في إشارة لظاهرة تحول الظروف الاقتصادية الاجتماعية لسكان الريف لتشابه ظروف أقرانهم في المدينة.

[2] يشير القاسمي في قاموس الصناعات الدمشقية على أن حرف الطين والطوب كانت مرتكزة في الريف.

[3] سمير عنحوري, التطور العمراني في مدينة دمشق (1860-1960), مجلة معابر الالكترونية - آذار 2017.

[4] دراسات ومخططات دانجيه وايكوشار 1936 Development Plan for Damascus.

[5] المجريات العمرانية بدمشق والمخطط التنظيمي العام للفترة (65-85). سعد الله جبور مجلة جامعة دمشق  المجلد السابع عشر  العدد الثاني  ٢٠٠١

[6] الثورة- الصفحة الأولى- الخميس 28-7-2011 (محافظة دمشق تبدأ تنفيذ مطالب أهالي حي جوبر)