[ترجمة: أسامة إسبر]
نادرةٌ هي الأفلام الوثائقية التي تعالج موضوع الرق وتجارة الرقيق في أفريقيا، ومن هذا المنطلق وافقتُ كمتخصص في الرق ودراسات العرق في شمال أفريقيا على المشاركة في فيلم وثائقي طموح يتناول هذا الموضوع عنوانه “طرق تجارة الرقيق”. الفيلم من إخراج فاني غليسان وخوان غيلاس ودانييل كاتييه، وأنتجته الشركة الفرنسية “Compagnie des Phares et Balises” للقناة الأوربية آرتي، وعُرض في 1 أيار 2018. والغريب أنه في هذا اليوم نفسه أطلق المغني الأميركي كانيي ويست تصريحه المعيب والصادم بأن العبودية خيار. وفي 16 آب عُرض الفيلم الوثائقي على قناة الجزيرة بالإنكليزية. لكن القناة فاجأتْنا بتجاوزها وامتناعها عن عرض الحلقة الأولى حول الرق في المجتمعات الإسلامية، والتي تحمل عنوان (من 467 إلى 1375: وراء الصحراء)، والتي تتحدث عن دور الإمبراطورية العربية الإسلامية في شبكة تجارة الرقيق الأفريقية. لا أعرف أي شيء عن الصفقة التي قامت بها قناة الجزيرة مع الشركة الفرنسية التي أنتجت الفيلم.
من ناحية أخرى، حاول زملائي في فرنسا الذين شاركوا في الفيلم الوثائقي وبينهم أنطونيو دي ألميدا مينديز ومريم كوتياس وصلاح طرابلسي وكاثرين كوكيري-فدروفيتش وخوان غيلاس، الذي شارك في تأليف وإخراج الفيلم، حاولوا الحصول على جواب واضح من الشركة الفرنسية وتبين أن قناة الجزيرة لم تشتر من شركة Phares et Balises إلا الحلقات رقم ٢ و٣ و٤ بطلب منها، مما يؤكد أن الجزيرة كانت على اطلاع على الحلقة الأولى التي تركز على تجارة الرقيق في المجتمعات الإسلامية، لكنها أهملتها بشكل متعمد مما دفع البرتغاليين إلى الاحتجاج في إعلامهم ضد هذا الحذف الذي ولّد انطباعاً بأن البرتغال استهلّتْ تجارة الرقيق بالأفارقة(1). بعثتُ رسالة إلكترونية للجزيرة في 14 تشرين الأول 2018 من خلال موقعها على شبكة الإنترنت، لكنني لم أتلق أي رد.
ما تزال تجارة الرقيق موضوعاً محرماً إلى حد كبير في العالم العربي، ولكن في العقود الأخيرة ظهر بعض الباحثين، بمن فيهم أنا (2) وإيف تروت-باول (3) وبروس هول (4) الذين حققوا فتحاً جديداً في دراسة تجارة الرقيق والعرق. وحتى الآن لا يوجد إلا بضع دراسات شاملة وتحليلية حول تاريخ تجارة الرقيق وتجارة الرقيق العابرة للصحراء وإلغائها في شمال أفريقيا. وانطلق مسعى أكاديمي جدي لاستعادة الدور المنسي للسود في شمال أفريقيا يهدف إلى تفنيد القراءات التقليدية لتجارة الرقيق في الإسلام وسرد قصة أشخاص وشعوب لم تُقدَّم صورة كافية عنهم، وكشف الأنظمة التي فرضت وبرّرت اللامساواة التي اختزلت الأقليات شمال الأفريقية إلى وضع اجتماعي هامشي. لكن إعلام الاتجاه السائد العربي لا يواكب الدراسات الأكاديمية حين يتعلق الأمر بالإقرار بالأوضاع الاجتماعية للظلم والقمع وتحديد القوى المسؤولة عنها. وما من مكان تجلى فيه هذا بوضوح أكثر مما تجلى في تصوير تجارة الرقيق، المؤسسة الاجتماعية التي تنضح بالعار، وفضل الصحفيون مثلهم مثل السياسيين الذين يحاكونهم، رواية خيالية حول الحقائق والوقائع التاريخية غير المريحة للماضي. وتقدم الدراسة التاريخية لمؤسسة تجارة الرقيق، المعتمدة على الأرشيف، سرداً مضاداً ينبغي ألا يتم تجاهله من أجل