صمتٌ وجيز، تحت سماء بيروت التي تستضيء أطرافها بحرائق خفية عند انقطاع الكهرباء، أوهمك فيه هديرُ المولّدات وارتجاجُ زجاج الشبابيك بأن شارع الحمرا سيقلع بمقاهي أرصفته وتاريخ مبانيه، بصحافييه ومتذمّريه وجماله وألفته، آخذاً معه العمود الذي ربط إليه رفيق شرف جواده أمام الهورس شو، وكشك الجرائد مقابل كوستا، ولافتات وسترن يونيون الذهبية، ومناقيش زعتر وزيت، والنجوم النحاسية التي كنت تدعسها بخفّك الرياضي بعد أن غرزتها سوليدير في حجارة الرصيفين منقطعي النظير في بيروت، واستمرّ الشارع في انزلاقه هبوطاً إلى عُباب المتوسط ليقلع من رأس بيروت كباخرةٍ محمَّلة بالنازحين سيشحنها إلى نيويورك الحكيم سمير فريد جعجع، صاحب الكنية التي تهاب سماعها، ويعاونه على دفش الباخرة الفينيقية إلى عرض البحر كتيبةُ سائقي سيارات الأجرة في القوات اللبنانية، وأرتالٌ طويلة من شبّان اصطفّوا في عرض هذا الشارع نفسه، اصطفافَ الجند في خندق، وفوق رؤوسهم ترفرف رايات الزوبعة الحمراء. كنتَ شاباً أيضاً، نزّ شبابك كجرح في الأحشاء وأنت تمضي يوم نحسك الوحيد الطويل، منهمكاً بمخاوف تكاد لا تعني أحداً بعينه، محرقاً سنواتك الأخيرة التي ذوّبتك في بيروت، سيان سنةٌ واحدة أو ستّ سنين ما دمت قد تجنّبت على الدوام شروراً شمّتها غرائزك لتعيدك، مرة تلو مرة، إلى خوفٍ لم يبارحك البتة، وأحسست به دائماً في لحم جسدك، يشتدُّ أو يخفت ولكنه أبداً ما اختفى تمام الاختفاء، فإذا توارى لبثت بقاياه في وجيب قلبك، واختلطت ظلاله بيقظتك ومشيتك وشحوب تعبك ورغباتك.
تعلّمتَ باكراً إن البضاعة الرخيصة طويلة العمر، ولا تنكّد عليك بالحرص، ولا بالحسرة إذا صُودرت أثناء توقيفك وتفتيش حقيبتك، أو إذا ضاعت ففرح بها غيرك على الرصيف كلُقية أو علامة حظّ. كالمتطيرين، احتميتَ بقداحة صينية سمّيتها القرداحة، مصباحها كالحباحب في مؤخرتها، وقد رأيتَ في المخيمات، أكثر من مرة، طفلاً يضع في فمه مثل هذه القداحة، المسماة فانوس اللوزات، ثم يضغط زرّ المصباح رافعاً في نفس اللحظة مؤخرته العارية، كأنّ أنبوبه الهضمي نفقٌ والضوء يسافر فيه عبر ظلام أحشائه ليبزغ من فتحة شرجه وينير الخيمة الجرداء، حيث الآباء الحيارى يأكلون الهواء والأبناء المرضى يأكلون الضوء.
كانت قرداحتك قد فرغت منذ سنين، ولم تقوَ على رميها، مثلما عجزت عن التخلص من أشياء كثيرة لا لزوم لها تكدّست في حوزتك سراً، كقلم حبر تهديه محارم ديمة إلى الزبائن أمثالك، أو بطاقة يانصيب معرض دمشق الدولي جميلة التصميم منتهية الصلاحية فيها وعلان يتألمان تحت سوط بابا نويل في السماء، وهذه أشياء أثيرةٌ لديك لأنها بعضُ ماضيك، وأحدها تعويذتك القرداحة التي لا تُعيرها ولا تريها لأحد، غلّفها صينيون ببلاستيك فيروزي اللون وزوّدوها بصورةٍ مقلوبة وأصغر من زرّ في ثوب دمية، كنت تتملّاها تعوم في بئر مصغَّر من غاز قطر السيّال، وإذا ضغطتَ الزرَّ، جاهلاً أين البطارية وكم ستدوم، ارتسمتْ على حائطك هالةٌ من النور تطوّق شبحاً باهتَ الألوان هو سماحة السيد حسن نصر الله، وكنتَ تمرّن نفسك على هاتين الكلمتين "سماحة السيد" لكيلا يزلّ لسانك بنطق اسمه مجرَّداً من أي لقب، أينما كنتَ، ولأي سبب اقتضى المجاهرة به على الملأ، حتى لو كان المقصود بهذه الكنية المركبة "نصر الله" هو عائلة من "الإخوان المسيحيين" بعض أبنائها متطوّعون في الأمن العام.
