ربما من غيرِ المفيد البدءُ بمسعى لتحديدٍ دقيقٍ لعناصر "صفقة القرن" المختلفة،على الرغم مما جرى تناقلُهُ في وسائل الإعلام عنها، وما أضيف إليها أو ألصق بها بعد كل تصريحٍ جديدٍ للرئيس الأميركي دونَلد ترَمب، أو أحدِ مستشاريه، وذلك لسببين: أولاً،أنه لم يجرِ الإعلانُ عنها رسمياً. ثانياً، وهو الأهم، أنه، في تقديري، يجب أن نفترضَ أن هذه الصفقةَ قابلةٌ للإضافة أو الحذف، بحدودٍ معينة، بفعلِ المداولات والمشاورات وردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية أيضاً.على الرغم من هذا، سأقترحُ أن جوهرَ هذه "الصفقة" يكمنُ في جانبين: العودةُ إلى مسار تفاوضي جديد بمقوماتٍ، إلى حد ما، مقبولةٍ إسرائيلياً، وإيجادُ تهدئةٍ طويلةِ الأمدِ في قطاعِ غزة، مع تحسينِ شروطِ المعيشةِ فيه؛ منعاً لأي انفجارٍ جديدٍ بفعلِ ظروفِ الحياة غير الإنسانية فيه.
وأقول "إلى حدٍّ ما مقبولة إسرائيلياً"؛لأن هناك أحزاباً ممثلةً في الحكومة الإسرائيلية لا تريد أي مسار سياسي مهما كان، نظراً لأن الوضعَ الراهنَ مناسبٌ تماماً مرحلياً من وجهة نظرها. فالمشروعُ الصهيونيُّ مستمرٌ على قدمٍ وساق من ناحيةِ سرقةِ الأرضِ في الضفةِ الغربية، بعد أن اكتمل فيما يتعلق بالأرضِ في مناطق الـ48. وهم يخشَوْن أن أيَّ مسارٍ سياسيٍ قد يؤدي إلى التخلي عن أجزاءٍ من الضفةِ الغربيةِ لصالحِ السلطة الفلسطينية مهما كان حجمُهَا.
أما موضوعُ نقلِ السفارةِ الأميركية إلى القدس، فيمكنُ النظرُ إليه بشكل مستقل عن "الصفقة"، أو تمهيداً لها إرضاءً لقوى اليمينِ في إسرائيل، أو تلكَ داخلَ الولاياتِ المتحدة، أو الاثنينِ معاً، والأمرُ هنا، إلى حد ما، مسألةُ تعريف. كذلك الأمرُ بالنسبةِ إلى إيقافِ الدعمِ عن الأونروا، ومسعى تقليصِ عدد اللاجئينَ الذينَ تعترفُ بهم الولايات المتحدة. أما مسعى إيجادِ تحالفٍ علنيٍّ بينَ إسرائيلَ وعددٍ من الدولِ العربيةِ في مواجهةِ إيران خاصةً، فيمكن النظرُ إليه على أنه من التبعاتِ المنشودةِ للصفقة، أو من أهدافِها، دونَ أن يكونَ جزءاً من الصفقة. وفي كل الأحوال، كما أشرتْ، هذا إلى حدٍّ ما مسألةُ تعريف.
(1)
وسأبدأُ بما هو أهم في نظري، بنوعٍ من الإطارِ التحليلي الذي قد يوفرُ تفسيراً لمسعى إدارة ترَمب لإيجادِ حلٍّ ما للصراعِ الفلسطيني الإسرائيلي، لعله يربطُ عدداً من الخيوط بعضها ببعض. وتشكل الانتفاضاتُ والثوراتُ العربيةُ التي بدأت في تونس في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، وبخاصة ثورةَ 25 يناير 2011 في مصر، نقطةَ انطلاقي هنا؛ ذلك أن خشيةَ عددٍ من الدولِ العربيةِ من انتقالِ هذه الانتفاضاتِ إليها أمرٌ معروف، وبخاصةٍ بعد اندلاعها في مصر. وقد شكلتْ عددٌ من الدول العربية الركنَ العربيَّ من الثورةِ المضادة، أهمها المملكةُ العربيةُ السعودية، ودولةُ الإمارات. وقد راقبتْ السعوديةُ بدقة مسارَهَا وتطورَهَا، وبخاصةٍ في مصر، بما في ذلك موقفُ إدارةِ الرئيسِ أوباما مباشرةً بعد اندلاعها.
