بخلاف القصة السابقة، صراع گلگامش وخمبابا، التي امتدّت أكثر من ثلاثة ألواح (أي أكثر من ربع الملحمة)، تبدأ قصة گلگامش وعشتار وتنتهي في اللوح السادس، وهو أحد أقصر ألواح الملحمة. ومع أنّ القصة مكتفيةٌ بذاتها، إلا أنّ بدايتها ترتبط بنهاية القصة التي سبقتها، ونهايتها ترتبط ببداية القصة التي تليها (موت إنكيدو). وبذا فإنّ ملحمة گلگامش «هو الذي رأى المنبع»، لا تركن إلى أسلوب واحد، أو تقسيمٍ واحد، من دون أن يعني هذا بالضرورة أنّ الأهميّة تتعاظم بتزايد طول القصة، ولكن لعلّ الأقرب إلى الصحّة هو أنّ التّكثيف يتزايد بتناقص الطول، وإنْ كان التّكثيف هو الملمح الأبرز عمومًا فحتّى أطول القصص: صراع گلگامش وخمبابا، ورحلة گلگامش إلى أوتانپشته، تتّسم – مثل الملحمة كلّها – بتكثيف كبير.
ننتقل في القصة الجديدة إلى صراعٍ مباشرٍ بين الآلهة والبشر، لا كما كانت عليه الحال في القصة السابقة حين كان الصراع بين وكيلَيْ الآلهة: الكائن البرّيّ خمبابا والملك شبه الإله گلگامش. وفي الوقت ذاته، ترتبط هذه القصة بسابقتها من حيث كونها فاصلًا بين السّبب والنّتيجة: قتل خمبابا واقتلاع أشجار الأرْز يستلزم عقابًا إلهيًا. ولكنّ العقاب يُؤجَّل هنا لنشهد انتصارًا آخر للبشر على الآلهة، متمثّلًا بقتل ثور السّماء على أيدي گلگامش وإنكيدو. لا نعلم ما إذا كان اللوح السادس إضافةً لاحقةً إلى الملحمة الأصليّة بالضرورة، فالملحمة غير محكومةٍ بترتيبٍ منطقيّ دومًا، إذ تُخَلْخِلُ الزمان والمكان، وتعرض شخوصًا متلاحقةً بإيقاعٍ سريعٍ متوافقٍ مع التّكثيف، بحيث تبدو الملحمة أقرب إلى سباق تتابع بين الآلهة والبشر. ولكنّ المفارقات الساخرة التي تسم أسلوب الراوي دومًا تصل إلى أقصاها هنا حين يُمهّد للقصة بأصداء الانتصار السابق الممتزج بترقّبٍ للعقاب الآتي لا محالة، ويُنهي القصة بانتصار آخر سيكون فاتحةً للعقاب المُنتظَر. مفارقات تلامس حدود التّناقض أحيانًا، أو بالأحرى تكشف عن التّناقضات الخفيّة الكامنة في نفوس الجميع، بحيث لا يكون لأيّ فعلٍ معنى أوحد، بل تكون المعاني حمّالة تناقضات على الدوام، بحيث لا يكتمل الشيء إلا بنقيضه، ويبقى في الوقت ذاته محكومًا بمعنى ناقص بسبب الغموض الذي يُغرِق الملحمة وشخوصها وأفعالهم وهواجسهم.
