في الساعات الأولى من السابع عشر من كانون الثاني، ١٩٩١، بدأ القصف العنيف على بغداد وغير ها من مدن العراق. قصف استمرّ بشكل يومي، حتى نهاية الحرب.جاء صوت جورج بوش الأب، ليلتها، عبر الراديو الصغير، الذي كان وسيلة تواصلنا الوحيدة مع العالم الخارجي لأكثر من شهر ونصف، بغياب الكهرباء، ليعلن بدء تحرير الكويت. قال بوش الأب في تلك الليلة إن الخلاف ليس مع الشعب العراقي، بل إنّه ادعى حرصه عل المدنيين الأبرياء قائلاً «إنني أصلي من أجل سلامتهم». يصلّي الرؤساء الأمريكان كثيراً، خصوصاً قبل وأثناء حملات القصف. لكن تحرير الكويت لم يكن يستدعي أو يتطلّب تدمير البنية التحتيّة المدنية للعراق، و «إعادته إلى العصر ما قبل الصناعي» كما تبجّح جيمس بيكر، وزير خارجية بوش الأب وصديقه الحميم. ألقت ١٠٠ ألف طلعة جوية بـ ٨٨،٥٠٠ طن من القنابل (١٠٪ فقط منها «ذكية») قتلت آلاف العراقيين ودمّرت ١٣٤ جسراً، و ١٨ من ٢٠ محطة لتوليد الطاقة الكهربائية، و مجمعات صناعية، و مصافي النفط، و محطات تحلية المياه وتصريف المياه الثقيلة ومراكز الاتصالات و. . .وقدّرت مؤسسة اليونيسيف خسائر العراق الاقتصادية بـ ٢٣٢ بليون دولار. استخدم الجيش الأمريكي ذخائر تحتوى على اليورانيوم المنضب في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية مما أدى إلى انفجار في حالات اللوكيميا والتشوهات الولادية والسرطان، بالذات في جنوب العراق، بالإضافة إلى الإشعاع والتلوث البيئي. وكان الحرص على حيوات المدنيين واضحاً في مذبحة العامرية. كان العراق ومن فيه في تلك الحرب حقل تجارب لكل الأسلحة الجديدة وفرصة للأمريكان لكي يتخلصوا من كوابيس هزيمة ڤييتنام وهم يدشنون «النظام العالمي الجديد.»
في الخامس عشر من شباط، ١٩٩١، قال بوش في خطاب ألقاه في مصنع راياثون الذي ينتج صواريخ باتريوت: «هناك طريقة أخرى لوقف نزيف الدم، وهي أن يأخذ الجيش العراقي والشعب العراقي بزمام الأمور وأن يجبروا الدكتاتور، صدام حسين، على التنحي.» وحين انتفض العراقيون في آذار ضد نظام صدام، وقف العالم متفرجاً، بالطبع، أما الولايات المتحدة، فقد سمحت للنظام العراقي في اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعت في خيمة سفوان، باستخدام المروحيات العسكرية، التي ساعدت النظام في قمع الانتفاضة بوحشية ودفن عشرات الآلاف في مقابر جماعية، استغلها الأمريكان وحلفاؤهم فيما بعد، عام ٢٠٠٣، كدليل على وحشية النظام البائد. ولكنها كانت وستظل أيضاً دليلاً دامغاً على تواطؤ الولايات المتحدة مع النظام في جرائمه. فإشارة بوش في خطابه كانت للتشجيع على انقلاب عسكري وليس انتفاضة شعبية. وكان للولايات المتحدة، في عهد بوش، نصيبها المتوقّع من جرائم الحرب في موضع آخر سمي «طريق الموت» وهو الطريق رقم ٨٠ حيث تم قصف طابور العراقيين المنسحبين من الكويت لعشر ساعات من الجو بوحشية وتحويل من فيها إلى جثث متفحمة.
كانت العقوبات الاقتصادية قد فرضت على العراق في ٦ آب، ١٩٩٠، لإجبار النظام العراقي على الانسحاب من الكويت. لكنها لم تُرْفع حتى بعد تحرير الكويت. وبالرغم من الأدلة الواضحة، مبكّراً جداً، على أن هذه العقوبات، الأكثر قساوة وشمولية في القرن العشرين، لم تضر النظام بقدر ما كانت تستهدف المدنيين العزل، وتحرمهم من أبسط مقومات الحياة، وتحول حياتهم اليومية إلى جحيم، وأنّها قتلت مئات الآلاف من الأطفال، لكن الولايات المتحدة في عهد بوش، أصرّت على الإبقاء عليها. كانت العقوبات جريمة إبادة جماعية، وحرباً لا مرئية، كما سمتها الباحثة الأمريكية جوي غوردون في كتابها المهم عن الموضوع.
ما زال هناك من ينظر إلى بوش (والأمر ينطبق على الأب والابن) وجرائمه عبر التعارض الثنائي: «بوش-صدام». وبالنسبة لهولاء، بما أن الثاني مجرم وسجلّه معروف، فإن الأول، يجب أن يكون نقيضه، خصوصاً أنّه خاض حرباَ ضدّه. وهذا الاختزال السخيف، والمستخدم في سياقات أخرى، يهمل حقائق ووقائع واضحة وموثقة. جرائم الدكتاتور لا تلغي ولا تخفف من جرائم الإمبراطور. لكل منهما سجلّه وتاريخه الإجرامي في سياقه.
حين شرعت في كتابة هذه السطور كانت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الأمريكية قد بدأت بتأدية دورها التقليدي المتوقّع بعد موت أحد القادة. وهو تطويبه ومحو جرائمه، الخارجية والداخلية، لينضم إلى طابور من الرجال البيض الذين دافعوا عن القيم السامية وعن الحرية والإنسانية. (لا يتّسع المجال هنا للحديث عن سجل بوش المشين في السياسة الداخلية وعن العنصريّة التي وظّفها للفوز بانتخابات الرئاسة، وذكوريته وفضائح التحرّش.) ولا صوت ولا ذكر لمئات الآلاف من الذين ماتوا وسيموتون بسبب سياسات هذا الرجل وحروبه وجرائمه التي لن تمحى من ذاكرتنا.
قال جيمس بيكر، وزير خارجية بوش وصديقه، في حوار علي «سي إن إن» إن بوش سأله حين زاره قبل وفاته بساعات: إلى أين سنذهب اليوم؟ فأجاب بيكر: إلى الجنة يا رئيس. فقال بوش: حسناً. أريد أن أذهب هناك.
لا أؤمن بوجود الجحيم أو الجنّة. لكنني أعرف أين كان سيكون مكان بوش من بينهما.