وقد حصل تطورٌ تدريجيٌ في موقفِ إدارةِ أوباما خلال عشرةِ أيامٍ أو ما يقارب ذلك بعد 25 يناير، وانتقالٌ متدرجٌ من الدعوةِ إلى المحافظةِ على "الاستقرار"، إلى الدعوةِ إلى مغادرةِ مبارك لمنصبه. وقد شكلَ هذا الموقفُ الأخيرُ غضباً كبيراً في عددٍ من الدولِ العربية، وبخاصة في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ التي كان ردُّ فعلِهَا حنقاً وسخطاً كبيرين يشوبهما الهلع، "لتخلي" الولاياتِ المتحدة عن "أصدقائها"، بعد أن كان التصورُ عن هذه "الصداقة" أن المطلوبَ منها أساساً أن توفرَ الحمايةَ لهذه الأنظمة، وتضمنَ ديمومتَهَا وأمنَهَا. وقد خرجَ عددٌ من الناطقين بلسانِ النظامِ في السعودية، بما في ذلك جوقةٌ من الكُتَّابِ في الصحفِ الممولةِ سعودياً، خرجوا علناً في نقدهم لموقفِ إدارةِ أوباما، في سابقةٍ ليست معهودةً كثيراً في تاريخِ هذه العلاقة.
أنا أتحدثُ، هنا، عن الفترة ما بين 25 يناير واعتزالِ مبارك في 11 شباط/فبراير، وما بعد ذلك، وبخاصةٍ أن السعوديةَ عرفت أن عزلَ مبارك تمَّ بالتنسيقِ بين الولاياتِ المتحدةِ والمجلس الأعلى للقواتِ المسلحة، كضرورةٍ لا بدَّ منها للسيطرةِ على الثورة، الأمرَ الذي أتمَّهُ المجلسُ الأعلى للقواتِ المسلحة بعد ذلك من خلالِ خارطةِ طريقٍ رَسمَتْ معالمَهَا "الإعلاناتُ الدستورية"، وانتهاءً بالانقلابِ على الرئيسِ مرسي، وبعد ذلك على شبابِ الثورة. وكانت السعوديةُ والإماراتُ خلال فترة تزيد على عامين، وحتى الثالث من تموز/يوليو 2013، وما بعد ذلك أيضاً، كانتا طرفاً في الثورةِ المضادةِ بتمويلٍ سخيٍّ للنظامِ كما هو معروف.
لم يكن هذا السببَ الوحيدَ في عدمِ رضا السعودية عن سياساتِ الولاياتِ المتحدة في المنطقة، وبخاصةٍ فيما يتعلقُ بإيران، بما في ذلك قيادةُ إدارة أوباما المفاوضاتِ التي انتهت بتوقيعِ اتفاقيةٍ في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، بين الأعضاءِ الدائمينَ الخمسةِ في مجلسِ الأمن زائد ألمانيا والاتحادِ الأوروبي، مع إيران. فإضافةً إلى الثورةِ في مصر، تطابقَ هذا، أيضاً، مع موقفِ إسرائيلَ من الاتفاقِ مع إيران، التي ناهضتْ أي اتفاق منذ بدأتْ المفاوضاتُ في العام 2006. وفي العام 2010، كانت إسرائيلُ، بقيادة نتنياهو، على وشكِ قصفِ إيران، وقد أفشلَ هذا المسعى عددٌ من قيادات جيشه في حينه.[1]
وفي مسعى لرأبِ الصدعِ مع السعودية تحديداً، قام الرئيس أوباما بزيارتها في نيسان من العام 2014. وكانت زيارةً باردة، سعى أوباما من خلالها إلى التأكيدِ على دور الولاياتِ المتحدةِ في "تأمينِ أمنِ المنطقة"، كما قال، أي حمايةَ الأنظمةِ التي فقدتْ الثقةَ بالولاياتِ المتحدة بعد عزلِ مبارك، وبعد الاتفاقِ مع إيران حول الملفِ النووي.[2] وأصبح من الواضحِ أن هذه الأنظمةَ في حاجةٍ إلى حليفٍ آخر قويٍّ لغرضِ هذه الحمايةِ دون ضرورةِ التخلي عن الولايات المتحدة. لكن سياسةَ أوباما في المنطقة، بما في ذلك في سوريا، زعزعتْ هذه الثقةَ إلى حدٍّ كبير. وبدا أن إسرائيلَ قادرة ،إلى حد ما،على أن تقومَ بهذا الدور.
