-الغيتو الدانماركي-
في المدن الكبرى، يرفع الفجرَ الليلَ عن الشوارع الخالية فيدبّ فيها المتزاحمون المستعجلون كأنهم أسراب من اليرقات تهرب في كل اتجاه بعدما رفع صبيٌّ صخرةً صغيرة على ضفة نهر- يقودهم الضوء إلى أنفاق المترو والمكاتب تحت الأرض والمصانع في الضواحي، حيث مهاجرون فقراء في أمكنةٍ كالأقبية، مكتظّة ضيقة وسخة، رطبة معتمة، يعيشون مثل سمكات فضّية هيّنة التلاشي ولا يترك سحقها أثراً على البلاط. يضع الصبي الصخرة جانباً فيرى إن اليرقات التي سحقها بقدميه كانت قد رسمت وجهه في الوحل.
-الهُجناء-
أخوات كافكا الثلاث قضين في الهولوكست. أحدُ رواة قصصه يتخيّل مخلوقاً محيِّراً ورثه عن أبيه، له من الخروف حجمه وشكله، ومن القطّ رأسه ومخالبه، ومن كليهما القلق والخوف. كان الحيوان في زمن الأب أقرب إلى الخراف، ثم تكافأت في عهد الابن صفاتُ المخلوقين. لا يستطيع الحيوان أن يموء، وطعامه الأثير هو الحليب. يهرب من القطط ويهاجم الخِراف، ويحبُّ التجول وحده على الأسطحة تحت ضوء القمر. يتسلّى بزيارته الأطفال أوقات فراغهم صباح الأحد، ويطرحون أسئلة من قبيل: تُراه يشعر بالوحدة، هل هناك حيوان آخر مثله، ما اسمه، لماذا ليس لديه أطفال...إلخ. حين أتوه بقطٍّ وخروف، لم يتعرّف كلاهما إليه. يقول عنه الراوي: "أحياناً يقفز إلى الكرسي المجاور لكرسيّ فيضع قائمتيه الأماميتين على كتفي، ويضع خطمه على أذني، وكأنه يسرُّ لي بشيء ما، ثم يدير رأسه بطبيعة الحال ويحدّق بوجهي ليرى الانطباع الذي تركه هذا التواصل عليّ. فأجاريه وأتصرّف وكأنني قد فهمتُه وأهزّ رأسي". يقول الراوي إن سكين الجزّار قد تكون خلاصاً لهذا الحيوان، لولا أنه تركة أبيه، وعليه الانتظار ريثما يلفظ جسده نفسه الأخير، وإن كان الاثنان يتبادلان نظرات صامتة أحياناً، كأن الحيوان يفهمه ويتحدّاه ليقدم على فعل القتل الذي يفكّر به كلاهما.
سأشبّه المترحّلين بين لغتين بهذا المخلوق الكافكوي، وقد يطرح عليهم شكّاكٌ، أو فضوليٌّ إن وُجد، الأسئلةَ ذاتها حول معاني أسمائهم وأصولهم وأنسابهم وتاريخ قبائلهم. اللغة العربية، كأشعارها، بيوتٌ شتّى، وكلُّ لغةٍ يسكنها أجنبيّون ويستأجرها الأحياء من الموتى.
في لسان العرب: الهجين من الناس هو الذي أبوه عربيٌّ وأمُّه أعجمية. الدعيُّ مَن لا يستطيع الانتساب إلى القوم الذين يعيش بين ظهرانيهم، وهو أيضاً مَن لا عقل له، أي مَن لا رباط له يشدّه إلى الجماعة، فالمجنون مَن فلت عقاله، وكأن الوعي وازعٌ للجنون الأصلي.
ثمة تشيكي كتب بالألمانية. أكراد كتبوا ويكتبون بالعربية. آشوري عراقي كتب شعره بالعربية. يهودي عربي عراقي كتب بالعربية رواية "شلومو الكردي وأنا والزمن"، ورفض الكتابة بالعبرية التي تفرضها إسرائيل. يهودي كردي عراقي، من يهود زاخو الذين يتحدثون الآرامية، يغني بالآشورية. أرمن غنّوا ويغنّون بالكردية. جليلي جليل في يريفان الأرمينية يجمع الأغنيات والأحاجي والحكايات والأمثال الكردية. كرابيت خاجو يسجل أغنيات كردية في إذاعة يريفان، بلسانٍ كردي تحدّثه، على حدٍّ سواء، القتلةُ الذين يتّموه وأولئك الذين أنقذوه.