مصالح العلاقات القومية العامة. ذلك أن صلة استرقاق الأفارقة السود وتجارة الرقيق العابرة للصحراء بالفتح العربي لشمال أفريقيا حقيقة راسخة (5). وكانت الوسيلة الأولى التي حُصلَ من خلالها على العبيد في شمال أفريقيا في بداية الفتح العربي في القرن السابع هو الغزو والسبي (6). وبعد فتح مصر في 641 قام العرب بغزوات ضد أرض وشعب النوبة في جنوب مصر انتهت بقيام عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، حاكم مصر (656-8) بتوقيع معاهدة مع النوبة في 652. وبموجب هذه المعاهدة فُرض على النوبيين أن يرسلوا كل عام 360 عبداً إلى العرب،واستمر هذا الوضع حتى مجيء المماليك في القرن الثالث عشر (7). وقام عقبة بن نافع بفتح المغرب كله وقيل إنه بنى معسكراً دعيَ القيروان في 670، حين غزا إقليم فزان في 667 (والذي يقع على طريق رئيسي من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى المتوسط)، وفرض الضريبة نفسها وهي إرسال 360 عبداً(8) . وهناك دليل على أن بعض الأفارقة السود طُوِّعوا في الجيش وساهموا في فتح شبه الجزيرة الإيبرية (ما يدعوه العرب بالأندلس) بقيادة طارق بن زياد في 711 بأمر من موسى بن نصير. وفيما تواصلت الغزوات في جنوب المغرب، أغار حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع على منطقة السوس ووصل إلى أرض السود، ويُرْوى أنه نهب الكثير من الذهب وأسر الكثير من العبيد مما سبب هلعاً كبيراً بين السكان المحليين.
كان العبيد أثناء الفتوح “الإسلامية” في العهدين الأموي والعباسي يصلون في أعداد كبيرة إلى أسواق النخاسة في المدن المتنامية للشرق الأوسط، إلى درجة أن طبيب بغداد الملقب بابن بطلان (1066) كتب رسالة عنوانها “في شري الرقيق وتقليب العبيد” يقدم فيها نصائحه حول كيفية شراء العبيد والكشف عن أمراضهم مقدماً الدليل على فهم ومعالجة وأدوار العبيد من الجنسين في المجتمعات الإسلامية. ولم تشر هذه الرسالة إلى العبيد الذين يعيشون في العراق فحسب بل في المجتمعات العربية أو المعربة كافة. واعتمدت هذه المجتمعات كثيراً على جميع أنواع عمل الرقيق. وفي المجتمعات الإسلامية امتلك كثيرون عبيداً. وكان بوسع حتى بعض العائلات الفقيرة أن تشتري عبداً واحداً على الأقل. وقدم ابن بطلان في رسالته مجموعة تعليمات لأي مشتر محتمل لعبد كي يحذّر من خطط تجار الرقيق ويكشف عن مواصفات الذين استُرقّوا بحسب أصولهم العرقية.
وأقام المسلمون شمال الأفريقيين الذين تاجروا أو استقروا في الصحراء الغربية في القرن السابع والثامن صلة ثقافية وإنسانية واقتصادية بين شرق وغرب أفريقيا. ومن البداية، كان العرب في زمن الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، متنبهين لذهب غرب أفريقيا، مما أدى إلى حملات كثيرة لغزو غانا واسترقاق شعبها.
منيت المحاولات الأولى لإحكام سيطرة العرب على المحطة الجنوبية الأخيرة للتجارة العابرة للصحراء بالفشل. لكن المسلمين البربر أقاموا حينها طرقاً تجارية إلى مملكة غانا القوية وجنوا أرباحاً كبرى منها.
تأسست المراكز التجارية على الطرق الصحراوية بين سجلماسة وأداغست ومناطق أخرى. وكانت السلع الرئيسية للتجارة الصحراوية هي الملح والأحصنة والنسيج والذهب والعبيد.