هذا التطابقُ في المواقفِ بين مصالحِ عدد من الأنظمةِ العربية، وبخاصةٍ في الخليج العربي، وإسرائيل، تَعَزَّزَ بعد انتخابِ الرئيسِ ترَمب. وكانت السعوديةُ قد خرجتْ علناً حول حاجتها إلى تقاربٍ أوثقَ مع إسرائيلَ من خلال زيارةِ وفدٍ بقيادةِ الجنرالِ المتقاعدِ أنور عشقي إلى إسرائيل في تموز 2016 عشيةَ الانتخاباتِ الرئاسيةِ الأميركية. وكانت إحدى الرسائلُ الأساسيةُ التي تم إيصالُها في اجتماعاتٍ عدة مع مسؤولين إسرائيليين وأعضاء كنيست، أن هذا التقاربَ، والتطبيعَ مع الدول العربية عامةً، يلزمُهُ حل للصراع مع الفلسطينيين.[3] وكانت السعوديةُ ودولةُ الإماراتِ في الفترةِ نفسِها على تواصلٍ مع عددٍ من مستشاري ترَمب لغرضِ التأثيرِ على سياساتِ إدارة ترَمب المستقبليةِ فيما يتعلقُ بإيرانَ والموضوعِ الفلسطينيِّ أيضاً. وبحسبِ أحدِ المصادر، مع زيارةِ ترَمب إلى الرياض في أيار 2017، كانت المعالمُ الرئيسيةُ للخطة التي سُمِّيت بـ"التحالفِ الاستراتيجيِّ للشرقِ الأوسط"، والتي تضمنتْ "صفقةَ القرن"، قد تم الاتفاقُ حولَهَا بين جاريد كوشنير ومحمد بن سلمان. وقد قال محمد بن سلمان لأحدِ الزائرينَ الأميركيين في وصفها: "سأتولى أنا أمرَ الفلسطينيين، وسيتولى ترَمب أمرَ الإسرائيليين".[4]
(2)
أشرتُ سابقاً إلى أنه يمكن اعتبارُ مسعى إيجادِ حلٍ سياسي ما، وتهدئةٍ طويلةِ الأمدِ مع غزة، العنصرين الأساسيين في صفقةِ القرن. ويمكن اعتبارُ نقلِ السفارةِ الأميركية إلى القدس، ضمن "تولي أمر الإسرائيليين" حسبَ قولِ محمد بن سلمان، أُضيفَ إلى ذلك لاحقاً، إيقافُ دعمِ الولاياتِ المتحدةِ للأونروا، ومسعى إلغاءِ وجودها، وتقليصِ عددِ من تعتبرهم الولاياتُ المتحدةُ لاجئينَ من بين الفلسطينيين. أما الجانبُ المتعلقُ بالمسارِ أو التسويةِ السياسية، فقد جرى إفشالُه حتى الآن بسببِ رفضه من الجانبِ الفلسطيني. أما الشق المتعلق بقطاع غزة، فبان في البداية أنه قابل للتنفيذ باستقلال عن المسار السياسي، وبخاصةٍ أن عدداً من عناصره، بما في ذلك التهدئةُ طويلةِ الأمد، كانت جزءاً من تفاهمات 2014 بعد العدوانِ في حينهِ على قطاعِ غزة.