عبر تاريخ الشرق الأوسط، هذه الرقعة المنكودة من العالم، ما أكثر ما كتب ضحايا وجلادون وغنّوا باللغة نفسها. نعلم أن محمد سعيد رمضان البوطي، علّامة دمشق القتيل، قد ترجم ملحمة أحمد خاني "مم وزين"، من الكرمانجية إلى العربية. كان البوطي قد رأى "الشهيد باسل الأسد" في الجنة، وخوّنه أكراد حين قال، بعد انتفاضة قامشلي 2004، إنه يضع قوميته تحت قدمه، وربما كان بهذا الاستفزاز يحاكي الحلّاج ومعبوده. البوطي ينحدر من جزيرة بوطان الكردية في نهر دجلة، وفيها تقع المدرسة الحمراء، مرقد الشاعر الصوفي الملا الجزيري. عاش الجزيري في القرن السادس عشر، كتب الشعر بأبجدية واحدة آنذاك في أربع لغات هي الكردية والتركية والفارسية والعربية، واستخدم جميعها أحياناً في بيت واحد. لا تزال قصائده الصوفية تغنى بين أكراد سورية، وإن لم يفهموها تماماً.
-ممنوع دخول البعثيين-
في زمهرير صباح شتوي من صباحات الثمانينات، شمال شرق سوريا، على الطريق إلى المدرسة، انتبه تلاميذ أكراد في عامودة إلى تغيُّرات في آرمات المحلات والعيادات، شوّشت على أحد القرويين المرضى الوصول إلى عنوان الطبيب الأرمني هرانت قرنفليان. لم يعرف التلاميذ مَن غيّرها ومتى، وتخيّلها معظمهم تدخّلاً سحرياً من "أبو الحروف" في برنامج "المناهل" للأطفال. كانت بقالية "شيرين" قد صارت "سيرين"، وانقلبت منجرة "زمبيل فروش" [بائع السلال] إلى "زميل قروش"، وصُحّح بوتيك "نسرين" للألبسة الجاهزة إلى "تشرين". كان البعثيون مغرمين بالتصحيح، يتلمظون بنطق الحروف اللثوية المستعصية على عجائز الأكراد، ويقتصدون في النفقات، فلم يبدّلوا الآرمات، مكتفين بمحاكاة "أبو الأسود الدؤلي" في وضع النقاط على الحروف، أو حذفها، لوضع الأمور في نصابها الصحيح. أحد هؤلاء التلاميذ لم يوافق الأمن السياسي على تسجيله باسم كردي، فترجم موظف "النفوس" الاسمَ المنتقى "دجوار" إلى مقابله العربي "حادّ"، وتمنّى له هذه الأمنية التي تحقّقت: "إن شاء الله، اسم على مسمَّى".
كتب فرهاد شاكلي في إحدى قصائده المكتوبة بالكردية الصورانية: "اليوم قرأتُ اسم كردستان في الفهرست/ لكنني لم أعثر عليه في الصفحات الداخلية". ربما للحرمان التاريخي من الحق الطبيعي بالمكان دور في إطلاق الأكراد أسماء جغرافية على مواليدهم، فلن تعدم حتى الآن مصادفة أشخاص يحملون أسماء أمكنة مرتبطة أحياناً بالكوارث: مهاباد، ديرسم، حلبجة، ميديا، سورية، تركية... إلخ. القاضي محمد، رئيس جمهورية مهاباد قصيرة الأجل في كردستان إيران، انتهى مشنوقاً سنة 1947في ساحات طهران الشاه، وفي هذه الساحات نفسها لا تزال تعلَّق، حتى الآن، مشانق شبّان أكراد بعد إمضاء آية الله خامنئي على أحكام الإعدام. سنة 1925، أغار الطيران الحربي التركي على تمرد الشيخ النقشبندي سعيد بيران في بلدة ديرسم التي تتحدث الكردية الزازاكية، وكانت مريم (التي صار اسمها "صبيحة غوكجين") بين أوائل الذين قادوا تلك الطائرات، وهي اليتيمة الأرمنية التي تبنّاها مصطفى كمال أتاتورك، ومطار إسطنبول الحالي يحمل اسمها.