وأثناء حكم المرينيين حدث تحول تدريجي في ديناميات الشتات التجاري المغربي، وكانت الحدود السياسية والجغرافية للإسلام تتغير في الأندلس لصالح المسيحيين وفي السودان لصالح المسلمين. وأثر هذا التغير على مصادر الرقيق. فقد بدأ العبيد القادمون من أوربا بالتناقص تدريجياً فيما ازداد عدد العبيد القادمين من أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، خاصة بعد أن مُني المسلمون بهزيمة ساحقة في معركة جزيرة طريف على يد التحالف البرتغالي - القشتالي في 1340. وفي الحقيقة، خدمت المقابلة الأطلسية والتجارة الأولى بين البرتغال والمغرب الأوروبيين كأرض تدريب للتجارة مع أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. وحين أبحر البرتغاليون في المحيط الأطلسي في القرن الخامس عشر، أثناء حكم الأمير هنري الملاح (1460) كي يبحروا حول أفريقيا ويحصلوا على السلع الهندية، كان المغرب حجر عتبة لا يمكن تجنبه.
يستقصي كتابي “المغرب الأسود: تاريخ الرق والعرق والإسلام” بالتفصيل جميع السيرورات التاريخية قبل أن يصبح البرتغاليون كيان دولة منفصلاً وأحد المستهلين الأوربيين الأكثر أهمية لتجارة الرقيق في المحيط الأطلسي الأفريقي.
اختارت قناة الجزيرة إنكار الحقائق التاريخية مفضلة عدم عرض الحلقة الأولى من الفيلم الوثائقي. وتنبغي الإشارة إلى أن الجزيرة قناة تمتلكها قطر، الدولة العربية الوحيدة التي افتتحت متحفاً فريداً من نوعه يوثق تاريخ العبودية والاتجار بالبشر والرقيق، اسمه بيت ابن جلمود في العاصمة الدوحة(9). إن رفض الاعتراف بالدور الجوهري الذي لعبته المجتمعات الإسلامية في هذه المأساة الإنسانية يشكل عقبة كبيرة أمام فهم تأثير الظلم التي ارتُكب في الماضي، وميراثه في الأزمنة المعاصرة. وكي نخرج من هذه السيرورة المتواصلة من الإنكار، يجب أن تنتهي ثقافة الصمت، ويواجه الباحثون والسياسيون هذا التاريخ بثقة وأن يفككوا في الوقت نفسه الصور النمطية الغربية عن الإسلام.
[للاطلاع على النسخة الإنجيلزية الرجاء الضغط هنا]
مصادر
[1] See the article in Portuguese. “Al Jazeera corta papel dos muçulmanos na escravatura e culpa portugueses Canal do Qatar elimina primeiro episódio de série documental, coproduzida pela RTP e LX Filmes, onde se falava do papel dos muçulmanos no tráfico de escravos. E diz que foram os portugueses a "estabelecer" este comércio…”
[2] Chouki El Hamel, Black Morocco: A History of Slavery, Race and Islam (Cambridge: Cambridge University Press, 2013).
[3] Eve Troutt Powell, Tell This in My Memory Stories of Enslavement from Egypt, Sudan, and the Ottoman Empire (Stanford: Stanford University Press, 2012).
[4] Bruce Hall, A History of Race in Muslim West Africa, 1600-1960 (Cambridge: Cambridge University Press, 2011).
[5] The following summary is taken from my book Black Morocco: A History of Slavery, Race and Islam (Cambridge: Cambridge University Press, 2013), 109-154.
[6] Muhammad Ibn Manzur, Lisan al-‘Arab (Cairo: Dar al-Hadith, 2003), vol. 4, 487; Lane, An Arabic-English Lexicon, vol. 4, 1303.
[7] Taqiyy ad-Din al-Maqrizi, al-Mawa‘id wa ’l-‘Itibar bi-Dhikr al-Khitat wa ’l-Athar (Beirut: Dar Sadir, 1974), vol. I, 200-202.
[8] ‘Abd ar-Rahman Ibn ‘Abd al-Hakam (d. 871), Futuh Ifriqiya wa ’l-Andalus (Cairo: Maktabat ath-Thaqafa ad-Diniyya, 1995), 222.