لكن، حتى الآن، لم يتم التوافقُ على شروط المصالحةِ المطلوبةِ للتهدئة طويلةِ الأمد التي يتفقُ الطرفان الفلسطينيان على أنها ضرورية، ولأسبابٍ غير واضحة تماماً. والسؤالُ هنا هو: ما هو المقصودُ بالمصالحة؟ إذا كان المقصودُ هو آخرُ اتفاقيةٍ رسميةٍ مفصلةٍ من اتفاقياتِ القاهرة، تلك الموقعةُ في العام 2011، التي طلبَ أحدُ الناطقين بلسانِ حماس العودةَ إليها بعد فشلِ المحادثاتِ الأخيرةِ حسب ادّعاءِ أحد أعضاءِ اللجنةِ المركزيةِ لفتح،[5] فإن بنوداً أساسيةً منها غير قابلةٍ للتطبيق كما يعرف الطرفان. وأشيرُ إلى ثلاثةٍ منها بإيجاز: 1.دمجُ الأجهزةِ الأمنيةِ في الضفةِ والقطاع. ومن الجليِّ أن هذا غيرُ ممكن في الضفة لأن إسرائيلَ ستعتقلُ من تنسبهم حماس لهذا الغرض. 2.إصلاحُ منظمةِ التحريرِ الفلسطينية، بحيث تنضمُ حماس إليها. ومن المرجحِ أن النتيجةَ ستكونُ إعلانَ منظمةِ التحريرِ منظمةً إرهابيةً من قبل إسرائيلَ والكونغرسِ الأميركي، ولن تقبلَ السلطةُ الفلسطينيةُ هذا. وستشكل هذه الخطوة بداية صراع مفتوح مع إسرائيل والولايات المتحدة، وقد أحجمت السلطة الفلسطينية عن هذا حتى الآن. 3.إجراءُ انتخاباتٍ نيابيةٍ ورئاسية. لا توجدُ أيُّ ضمانةٍ أن إسرائيلَ لن تعتقلَ مرشحي حماس قبل الانتخاباتِ أو بعدها، كما فعلت قبلَ انتخاباتِ 2006 وبعدها. ولا توجدُ أيُّ ضمانةٍ أن الحكومةَ الإسرائيليةَ الحاليةَ ستسمحُ بمشاركة الفلسطينيين في القدسِ كما تم سابقاً، ولن يُقبلَ أن تُعقد انتخاباتٌ دونهم.
وإذا صحَّ أن موقفَ فتح، حسبَ قولِ عضو اللجنة المركزية لفتح محمدِ اشتية، هو تنفيذُ تفاهماتِ أو اتفاقِ تشرين الأول/أكتوبر 2017، فمن غيرِ الواضحِ أن السلطةَ الفلسطينيةَ فعلاً تريد ذلك. فالاتفاقيةُ في بندها الأول تنصُ على "تمكينِ حكومةِ الوفاقِ الوطنيِ من ممارسةِ مهامها، بشكلٍ كامل، والقيامِ بمسؤولياتها في إدارةِ القطاع كما الضفةِ الغربية".[6] وهذا لا بد أن يتضمنَ تولي كافةِ المسؤوليات "الأمنيةِ" في القطاعِ أيضاً. وقد أوضحَ أبو مازن ما هوَ المقصودُ في خطابِهِ أمامَ المجلسِ الوطنيِ الذي انعقدَ بينَ 30 نيسان/أبريل و3 أيار/مايو 2018، إذ أشارَ إلى الجانبِ الأمنيِّ بقوله إن السلطةَ يجبُ أن تتولى مسؤوليةَ ما هو "فوقَ الأرضِ وتحتَ الأرض".ولكن من غيرِ الواضحِ أن السلطةَ الفلسطينيةَ تريد فعلاً هذا، أو أنها قادرةٌ علية. وتكفي هنا الإشارةُ إلى أن إسرائيلَ ستحمِّلُها مسؤوليةَ أيِّ صاروخٍ يُطلقُ من قطاعِ غزة كما تفعل الآن مع حماس، بغضِ النظرِ عمَّن قامَ بذلك. ومن غيرِ الواضحِ أنها قادرةٌ على تحمُّل هذه المسؤوليةِ التي أعيتْ حماسَ في الكثيرِ من الحالات. هذا إضافةً إلى ما هو متوقعٌ من طلباتٍ أخرى ولو بعد حين، مثل إغلاقِ أي مصانعَ موجودةٍ لصنعِ القذائفِ المحلية، وانتهاءً بجمعِ الأسلحةِ من الفصائلِ والمجموعاتِ المسلحة كافة كما هو الأمر في الضفة الغربية. وتضافُ إلى كل هذا، مسؤوليةُ إعادةِ إعمارِ القطاع، وجلبِ الكهرباءِ والماء، وإيجادِ فرصِ عمل، وأعباءٌ أخرى من النوعِ الذي تنوءُ بحملِهِ السلطةُ في الضفةِ الغربيةِ أصلاً، مضافاً إلى ذلك نقلُ توقعاتِ الجمهورِ في قطاعِ غزةَ المتعلقة بالإعمار والبطالة والمياه والكهرباء ومساحة الصيد في البحر، من بين أمور أخرى، نقلها إليها بدلاً من حماس.