حُطِّم تمثال حافظ الأسد في عامودة، أثناء انتفاضة آذار 2004، من دون معونة "أبو آزاد" ورافعاته الأمريكية. اقترع المتجمهرون على الأذن الناجية للتمثال، وتساءلوا أين ستنتهي كمنفضةٍ، ربما أمام المعزّين بوفاة "الأب الخالد" للمرة الثانية، تحت الخيمة الواسعة التي ستنصَب أمام شعبة حزب البعث. مساء اليوم نفسه، تناهت إشاعات عن هجوم وشيك للعرب ("العرب" هو الاسم الذين يُعرف به البدو بين الأكراد)، فاستعدّ الأهالي لاحتمالات نهب البيوت وحرقها، وراجت إشاعة أخرى عن تسميم "الحاووز"، الخزان الرئيسي لمياه البلدة. تفشّت إشاعة ثالثة عن وصول ماهر الأسد إلى عامودة، وعزمه (على نهج عمّه رفعت في حماة 1982) تهديم البلدة الكردية على رؤوس أهليها، وتحويلها بكاملها إلى خيمة عزاء. في هذا الخوف، كان الاحتمال الأفظع الذي راود الناس، ولم يبوحوا به خشية تحقُّقه، هو استخدام الأسلحة الكيماوية. ما كانوا قد نسوا عشرات الحالات التي استخدم فيها جيش صدام حسين الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد أثناء عملية الأنفال (1986-1989) بألوف مفقوديها المؤلّفة، وكان هذا القتل "المقدَّس"، بعنوانه القرآني، قد تكلّل بمذبحة حلبجة التي أدارها علي حسن المجيد أو علي الكيماوي في 16 آذار 1988. شرح بيان عسكري لجيش العراق كيف تمت "إبادة الحشرات الضارّة"، أي الأكراد الخونة والفرس المجوس. حالياً، أمام مقبرة الشهداء في حلبجة لافتة تقول: "ممنوع دخول البعثيين".
مرّتْ هذه المذبحة بسلام وصمت، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، في حقبة رونالد ريغان، ولم تعد إلى الصحف وشاشات الإعلام إلا قبل غزو العراق سنة 2003. أثناء حملته الانتخابية لرئاسة أمريكا، استغرب دونالد ترامب جنون العالم لأن الفقيد صدام حسين، محارب الإرهاب، قد رمى" قليلاً من الغاز" على الأكراد.
الأكراد المحذوفون من دستور الجمهورية العربية السورية، الذين سقطوا عمداً من إحصاء محمد طلب هلال سنة 1962، وخافوا مراراً أن يُسمَّد بجثثهم الهلالُ الخصيب، كانوا "الأجانب" في أرض أجدادهم، وباتوا الخونة المتواطئين مع الأمريكان ونظام الأسد، بعدما ظلُّوا الجاحدين وقتاً طويلاً لأنهم تنكّروا لمكرمة حافظ الأسد الذي جعل عيد النوروز 21 آذار عطلة وطنية، حتى لو كان قد سمّاها "عيد الأم". عوقبت عامودة على تحطيم صنمه، بأشكال شتى من العقاب الذي برع فيه نظام الأسدين. نُفي معلمون إلى قرى بعيدة، وسُجن واحدٌ منهم بعد وشاية مديره لأنه روى في غرفة الإدارة، أمام المعلمين زملائه، مناماً رأى فيه إن وحدة الأكراد قد تحقّقتْ، فالتأمتْ أجزاء كردستان أخيراً كدولة واحدة، بعد أن تناهبتها طويلاً دولٌ وأمم أخرى. نُصب تمثال حافظ الأسد مرة أخرى في مدخل البلدة، وكان هذه المرة أصغر بكثير من سابقه، وإن كان نسخةً مطابقة له، فأطلق عليه الأهالي اسم "صغيرون"، وكان سكارى البلدة يغنّون أمامه أغنية سعدون جابر المعروفة، كما عُرف باسم آخر هو أبو جنكو، في تسمية أغضبت الفرّان المقصود لقصر قامته.