الحيطة ليست غريبة عنك بأية حال. لقد رافقتك من دمشق التي غادرتها هارباً، وتعمّقت هنا، ضاربة جذورها تحت جلدك في مأوى بيروت، حيث عشتَ في غرفة باهظة الإيجار تطلّ على شارع الحمرا، وتركتَ زرّ الجرس فارغاً من اسمك، محترساً لكيلا يتعرف إليك أحد من الجيران وضيوفهم وكلُّ الذين يتجاهلونك ويستريبون بك ولا يبادلونك التحية على السلالم والعتبات ويصفقون الأبواب عند ظهورك فتخفض زفيرك، ولا تملك ردّاً على أي شيء.
وقفتِ الكلمات حاجزاً موجعاً بينك وبين حياتك اليومية في بيروت، تسمع "لا تعمّم"، فترى عمائم سوداً على رؤوس فزاعات، وتسمع "يا عدرا"، فتفكّر بأمٍ تزورُ وحيدَها في سجن عدرا. لفرط ما انزويتَ، متخيّلاً ما يقع على رؤوس أترابك من مصائب، عشتَ كلَّ ما جرى لهم حقاً وانتحلتَ ذكرياتهم وكأنها جزء من ماضيك. مقتصداً في المصاريف على الدوام، ظللت تحتاط من الغشّ والاحتيال. مخاوفك وتقديراتك، والحرص على عدم الظهور مخدوعاً، انتهت بك إلى نسيان مصائب الآخرين وطيبتهم. حاولت أن تتعلم فنَّ المساومة ولم تطبّقه قط، وكنت تؤنّب نفسك في البداية لأنك لا تطيق الاحتجاج على مَن يخدعك، بل قد ترغب في إفراغ جيوبك كلها على طاولة أي محل من محلات الموبايل أو أي بقالية، والخروج من دون أن تشتري شيئاً. التسوّق البسيط محنةٌ أحياناً أو مجابهة، حيث ينقبض قلبك مرتقباً السؤال عن المكان الذي أتيتَ منه في سوريا، وأنّى لوحيد مثلك أن يمحو وصمة لهجته التي تدينه وتعيقه، حتى بين السوريين أنفسهم، ومن أين لك بالنقود قرون الرجال والمعارف المتنفّذين وصيت العائلات العريقة، وأنت مجرد شابّ آخر، أهانته صفاته وسحقته كما تُسحَق أعقاب السجائر، فلسطيني أو سوري، نكرة على الحدود في العتمة الخانقة عند بوابة المصنع.
أحياناً، عند تجاوز المكيّفات لطاقة المولّدات وانقطاع الكهرباء عن ليلك في صيف بيروت، كنتَ تستخرج قرداحتك من جيبك الخاوي، منشرحاً لأنها لم تنفجر من تلقائها في الحرّ، كشقيقاتها من بضائع الصين، لتحرق عانتك وتُخصيك، وكنتَ، ذات مرة، على وشك أن ترميها لتنفجر بدورها حين سدّد شبّان قدّاحاتهم الرخيصة من أسطح البنايات على الأرصفة احتفالاً بدخولهم الدقيقةَ الأولى من السنة الجديدة في عين الرمانة، وكان أحدهم يصيح: "في البدء كان الكلمة؟ في البدء كان الانفجار! نوراً، منيّاً.."، ثم تردّدتَ، جرياً على عادتك في التردّد أمام كل ما تجاري به الآخرين، فنجت التعويذة من تقلبات مزاجك لتضيء رصيف أيامك بنور الهداة المنتَظرين، وتسدّد خطاك بصورةِ حسنٍ نصرَه الله ليربح الموتَ حسنٌ آخرُ، شابّ فلسطيني في الخامسة والعشرين من عُمره. كنتَ تنقّل الصورة المشرقة، هالة قديس شاحبة شحوب البدر في تمامه، كأنك مهندس إضاءة يكلّل الراقصين على الخشبة ببقعة ضوء، تتضاءل عند اقترابها من أي سطح لتستحيل نقطة قرمزية كبؤبؤ سكران في صورة فوتوغرافية، أو كشعاع ليزر يسدّده مراهقون على مؤخرة فتاة. وإذا اتسعت المسافة بين المنبع والمسقط كبُرتْ صورة "سماحة السيد" وتغبّشت واضمحلّت، كما شهدتَ تحت مصابيح الكورنيش عند حلول المساء، حين استطعت أن تسقطها على زبد الموج لتتماهى معه، متحاشياً إسقاطها على الزبالة الطافية التي تلامس الصخور وتنتهي عند حصر تفترشها عوائل سورية مهجَّرة يدخّن رجالها الأراكيل