(3)
إزاءَ توقفِ مسارِ التهدئة في قطاعِ غزَّةَ وإعادةِ البناء، أيْ ما اقترحتُ أنه الشقُّ الأول من صفقةِ القرن، من غيرِ المستبعدِ أن تتمَّ محاولةٌ أخرى من قِبَلِ إدارةِ ترَمب للضغطِ على السلطةِ الفلسطينية للذهابِ إلى مسارٍ سياسي باتخاذِ إجراءاتِ إضافية ضدها، وبخاصةٍ بعد فشلِ محمد بن سلمان في "تولي أمرِ الفلسطينيين". لا توجد مؤشراتٌ واضحةٌ بهذا الاتجاه، ولا يمكنُ الركونُ إلى تصريحاتِ ترَمب كمؤشرٍ لخطواتٍ قادمة، منها ما قاله في الأممِ المتحدةِ في أيلولَ الماضي من أنه سيعلنُ عن تفاصيلِ الخطةِ خلالَ ثلاثةِ أشهر، أو أنه يفضلُ قيامَ دولةٍ فلسطينيةٍ كما قال. وفي المدى الأطول، إذا قُيِّضَ لترَمب كسبُ ولايةٍ أخرى، ربما ليس من المستحيلِ أن تتم العودةُ إلى الجانبِ السياسيِ في صفقةِ القرن، وبخاصةٍ في مرحلة ما بعد أبو مازن، إن أتتْ خلال هذه الفترة، بوجود قيادةٍ أضعف لها مصلحة في بقاءِ السلطة، تقريباً بأيِّ ثمن، كما هو الوضعُ الحاليُّ الآن لدى أوساطٍ واسعةٍ في السلطةِ الفلسطينيةِ وفي القطاعِ الخاص.