تبدأ القصة بمفارقةٍ متناقضةٍ ظاهريًا: تعرض عشتار نفسها زوجةً لگلگامش الذي أنهى اغتساله ونفض عنه آثار المعركة السابقة. قد يبدو الفعل متناقضًا لأنّ الذَّكر عادةً هو من يعرض نفسه على الأنثى، ولكنّ المفارقة تزول حين ندرك أنّ الأنثى هنا هي عشتار، إلاهة الحبّ والجنس والخصوبة، وفي الوقت ذاته هي إلاهةٌ للحرب بكلّ آثارها المُرافِقة من دمار وقتل وموت. وهي المُبادرة دومًا في أيّ عرض زواج أو جنس. إيحاءات عرض الزواج هنا ماديّةٌ وجنسيّة بوضوح:
تعال يا گلگامش، فَلْتَكُنْ أنتَ الزّوج
أَهْدِني ثمارك إليّ إهداءً
إيحاءات «الثّمار» هنا واضحةٌ من حيث ارتباطها بالجنس. ويُضاف إليها إيحاءات أخرى في الحوار الطويل بينهما منها ما هو غير مباشر، مثل إغواء عشتار للحصان كرمزٍ للفحولة، ومنها ما هو مباشر حين يَرِدُ ذِكْرُ إِشُلّانو بستانيّ الإله آنو حيث تكون عشتار في أقصى صراحتها: «إشُلّانو، فلنذُقْ طاقتك/ فلتُخْرِجْ يدك وتلمسْ موضع أنوثتي» (مع ملاحظة اختلاف الترجمات، حيث نجد في ترجمة بِنْجَمن فوستر Benjamin Foster: «فلتُخْرِجْ عضوكَ ...»). وبالتّوازي مع الإيحاءات الجنسيّة، سنجد أنّ عرض الزواج ماديٌّ بالمطلق يتّصل بالجسد والسُّلطة والتّكاثر الدنيويّ، مع تركيزٍ على الجانب الزراعيّ، وهو الجانب الأهم الذي يكاد يوازي أهميّة الجنس كعنصر إغواء، بخاصة في حضارةٍ نهريّة زراعيّة:
ليحملوا محصول الجبل والسّهل هديّةَ ولاءٍ لك،
لتلد عنزاتك ثلاثًا ونعجاتك توائم
ليكن حِمْلُ مُهْرِك أكثر من (حِمْلِ) أيّ بغل
ليكن خَبَبُ حصانك بالمركبة جذلًا
لن يكون لثورك في النّير مثيل.
ولكنْ يرفض گلگامش العرض، وذريعته هي أنّه يعرف عشتار (وإن كان گلگامش هنا ينسى نفسه ويناقضها، إذ نراه في اللوح الأول يسعى إلى الجنس من أجل الجنس، الجنس بوصفه إشباع شهوة وقتيّة؛ هل نرى هنا تحوّلًا في شخصيّته؟). ما قيمة العطايا إذا كانت عابرةً موقَّتة؟ «أيّ أزواجكِ بقي إلى الأبد؟» طموح گلگامش بالخلود والاستقرار لا يرتبط بالمعنى السّامي وحسب، من حيث الوصول إلى مرتبة الآلهة والثّراء والسّطوة، بل ينسحب حتّى على المعنى البسيط المرتبط بالتنفّس والعيش: البقاء على قيد الحياة. وهنا تكون المعرفة أقوى من الإغراءات، وندرك هنا مغزى معرفة الماضي الذي لا ينفصل عن الحاضر والمستقبل في متاهة الأزمنة المحكومة بتراتبيّة الآلهة الخالدة. يكرّر گلگامش على مسامع عشتار مصائر أزواجها وعشّاقها الستّة السابقين: الإله تمّوز الذي حُكم عليه العيش في العالم السفليّ وتلازُم ذكراه مع العويل؛ طائر اللَّلُّ الذي ارتبط مصيره بكسر جناحه وصراخه الأبديّ تفجّعًا على ما فقد؛ الأسد المحكوم بالوقوع في الفِخاخ والحفر التي تنصبها عشتار له؛ الحصان (الفحل) الذي سئمت منه عشتار وحكمت عليه بالسّوط والمهماز والخبب المتواصل وتعكير مياهه قبل شربها، وعلى أمّه بالبكاء الدائم عليه؛ الراعي الذي حوّلته عشتار إلى ذئب يطارده الصّبية وتنهشه الكلاب؛ البستانيّ إشُلّانو الذي يبدو مصيره غامضًا بسبب النقص اللاحق باللوح، إذ تشير بعض الترجمات إلى تحوّله إلى قزم وترجمات أخرى إلى تحوّله إلى فزّاعة داخل بستانه. وما يلفت الانتباه هنا هو أنّ عشّاق عشتار السّابقين كلّهم مرتبطون بالطّبيعة بدرجات مختلفة، فهم إما رعاة (الإله تمّوز ضمنًا) أو حيوانات، باستثناء گلگامش الزوج السابع (نتذكّر سحر الرقم سبعة في الحضارات والأديان القديمة عمومًا)؛ والأهم ارتباط مصائرهم بالعويل والتفجّع دومًا. وكأنّها إشارةٌ ضمنيّة إلى أنّ علاقة الكائنات الدنيويّة بالآلهة محكوم عليها بالإخفاق، أو بميلٍ حتميّ إلى كفّة الآلهة التي تنتصر حتمًا (أو انتصار عشتار وحدها على الأقل)، وبأنّ الجنس والخصوبة متلازمان مع الموت والدمار كما تتجسّد في شخصيّة عشتار نفسها.