-كلمات تعبّد الطرق إلى المذابح-
في تهويدات الأكراد صورٌ لا تقلّ عنفاً عن الحمَام الذبيح في تهويدة "ريما" لفيروز. قد تقول الأم الكردية إذا جاع ابنها: "فلتنشب النار في خيام العرب"، وإذا غسلتْ شعره فحسب قالت "سأحمّمك حمّاماً عربياً"؛ يُكرَّد الحمقى في مصر والشام؛ ويُصَوّر الأتراك في إيران أكلة رؤوس الأسماك، ولا يميّز واحدهم أيره من السمكة... إلى آخر هذه التوصيفات الجاهزة، المتداولة على الرغم من عنصريتها، ولكني، هنا، لسوء الحظ أو لحسنه، لن أتوقف عندها.
حين يحقَّر خصمٌ أو عدوّ بنعت "حشرة"، يذهب البال أولاً إلى الاشمئزاز وتفاهة المصير. حشرات، بأعدادهم الغفيرة ودمامة تناسلهم المقلق (تطهيرهم ضروري، والقتل هنا مستمدّ من الطهارة). هذا ما يراه الحاكمون بهذا الرأي، كالجالسين في محفل الأرباب، متفرّجين من عليائهم على أناسٍ لا يعرفونهم، فوق هذا الكوكب المقذوف كذرّة تراب في الكون. ليس المقصود هو الفراشات، ولا النحل والنمل. الإنسان، كما نعلم، آخر المخلوقات التي بنت مجتمعاتٍ على درجة عالية من التعقيد والكثافة السكانية، ويُظنّ إنه كلما ازداد هذا التعقيد ارتقى أصحابُ الحضارة درجة أخرى في سلّم الأنواع. حشرات باركها القرآن كالنحل والنمل سبقتِ البشر في ارتقاء هذا السلّم. للنمل الأبيض، صاحب المجتمع الأقدم على وجه الأرض، قرى هائلة في أفريقيا تسمى مملكة الظلام، وقد قورنت بها كوريا الشمالية في العصر الراهن، لأن حدود الممالك مرسومة ومراقبة بصرامة، ويعيش النمل حياته كلها سجيناً يسعى في ظلام الأنفاق وطبقاته. كان موريس ماترلينك، الذاهل أمام عبادة العمل وتبجيل القوانين في الأمم الصناعية، قد تساءل إذا كان مجتمع النمل الأبيض هو صورة عن ماضي الإنسان أم مستقبله.
كان اليهود قملاً في معسكرات الإبادة النازية. أسترجع هنا واحداً من الكتاب الذين قضوا فيها. إنه برونو شولتز الذي أرْدَتْهُ بنادق النازيين وفي يده رغيف خبز؛ في إحدى قصص كتابه "شارع التماسيح"، يتخيّل الطفل إنّ أباه الغائب صرصورٌ وقد تخفى في أحد شقوق الأرضية. من قبله، لم يكن غريغور سامسا صرصوراً ساميَّ السُّمرة بل بقَّ فراش يجهل وجود جناحيه. وفي فلسطين، يحمل جسر الوصول إلى الناصرة اسم الجنرال الإسرائيلي رافائيل إيتان الذي قال، عقب مجزرة صبرا وشاتيلا 1982، إنّ العرب صراصير. سنة 1992، قبل حوالى سنتين من المذبحة الكبرى في راوندا، روّج سياسيون من الهوتو إن "أقلية" التوتسي صراصير. صُوّرت إيران كبالوعة لتصدير الصراصير في كاريكاتير جريدة أمريكية سنة 2007...إلخ. وما أضخمها "إلى آخره" هذه.
* * *