غير أن القضيةَ الأساسيةَ الماثلةَ أمامَ الفلسطينيين اليومَ لا تتعلقُ بالمصالحة، على أهميتِها، أو بصفقةِ القرن، على خطورتِها؛ ذلك أن المشروعَ الصهيونيَّ مستمرٌ على قدمٍ وساق، الآن في الضفةِ الغربية، بعد أن تُمِّمَ هذا المشروعُ من ناحية الأرض في مناطق الـ48. فالاستيطانُ مستمرٌ، وسرقةُ الأرض والمياه والمصادر الطبيعية مستمرة. نظامُ فصلٍ عنصريٍّ يترسخُ يوماً بعد يوم: طرقٌ مستقلةٌ للمستوطنين، نظامٌ قانوني لهم مستقلٌ عن الأوامر العسكرية، حصصٌ في المياه أضعافَ ما يحصلُ عليه الفلسطينيون، فصلٌ جغرافيٌّ وعدمُ تواصلٍ بين مناطقِ التجمعِ السكانيةِ الفلسطينية، حريةُ حركةٍ وتواصلٍ بالطرقِ بين المستوطناتِ ومناطقِ الـ48، ... وهكذا. كلُّ هذا وتبدو السلطةُ الفلسطينيةُ مستكينةً لهذا الوضع، لا حولَ لها ولا مبادرة سوى رفضِ التعاملِ مع الولاياتِ المتحدةِ بعد نقلِ السفارةِ إلى القدسِ مؤخراً، على أهميةِ ذلك. فهي تخشى اتّخاذَ خطواتٍ جريئةٍ أخرى حتى لا تدخلَ في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع إسرائيلَ والولاياتِ المتحدة، وتضعُ حياتَهَا نَفْسَها على المحك. ولعلَّ ما تخشاهُ السلطةُ، أيضاً، هو فتحُ ملفاتِ فسادٍ كما حصلَ في العام 2011 قبل توقيعِ اتفاقيةِ القاهرة، لرأبِ الصدعِ الداخليِّ المشارِ إليها سابقاً، بتزامنٍ يصعبُ أن يكونَ من بابِ المصادفة. فقد قامتْ لجنةٌ فرعيةٌ منبثقةٌ من لجنةِ الشؤونِ الخارجيةِ لمجلسِ النوابِ الأميركي بعقد جلساتِ "استماع" حولَ الفسادِ في السلطةِ الفلسطينية، وأصدرت بعد ذلك تقريراً حول الموضوع كان عنوانه "الفساد داخل الطبقة السياسية الفلسطينية"، جرى التعرض فيه إلى عدد من الأشخاص بالاسم.[7] ويمكنُ قراءةُ هذا التقريرِ على أنه إنذارٌ لما يمكن أن يكونَ قادماً في ظروفٍ أخرى.
ما هو ضروريٌ الآن، إذاً، قبل رأبِ الصدعِ الداخلي الفلسطيني، والذي هو أسبقُ منطقياً على المصالحة، إذا كان حلُّ الدولتين قد انتهى، هو تفكيرٌ تفصيليٌ معمق في الخياراتِ الممكنة، لوضع برنامجٍ سياسيٍ جديد، أو استراتيجيةٍ جديدةٍ للأمدين القريب والبعيد، تكونُ هي أساساً للمصالحة. دون ذلك، لن تتعدى المصالحةُ تقاسمَ الحصصِ بالطرقِ السابقة البائسة. لا يوجد مغنمٌ في تقاسمِ سلطةٍ تحت الاحتلال، ولا يوجد ربعُ قرنٍ آخرُ للمفاوضات، تستكمل فيه إسرائيلُ المشروعَ الصهيونيَّ في ما تبقى من فلسطين. لقد وصلت السلطةُ الفلسطينيةُ إلى نهايةِ الطريق؛ وصلتْ إلى الطريقِ المسدود للمرة الرابعة على الأقل، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز/يوليو من العام 2000، وفشل مفاوضات طابا في كانون ثاني/يناير 2001، وفشل مفاوضات أولمرت-عباس في نهاية العام 2007، وفشل جولات كيري المكوكية في العام 2014، ولم تستخلص أية عبر حتى الآن، ولا تصور لها حول المستقبل، سوى مسعى البقاء من أجل البقاء.
هوامش
[1] Anshel Pfeffer, “The Israelis who Prevented a War with Iran,” Foreign Policy, May 11, 2018. Accessed October 11, 2018.
[2] Martin Chulov, “Is America's relationship with Saudi Arabia broken beyond repair?,” The Guardian, March 28, 2014. Accessed October 11, 2018.
[3] Tovah Lazaroff, “Saudi Delegation to Israel: Ending Palestinian Conflict Critical for Ties with Arab States,” The Jerusalem Post, July 24, 2016. Accessed October 11, 2018
[4] Adam Entus, “Donald Trump’s New World Order”, The New Yorker, June 18, 2018. Accessed October 11, 2018.
[5] صوت فتح الإخباري، 30 سبتمبر 2018. دخول بتاريخ 12-10-2018.
[6] قدس الإخبارية، 14-10- 2017. دخول بتاريخ 12-10-2018.
[7] http://archives-republicans-foreignaffairs.house.gov/112/74960.pdf . Accessed October 11, 2018.