بعد الرفض لا بدّ من التمرّد. يرى بعض النقّاد أنّ تمرّد عشتار طفوليّ حين لجأت إلى أبيها كي يمنحها ثور السّماء لتنتقم من گلگامش. ولكن – في واقع الأمر – لا طفوليّة هنا، إنْ كانوا يقصدون الخفّة والطّيش، لأنّ تمرّد عشتار مُدمِّر عن قصد حتّى لو بدا للوهلة الأولى غضبًا وليد اللحظة بفعل الرفض فقط. لا تترك عشتار خيارات كثيرة أمام أبيها الإله آنو. هناك خياران فقط: إما أن يمنحها ثور السّماء أو تبعث الموتى وتُطلقهم في الأرض ليلتهموا الأحياء ويختلّ توازن الحياة. ومرة أخرى، قد يبدو خيار ثور السّماء هو الأقل خطرًا، ولكنّنا أمام الأهوال ذاتها وإنْ اختلف إيقاعها. إما أهوال سريعة من خلال حضور الموت الكليّ والحاسم عند بعث الموتى من العالم السفليّ، ليصبح ظاهر الأرض مثل باطنها (فكرة الموتى الأحياء ثيمة دائمة مرعبة مستعادة منذ أقدم الآداب إلى يومنا هذا)، أو أهوال موت بطيئة (أقل سرعة لو شئنا الدقّة) لأنّ نزول ثور السّماء يعني دمار الأرض التي ينزل فيها. وفي حال انتصاره على گلگامش (وهذا هو الخيار الذي كان الأرجح) فإنّ الثور سيواصل تدميره بلا تمييز وبلا توقّف. الخياران يعني الموت الحتميّ. ومن هنا كان اقتراح آنو على عشتار أن تجعل نساء أوروك يهيّئن مؤونة قشّ تكفي سبع سنوات، وفلّاحي أوروك يهيّؤون مؤونة تبن تكفي سبع سنوات. وإنْ كانت هذه الأرقام لا تكفي لتخيُّل الأهوال المترافقة مع نزول ثور السّماء، ستّبادرنا الملحمة بصور مباشرة:
حين وصوله بلاد أوروك
يبست الأشجار، أجمات القصَب، والأهوار.
وَرَدَ النّهرَ، فانخفض مستوى النّهر سبعة أذرع.
وهذا الآثار هي الآثار المباشرة فقط، ولنا أن نتخيّل تضاعفها المرعب في حال انتصاره، إذا كان نخرته الواحدة تفتح حفرةً يقع فيها مئة رجل، ثم حفرة أخرى يقع فيها مئتان، ثمّ نخرة ثالثة تفتح حفرة يقع فيها إنكيدو حتى خصره. هنا نكتشف أنّ حجم إنكيدو (وگلگامش أيضًا بما أنّهما متقاربا الحجم) يبلغ أضعاف حجم الإنسان الطبيعيّ. (تبرق هنا فكرة أخرى بشأن اغتراب إنكيدو لأنّه «مختلف» عمّا حوله. وإنْ كان اختلاف گلگامش مُبرَّرًا لأنّه ابن آلهة، إلا أنّ اختلاف إنكيدو وصمة اغتراب دائمة. هو الآخَر المختلف الذي لا يشبه أحدًا). ولكنّ هذا ليس محور اهتمامنا هنا، بل سنركّز على ردّة فعل إنكيدو حيال هذا الوحش الآخر: نشهد هنا صراع إنكيدو الثالث بعد صراعه مع گلگامش وخمبابا. على عكس ما حدث في حالة خمبابا، لا نجد أدنى تردّد لدى إنكيدو. وهنا لا بدّ من السؤال المتكرّر دومًا بغية فهم شخصيّة إنكيدو: ما سرّ اندفاعه؟ ثمة أسباب عديدة، أبسطها هي غريزة الدفاع عن النفس ضد هذا الوحش القاتل. وثمة أسباب أخرى يمكن استنتاجها إذا افترضنا وجود صراعٍ بين البريّ (إنكيدو ابن الطبيعة) والإلهيّ (ثور السّماء صنيعة الآلهة). ما من أسباب تدعو إلى التردّد أو التفكير كما كانت عليه الحال مع خمبابا. ما من قواسم مشتركة بين إنكيدو والثور، فهذا الثور سماويّ (على الأرجح أنّه «توروس» Taurus أي برج الثور، كما يشير أندرو جورج Andrew George)؛ وهو ثور يدمّر الطبيعة كليًا: يُنقِص منسوب النّهر ويحرق النباتات. لذا بادر إنكيدو بالهجوم مباشرةً، ولا نرى گلگامش هنا حتى الآن.
يهجم إنكيدو على الثور بلا مساعدة أحد، ربّما ليحاول قياس قوّة الخصم، ليدرك أنّه يفوقه قوة ولا سبيل لهزيمته منفردًا، فينادي گلگامش الذي يُفترَض أنّه المعنيّ بهذا الهجوم أساسًا، فهو خصم عشتار، وهو ملك أوروك وحاميها. يعاتب إنكيدو صديقه ويقرّعه حين يذكّره أنّهما المسؤولان عن حماية الناس هنا ولا بدّ من تعاونهما لقتل الثور. يستدير إنكيدو ليمسك الثور من ذيله ويثبّت ساقيه تاركًا لگلگامش المهمّة الأسهل: نحر الثور. فينجحان معًا في قتل الثور وتخليص الناس منه. إذن كان إنكيدو هو المبادر بالهجوم، وهو من قاتل جولته الأولى منفردًا، وهو من أمسك بالثّور وثبّت فخذيه وشلّ حركته في الجولة الثانية، ولم يبق على گلگامش إلا غرز سكّينه «بين قاعدة القرنين والمنحر» كما أشار عليه إنكيدو. وحينما بدأت عشتار بالتفجّع وتصويب لعناتها على گلگامش كان إنكيدو وحده مَنْ ردّ عليها ورماها بفخذ الثور مهدّدًا إياها بالقتل كما فعل بالثور. لمن ستكون هتافات المجد التي أطلقها أهل أوروك؟ لگلگامش وحده. ولمن ستكون الجائزة التي هي قرنا الثور اللازورديّان الضخمان؟ لگلگامش وحده. ولمن سيكون إهداء هذا النّصر؟ للإله شمش (وهذا طبيعيّ بما أنّه حامي گلگامش) وللملك-الإله لوگلپاندا زوج الإلاهة ننسون وأبو گلگامش.
في الجزء الأخير من اللوح السادس الذي يروي قصة صراع گلگامش وإنكيدو مع ثور السّماء لا نجد تغييرًا كبيرًا في مسار الأحداث، باستثناء استعادة گلگامش ثقة أهل أوروك به بعد أن كان هو الطاغية في اللوحين الأول والثاني. تحوّل الطاغية إلى مخلّص، وبات يستحقّ الآن هتافات المجد، ليصبح للسؤالين: «مَنْ هو الأحسن بين الشبّان؟/ مَنْ هو الأفخر بين الرّجال؟» إجابة وحيدة: «گلگامش». أما الغريب الدائم إنكيدو فبقي غريبًا دخيلًا على هذه المدينة التي أنقذها مرّتين: أولاهما حين تحدّى طغيان گلگامش، وثانيتهما حين قتل ثور السّماء الذي كاد يدمّر المدينة وأهلها. انتهت المعركة وعلّقَ گلگامش غنيمته (قرنا الثّور) في غرفة نومه. حلَّ الليل وعاد الهدوء إلى المدينة كما كانت عليه الحال في بداية اللوح. بينما لم يظفر إنكيدو بأيّ شيء ماديّ أو معنويّ، لا غنيمة ولا تهليل لهذا الغريب. شارك في الحفل الذي أقامه الملك، ثم خلد إلى النوم، من دون أن يأخذ شيئًا من أوروك. رضي إنكيدو بدور البريّ الغريب الذي لم يبق له شيء في هذه المدينة إلا مياه نهر الفرات التي غسلتْ آثار معاركه، قبل أن ينام ويرى حلمه الأخير.
المراجع
الاقتباسات مأخوذة من ترجمة نائل حنّون في الغالب، مع بعض التعديلات بالمقارنة مع ترجمة أندرو جورج الأكمل، وعلى نحو أقل مع ترجمة بنجمن فوستر.
نائل حنّون، ملحمة جلجامش: ترجمة النص المسماريّ مع قصّة موت جلجامش، دمشق: دار الخريف، 2006.
Andrew R. George, The Babylonian Gilgamesh Epic (2 Vols.), Oxford: Oxford University Press, 2003.
Benjamin R. Foster, The Epic of Gilgamesh, London: W. W. Norton & Co., 2001.