أمام البحر، هذه الصورة التي أخافتك أكثر حين وقعتْ على جرذٍ قفزَ من طوق الضوء كحيوان في سيرك وتوارى، ولحظتئذ، أو بالأحرى، طوال ذلك الوقت كله، كنت تخشى مَن يظهر فجأة ليستوقفك ويشبعك ضرباً، من دون داعٍ، أو بسبب ما لا يُحصى من الدواعي، ثم يتمّ ترحيلك وتُصادَر أوراقُك وتُمنع من دخول لبنان مدى الحياة، أو تخافُ من يلاحقك في العتمة وأنت تستعجل الصعود إلى غرفتك، مصلّياً كيلا ينفتح أي باب ولا يراك أحد من سكان البناية وجهاً لوجه، فترتطم بعبوات ماء "صنّين" الفارغة المصفوفة في الممرات، وتفزعك الجلبة قبل أن تلاحظ إن مَن لاحقك قد اختفى، وربما سامحك لأنك كفرتَ وأهنتَ سماحة السيد حين مرّرْتَ صورته هكذا بوقاحة الجاهل فوق القمامة التي لا مناص منها والأكتاف العارية لمدخّني الأراكيل أمامها، ومرّغتَ الطهارة بنجس الأحذية وسفور المتنزّهات الهابطات من الأشرفية إلى البحر بصحبة كلابهنّ التي تجيد فَهْم الفرنسية ولا تتكلّمها، فتفكّر بالعجوز الذي شاهدته يجوب زواريب الحمرا، مفتّشاً في نفايات الأوراق عن اسم الله، فيقصّه أينما رآه ويقبّله ثلاثاً كأنه كسرة خبز، ثم يضعه برفق داخل كيس يضم قصاصات أخرى مشابهة، قبل ذهابه لدفن الأسماء الحسنى في بئرٍ بحرش بيروت، مغتبطاً وفخوراً بإنقاذ المقدَّسات.
"ادفَعْ تبقَ"، هذه هي القاعدة هنا، تقول وأنت ترقب مكروهاً آخر يأتيك من خلف ظهرك لأنك في استعجالك نسيتَ صعود السلالم طاوياً كلَّ درجتين بخطوة واحدة، محصياً عدد الدرجات كمن يدرأ شرّاً مجهولاً. هل خشيتَ أن قولك في البقالية "عبوات الماء" بدلاً من "ربطة القناني" يشي بمنبتك وقد يظنّه البقّال اعتياداً منك على "العبوات الناسفة"؟ تحملق بالظلام كما حملقت بخيط الماء الأخير الذي نحل في فم الصنبور حتى تلاشى، ولشحّ نقودك لم تجرأ على الاتصال بصهاريج "شارل" للمياه لتعبئة خزّانك. كم توجست، عند وصولك إلى عتبة بابك، وأنت تدير مفتاحك الوحيد في أقفال الآخرين، خائفاً من أن ترى أغراضك كلها، على قلّتها، مبعثرة على الأدراج أو مكوَّمة وحدها في انتظارك، كما يكوّم طلبة المدينة الجامعية أمتعتهم في الممرات التي احترقت مصابيحها حين تغزو الصراصير غرفهم، فتجلس وسط أغراضك المرميّة، موقناً إن هناك من يتلصّص عليك عبر العيون الساحرة للأبواب، وتدخّن سيجارة سيدرز في العتمة. وإذ أوصدتَ الباب خلفك، وارتميتَ على سريرك الذي تمنحه للضيوف إذا زاروك، انتبهتَ إلى أنك كنت قد نسيت كيف تسترخي، وكما تفعل حين يلفّك الظلام ويجافيك النوم، استغرقتَ في إحصاء الديون الصغيرة وفهرسة المنن التي أثقلت مشيك، وأنت تسلّط ضوء قرداحتك على الفسفس الذي تكنّى باسمه صغارُ المخبرين، مسطَّحاً كحبة عدس لا يسحقها إلا الهرس، بقّ الفراش الذي شمّ زمرة دمك ولاحق رائحتك كالجرو من بيت إلى بيت وتخفّى في ثنايا أمتعتك وباض عليك وعلى أغلفة كتبك، الحشرة دائرية الشكل التي كنت تراها داخل الهالة الصغيرة لسماحة السيد تدور على ذراعك مائة وثمانين درجة لتتبرّز كناكرِ الجميل في موضع امتصاصها لدمك.
[قُرئ هذا النصّ ضمن ملتقى "مينا" الذي نظّمته مؤسسة "اتجاهات-ثقافة مستقلة" في بيروت، ويصدر قريباً ضمن كتاب "البحث عن مدننا في مدنٍ ومنافٍ أخرى" لدى دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع].